Radio Islam - Ahmed Rami - راديو إسلام أحمد رامي - Morocco - Maroc -HOME -  Hweidi - Houeidi - Houidi - Sadat - Islambuli - Islambouli
عندما تسود الخيانة و يعم الفساد و تكم الأفواه
 لا يبقى الا ما فعله خالد الاسلامبولي و رفاقه ...

فهمي هويدي


مـــا الـــعـــمـــل؟
 مقالات للكاتب فهمي هويدي
عرفته الصحافة العربية كاتباً ومفكراً يحمل هموم الأمة الإسلامية والعربية، واستطاع بقلمه أن ينفذ عبر كل العصور
 محللاً ومفكراً له آرائه الصادقة المعبرة عن نبض الأمة دون خوف أو انكسار،إنه الكاتب والمفكر فهمي هويدي

الحل الاسلامي؟
"العلمانية" الغبية
صهينة الكلام!
ما العمل؟
 الموضوع الفلسطيني أولوية الأولويات
نقطة نظام
يسألونك عن الجدار
المسكوت عنه في فلسطين
سجل الإبادة المسكوت عليه
أن نبقى بلا أمل أو ذاكرة
 ثقافة الاستسلام
أين قدرة العرب علىالاحتجاج والغضب ؟
لماذا أصبحنا غير جديرين بالاحترام ؟
كبـوة "الإمـام الأكبـر"
الراسبون في المشهد العربي

إسرائيل على ضفاف الفرات
أزمة المرجعية
نحن و الحرب الإعلامية
لا للتطبيع الثقافيوالإعلامي مع اليهود
قيادات العدو يجب أن تقاطع إعلاميا
أنياب "الديمقراطية" اليهودية
الارهاب الاعلامي الفكري اليهودي
كيف نطالب باحترام تاريخنا‏؟
القطرية تعصف بالعالم العربي

تطورات خليجية تطرق أبواب التاريخ

الاتجاه التهويدي في منع مقالات فهمي هويدي!
هل ينجح مخطط استئصال مسلمي الهند‏‏؟
هزيمة مستقبلنا بتغريب الأجيال الجديدة
الحسن الثاني باع القضية لليهود
نصوص قرآنيةً"متهمة"يهوديا "بالإرهاب"
السؤال الغائب أو المغيب: لماذا؟
هل كراهية الغرب من إيمان المسلم؟
الحرية قبل الديموقراطية وليس بعدها
الحديث عن الإصلاح دون ممارسته
انتهى عصر الوصاية على الناس
جماعة طالبان: ظالمون أم مظلمون‏؟
طالبان نموذج الخلل في الأولويات
عبدة الشيطان ضحايا أم مجرمين؟
مخاطبة أحفاد المجاهدين بالفرنسية‏؟
نداء إلى مسلمي الغرب باحترام القوانين
انفجار الغضب أمر طبيعي
عن "الإرهاب" والديمقراطية
الحل يبدأ من من مصر
الذين يبدأون بالانحناء ينتهون بالأنبطاح
شكوك حول تفجيرفتنة دارفور وتدويلها
خطاب عمدة لندن جاء كاشفا وفاضحا!  

إطلالة على إيران
 حوار على الهواء مع القذافي
حوارمع هويدي حول قضايا الأمةالإسلامية
من العدو: إيران أم إسرائيل؟

تعقيب
Comments about Mr. Howiedi´s book
SILENCE IN THE FACE OF INJUSTICE IS A CRIME
Entretien avec le penseur islamiste Fahmi Howeidi

أربعون مقال إضافي لفهمي هويدي عن كارثتنا الكبرى

  كيف يكون الحل الاسلامي؟

عندما عزلنا الدين عن الحياة، بدت عبارة الحل الاسلامي غريبة على الأسماع
 والأفئدة. وعندما صرفنا همّ المتدينين إلى عمارة الآخرة، وأغرقناهم في عالم الغيب، فإنهم هجروا عمارة الدنيا، وسقطوا ـ من ثم ـ في عالم الشهادة. ومنذ صار الخطاب الديني موعظة وتنويعاً على النصوص من قرآن وسنة، بات مثيراً لدهشة البعض أن يتحدث الاسلاميون عن التنمية والدعم والمشكلات الحياتية الملحة. إذ يحث هؤلاء عن (نص) يفصل في مسألة بقاء الدعم إلغائه، أو عن إشارة في مصنفات الأقدمين إلى موضوع التنمية، فلما لم يجدوا، احتاروا وتكدروا، وأكثرهم أنكروا!.
هكذا بدا الحل الاسلامي عنواناً سهل الإلقاء والتداول، ممتنعاً عن الفهم والتناول. وصار مهماً وحيوياً، في هذه المرحلة بالذات، أن يفسر العنوان، وأن يجري الحوار حول كيف يكون ذلك الحل، وإلى أين يقودنا؟.. ولئن جرى مثل هذا الحوار في مناسبات عدة، بالأخص عندما أثير موضوع تطبيق الشريعة، وكان لنا إسهام متواضع فيه، إلا أن دائرة التساؤل حول موضوع الحل الاسلامي باتت أوسع بكثير هذه المرة. خصوصاً بعدما حمله الاسلاميون على أكتافهم أثناء المعركة الانتخابية، حتى كان ما كان من صخب وضجيج واعتراض، لا يزال صداه قائماً إلى الآن.
ولسنا بسبيل توجيه الخطاب هنا إلى الناقمين والكائدين، الذين تقف كلمة الاسلامي في حلوقهم، ويصليهم حديثه بالغصة والمرارة والحساسية الزائدة، لكنا نوجه الخطاب إلى من يريد أن يفهم أو يحاورن وإلى من التبس عليه الأمر أو استبدت به الحيرة. ولئن بدا أن الأولين هم أصحاب الصوت العالي، أو المتصدرين لمختلف المنابر، إلا أن الأخيرين هم الأغلبية الساحقة من الناس، الذين ترطب كلمة الاسلام قلوبهم، وتستثير فيهم مدد الخير والعطاء والتأييد، برغم كل حيرة وأي التباس:
نحن معهم في طرح السؤالين: كيف وإلى أين، ليس فقط لأن من حقهم أن يتعرفوا على تصور الاسلاميين للحل الذي يعرضونه، صيغته وحدوده ومجالاته ومنتهاه، ولكن أيضاً لأن الراية الاسلامية حملها آخرون وروجوا لها، ثم أساؤوا إلى دينهم وإلى شعوبهم، فضلاً عن أن هناك تطبيقات وحلولاً إسلامية مطروح في الساحة الآن، ومن حق الناس أن يسألوا عما إذا كان الحل المأمول ينتسب إلى الحل المعمول، وما درجة القرابة أو وجه الشبه بينهما؟!
سنحاول هنا أن نجيب على السؤال: كيف؟ مستهلين الإجابة بإيضاحات ستة هي:
ـ أولاً: أنه ليس هناك شيء واحد اسمه الحل الاسلامي، ولكن هناك حلولاً عديدة تنبع من رؤية الاسلام وتصوره للكون والحياة. وبالتالي فإن الحدود تتعدد بتعدد المشاكل بمعنى أن رؤية الاسلام وموقفه هما العنصر الجامع، أما الحلول المرتكز على هذه الرؤية والنابعة منها فهي غير متناهية، لأن وقائع الحياة غير متناهية بطبيعة الحال.
ـ ثانياً: أن الحل الاسلامي لا يشترط فيه أن يكون مذكوراً في الكتاب والسنة أو في مدونات الفقه وكتب السلف، لكنه يكتسب صفته تلك إذا لم يتعارض مع نص أو قيمة اسلامية، وإذا كان يحقق مصلحة مرجوة لمجتمع المسلمين. في هذا الصدد نستحضر حواراً ذكره ابن القيم في أعلام الموقعين بين ابن عقيل وعدد آخر من الفقهاء، حول السياسة الشرعية. إذ قال أحد الفقهاء أنه لا سياسة إلا ما وافق الشرع. فقال ابن عقيل: السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول (ص) ولا نزل به وحي. ثم أضاف: فإن أردت بقولك لا سياسة إلا ما وافق الشرع، أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح. وإن أردت ما نطق به الشرع. فغلط وتغليط للصحابة.
وقد انحاز ابن القيم لرأي ابن عقيل، وانتقد من قال إن السياسة هي فقط ما نطق بها الشرع، حتى اتهمهم بأنهم ضيعوا حقوق الناس وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد. وقال قولته الشهيرة: إن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض. فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلة العقل، وأسفر صبحه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه
ورضاه وأمره. والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأماراته في نوع واحد، وأبطل غيره من الطرق التي هي أقوى منه وأدل وأظهر.. فأي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها. (أعلام الموقعين ج 4 ص 372)
ـ ثالثاً: أنه على تعدد الحلول الاسلامية لمختلف المشكلات، إلا أن هذه الحلول ليست لها صفة الثبات، وإنما هي متغيرة بتغير الأزمنة والأمكنة والعوائد والأحوال. وهذا المبدأ مستقر عند فقهاء الأصول. ومعروفة قصة الإمام الشافعي الذي غير من مذهبه عندما انتقل من العراق واستقر في مصر، حيث اختلفت الأحوال والعوائد، فكان طبيعياً أن تختلف الاجتهادات والأحكام. وغنى عن البيان أن حديث المتغيرات منصرف إلى المعاملات دون العبادات، التي تتسم بالثبات والأصل فيها هو الاتباع، في حين أن الأصل في الأولى هو الابتداع، كما قال بعض الفقهاء.
ـ رابعاً: أن اختلاف الحل الاسلامي عن غيره ليس مطلوباً وليس ضرورياً. إذ ليس مفترضاً أن يكون الحل الاسلامي أمراً فريداً في بابه، ليس مسبوقاً ولا ملحوقاً. فالاسلام جزء من تيار البشرية، والمسلمون ناس من الناس. وإذ حدث واتفقت القيم أو المصالح بين المسلمين وغيرهم، واتفقت الحلول النابعة من تلك القيم أو المنجزة لتلك المصالح، فذلك مما لا ينبغي أن يثير اعتراض المسلمين أو حفيظتهم. إذ الأمر الجامع هو إنجاز مصالح الخلق، حتى قال فقهاء عديدون ـ العز بن عبدالسلام وابن القيم والشاطبي في مقدمتهم ـ بأن كل ما يحقق المصلحة ويقيم العدل والقسط، فهو من السياسة الشرعية يقيناً.
يتصل بذلك أن استبدال الحلول التي لا تصدر نصاً ولا تخدش قيمة اسلامية، يظل أيضاً من حسن السياسة الشرعية، التي تتقصى الحكمة حيث كانت، لتوظفها في خدمة مصلحة الأمة.
ـ خامساً: أنه إذا لم يكن ضرورياً أن يختلف كل حل لأي مشكلة في الواقع الاسلامي عن غيره من الحلول، وإذا كان تماثل الحلول وارداً عند المسلمين وعند غيرهم، فإنه يظل هناك هامش للتميز ينبغي أن يكون ماثلاً في الأذهان، لا يقوم على طبيعة الحل، ولكنه يقوم أساساً على وظيفته ومنتهاه. إذ تقوم فلسفة الحل الاسلامي على ركائز عدة، منها أن الانسان خليفة الله في أرضه، أي أنه يؤدي رسالة في إعمار الكون، يتعبد بها لله سبحانه وتعالى، وإذا كان لها مردودها المقصود في الدنيا، فلها مردودها المرصود في الآخرة.
أياً كان منبع الحل أو مضمونه وعلى فرض تطابق القيم التي ينطلق منها أو يخدمها ذلك الحل، فإن (المصب) في التصور الاسلامي يظل مختلفاً غاية الاختلاف. بمعنى أن الحل الاسلامي تدور فيه الجزئيات حول محور الرسالة وخلافة الله في الأرض المنوطة بالانسان. بحيث تصبح الحركة جزءاً من نظام كلي يقوم على الوصل، بين الدنيا والآخرة، وبين الأرض والسماء، وبين الانسان والله.
ـ سادساً وأخيراً: أن الحل الاسلامي ليس موجهاً إلى السلطة ومؤسساتها وحدها، ولكنه موجه أيضاً إلى كافة المكلفين في مجتمع المسلمين. أعني أن الالتزام بتعاليم الاسلام وقيمه والسير على النهج الذي رسمه الله سبحانه وتعالى للناس وبلغه عنه رسوله. ينتظم كافة المسلمين، بقدر ما ينظم مختلف شؤونهم. وإذا كان لنا أن نرتب الأمر حسب أولوياته، فقد نقول إن التزام المسلمين كأفراد بالحل الاسلامي، هو نقطة البدء وهو الأساس في إقامة ذلك الحل على صعيد الدولة أو الأمة.
وربما جاز لنا أن نعرف الحل الاسلامي ـ من الناحية النظرية ـ بأنه ((تدبير شؤون الخلق وفقاً لتعاليم الاسلام، أو استلهاماً لقيمه، بما يحقق المصالح والمقاصد المعتبر في الدنيا والآخرة)).
وعلى صعيد الواقع، فإننا نجد أكثر من صيغة لتصور الحل الاسلامي. والتعدد أو التفاوت هنا ناشئ عن اختلاف درجة الاستيعاب وزاوية الرؤية، وطبيعة التحدي الظاهر الذي تستدعي الشريعة لصده ومواجهته. وفي هذا الإطار، فقد نزعم أن هناك تصورات خمسة للحل الاسلامي، نوجزها فيما يلي:
ـ مستوى حضاري، يتعامل مع الحل الاسلامي بحسبانه الصيغة الوحيدة التي تكفل للأمة استقلالها في وعاء حضاري متميز، يثبت خصوصية الأمة ويرد إليها ذاتها واعتبارها، ويعتقها من أسار الانسحاق والتقليد. ونحن نجد في دعوة السيد جمال الدين الأفغاني إلى الثورة والتمرد على سلطان الآخر، صدى لهذه الفكرة. غير أن المفكر الجزائري مالك بن نبي يعد أبرز رواد هذا التيار، الذي بدأ يتبلور في ستينيات وسبعينيات القرن الحالي (مرحلة الاستقلال الوطني). وتعكس كتاباته اهتماماً واضحاً بقضية الخلاص من التبعية وانشغالاً دائماً بمسألة البعث الحضاري. وهو ما نلمسه في كتب مثل: شروط النهضة، مشكلة الثقافة، بين الرشاد والتيه، في مهب المعركة.
وقد أصبحت هذه الدعوة تستوعب عدداً لا بأس به من مثقفينا حتى نلمح لها بصمات واضحة في كتابات عدد من الباحثين المصريين اللامعين، من أمثال طارق البشري والدكتور محمد عمارة وعادل حسين. ومن أحدث ما ظهر في مصر من أبحاث في هذا الصدد كتاب الدكتور سيد دسوقي حسن (أستاذ الهندسة)، الذي صدر أخيراً بعنوان: مقدمات في البحث الحضاري.
وربما كانت إحدى ميزات هذا الطرح الحضاري للحل الاسلامي أنه يمكن أن يشكل نقطة التقاء بين المسلمين والمسيحيين، بحيث يتعامل معه المسلمون من منطلق عقيدي، ويتعامل معه غير المسلمين من منطلق ثقافي وسياسي. الأمر الذي دفع باحثاً مسيحياً كبيراً مثل الدكتور أنور عبدالملك إلى أن يعلن انحيازه إليه.
ـ مستوى (أصولي) يرى في الحل الاسلامي إحياء لحقيقة الدين، واستدعاء للتعاليم لتحتل مكانها الحاكم في المجتمع، بحيث تظلل علاقات الناس بالله، وعلاقات الناس بالناس. الأمر الذي يؤذن برفع الحصار المضروب على الدين لإبقائه محبوساً في المساجد والموالد. وإطلاق سراحه ليؤدي دوره الفاعل في حاضر الناس ومستقبلهم. بحيث يتجاوز التدين حدود العلاقة القلبية بالله سبحانه وتعالى، إلى محيط الواقع المعيش، فيترجم إلى مواقف وسلوكيات ونظم تضبط إيقاع الحياة، وقيم تتسيد مختلف الأنشطة الانسانية.
وكتابات الأستاد حسن البنا، ومدرسة الإخوان المسلمين بعامة، هي التي تبنت هذا الطرح للحل الاسلامي، منذ تأسيسها في سنة 1928. وإن كنا لا نستطيع أن نفصل هذه المدرسة عن محاولات الإحياء الديني التي شهدتها مصر منذ بداية القرن، على يد محمد عبده وتلاميذه الذين يقف رشيد رضا في مقدمتهم، إلا أنه يحسب لمدرسة الإخوان أنها نقلت دعوة الإحياء من مجامع المثقفين ومنتدياتهم إلى الشارع. بحيث أصبحت هناك حركة اسلامية تتبنى هذا التصور وتدعو إليه. حتى اصبح هذا التراث الفكري أحد المنابع التي تستمد منه ظاهرة الصحوة الاسلامية الراهنة زادها الأساسي.
ورغم أنه لم يتح لفكر الإخوان أن ينمو، لأسباب يعرفها الجميع، بحيث يصبح أكثر استجابة للتحديات المطروحة في الثمانينيات. وأكثر وضوحاً في مواجهة المشكلات الراهنة، إلا أن الأساس الذي وضعه الأستاذ البنا لا يزال يؤدي دوره الفاعل إلى الآن. وبناء عليه صاغ الدكتور يوسف القرضاوي رؤيته فيما يسميه (تيار الوسطية الاسلامية)، وانطلق الشيخ محمد الغزالي يبشر بفكرة الإحياء الواعي للدين في طول العالم العربي وعرضه، ومضى آخرون ـ بجهود فردية خارج الإطار الحركي للجماعة ـ يدعون إلى رؤى عصرية ومستقبلية للحل الاسلامي، تنطلق من ذات المفهوم الشاملة للتعاليم، نرصد من هؤلاء الدكتور كمال أبو المجد، والدكتور جمال عطية رئيس تحرير مجلة المسلم المعاصر، والدكتور فتحي عثمان الذي نقل نشاطه الفكري إلى خراج مصر منذ عشرين عاماً، والأستاذ عبدالحليم أبو شقة الذي عاد إلى مصر منذ سنوات قليلة، محاولاً بث أفكاره وتجديد الدم في شرايين العمل الاسلامي، من خلال سلسلة مطبوعات بدأ في إصدارها تحت عنوان (آفاق الغد).
عن الحل التشريعي:
ـ مستوى اعتقادي، يرى أن الحل الاسلامي ينبغي أن يرتكز أولاً على سلامة الاعتقاد وأنه لا سبيل ولا مجال الآن لأي حديث عن إقامة نظام أو نظم اسلامية، أو حلول من أي نوع، لأن الاعتقاد ذاته لم يثبت بعد، وبالتالي فإن الأساس الذي ينبني عليه الحل مصاب بالخلل والضعف. وفيما نعلم. فإن الأستاذ سيد قطب هو من طرح هذا الرأي من المعاصرين، وتبنته جماعة الجهاد المصرية فيما بعد، ولا يزال هذا منطلقها الفكري إلى الآن.
في كتب (الظلال)، ومعالم في الطريق، وخصائص التصور الاسلامي، والاسلام ومشكلات الحضارة، يقرر الأستاذ قطب أننا نعيش مجتمعاً جاهلياً، يرفض حاكمية الله تعالى ولا يعترف بمنهجه ضابطاً للحياة، ولا يسلم ولا يفهم معنى (لا إله إلا الله)، ركيزة الإيمان وعموده الفقري. وبالتالي فإن أي طرح لحلول أو اجتهادات إسلامية في ظل هذا الواقع، هو من قبيل العبث أو الهزل. وهو يصف الخائضين في مثل هذه الأمور بعبارة (المخلصين المتعجلين)، ويتهمهم (بالهزيمة الداخلية) لأنهم قبلوا أن يتعاملوا مع الأوضاع الراهنة، في حين ينبغي أن يدعى هذا الواقع إلى الدخول في عقيدة الاسلام أولاً، ورد الحاكمية لله في أمر الناس كله.
ـ مستوى تشريعي، يتصور الحل الاسلامي دعوة للالتزام بالنظم القانونية التي جاء بها الاسلام، سواء في المجالات المدنية أو الجنائية أو الأحوال الشخصية، فضلاً عن الميدان الاقتصادي. أي أنها رؤية فوقية للحل، تعني بإقامة النظام الاسلامي على سطح المجتمع وهيكله الخارجي، وتعتبر الشريعة مرادفاً للقانون، وليس مجموعة النظم التي شرعها الله وأنزلها ليلتزم بها الانسان في مختلف ميادين الحياة، كما يقول الشيخ شلتوت.
وقد لا نبالغ إذا قلنا إن هذا هو المفهوم الأكثر شيوعاً لفكرة الحل الاسلامي، ربما لأنه الأسهل، وربما لأنه يجسد الحل في قوانين تصدرها السلطة التشريعية، ولا يوسع من محيطه ليصبح نظاماً للحياة، تتوزع التكاليف والالتزامات فيه على الأفراد ومختلف المؤسسات التربوية والإعلامية والسياسية والدستورية. وربما كان شيوع هذا المفهوم تعبيراً عن شوق المسلمين إلى إقامة كيان إسلامي ملموس، على أي نحو كان. فالحديث عن تربية إسلامية أو أخلاق وقيم وسلوك قد يصبح شيئاً هلامياً يتعذر الإمساك به، فضلاً عن أنه يؤتى ثماره بعد حين، يطول أو يقصر. أما الحديث عن قوانين ولوائح فإنه ينصب على صيغة يمكن تلمسها، وأمور واضحة المعالم ووقائع محكومة.
ـ مستوى عبادي أو أخلاقي، يتصور الحل الاسلامي صيغة لتوثيق الصلة بالله وحصناً يحمي الأخلاق والفضائل، وسبيلاً إلى مقاومة البدع وتطهير الاعتقاد من الانحرافات ومختلف صور الضلال.
ويتعلق بهذا الحل مختلف الفصائل الاسلامية التي تتعامل مع التدين في حدوده القلبية والمسجدية، إذا جاز الوصف، من أمثال جماعة التبليغ والدعوة، والجمعية الشرعية، والطرق الصوفية، وبعض التيارات السلفية.
ويلتقي على هذا المفهوم الذي يربط بين (الحل) وبين القلب والضمير جماعات العالمانيين الذين ينادون بشعار فصل الدين عن السياسة، ويرفعون لافتة (الدين لله)، ولا تستوعب مداركهم سوى المفهوم الكنسي للتدين، والتاريخ السيئ للسلطة الدينية في أوروبا.
لعلنا لا نبالغ في التقدير إذا قلنا بأن المستويين الأصولي أولاً والحضاري ثانياً، في فهم الحل الاسلامي هما الأقرب إلى التعبير الصحيح عن رسالة الاسلام وروحه، وإن كان تيار (الحل التشريعي) هو الأكبر، وربما تساوي معه في الحجم تيار التصور العبادي والأخلاقي لمفهوم الحل، في حين نحسب أن القائلين بجاهلية المجتمع، الداعين إلى حل عقيدي له أولاً، هم أقلية لا تكاد تذكر في خريطة الواقع الاسلامي المعاصر.
ولا غضاضة في تعدد مفاهيم الحل الاسلامي، ولا ضرر في تنافس تلك الأفكار في الساحة. فقبولنا لمبدأ التعددية في العمل العام، يستتبع قبولاً مماثلاً للتعددية في داخل المحيط الاسلامي ذاته. ومن المفيد، ومن الصحي، أن يعرض كل ما عنده، بضاعته وحجته، ليكون الرأي العام الاسلامي هو الفيصل والحكم في نهاية الأمر.
ويهمنا هنا أن ننبه إلى أن القائلين بالحل الاسلامي التشريعي، يتحدثون عن محتوى حوالي 5% فقط من النصوص القرآنية، ولا يعنون بالقدر الواجب بالنسبة المتبقية، التي تصل إلى 95% من جملة النصوص، ذلك أنه إذا كان مجموع آيات القرآن الكريم في حدود 6236 آية، وإذا كان مجموع آيات المعاملات 250 آية تقريباً، فإن حصر الحل الاسلامي في إطار التشريعات التي تنظم المعاملات يغدو اختزالاً مخلاً لمفهوم الحل، وابتساراً منكوراً للشريعة المنزلة.
يهمنا أيضاً أن نلفت النظر إلى النهج الذي اتبعه النبي عليه الصلاة والسلام في دعوته إلى (الحل) في المجتمع الاسلامي الأول. وهو النهج الذي يقدم الدعوة على الدولة، ويطبق الحل على مرحلتين، أولاهما (مكّبة) امتدت ثلاثة عشر عاماً، وفيها انصب الجهد على تطبيق الاسلام على المستوى الفردي، بتربية الضمير المسلم وتهيئته وإعداده، أي على وضع الأساس القوي للبناء. والمرحلة الثانية (مدنية) استغرقت عشر سنوات، وفيها جرت إقامة الدولة ونزلت التكاليف وشرعت الحدود.
وهو وضع يختلف عن دعوة الداعين في زماننا إلى الدخول في العقيدة من جديد، الذين يتهمون المجتمع بالجاهلية، لأن مرحلة التربية والتطبيق على المستوى الفردي في مكة أخذت مكانها واتباع النبي على الاسلام، أي بعد انتقالهم من الشرك إلى الإيمان. في حين أن دعاة جاهلية المجتمع يردوننا إلى ما قبل الاسلام.
لم يكن ذلك نهجاً نبوياً فقط، ولكنه نهج قرآني في حقيقة الأمر، بحيث أن الآيات التي نزلت في مكة ركزت على التربية والإعداد، بينما كان محور الآيات المدنية هو التطبيق على مستوى الدولة.
ولسنا ندعو إلى إنفاق سنين طالت أم قصرت في تربية المسلمين، لننتقل بعد ذلك إلى تطبيق النظم الاسلامية، لكنا نلح على أهمية إعطاء الأولوية للتربية، على أن يمضي القدر الممكن من التطبيق بالتوازي، وبالتدرج الذي التزم به القرآن في تناول الأمور وتقويم ما هو معوج من أوضاع الخلق. فتطبيق بغير تربية، هو بمثابة إقامة صرح على غير أساس أو نسج ثوب بخيوط العنكبوت!
قد لا يشفى هذا العرض غليل الباحثين عن إجابة السؤال: كيف يكون الحل الاسلامي! فرصد التصورات المتعددة لفهم هذا الحل لا يكفي، لأننا حتى إذا سلمنا بن المفهوم الحضاري للحل أو المفهوم الأصولي هما الأصح والأصدق تعبيراً عن رسالة الاسلام، فإن السؤال يظل وارداً. ومن حق أي أحد أن يعيده علينا قائلاً: إذا وافقنا ـ جدلاً ـ على أن الحل الاسلامي هو سبيلنا إلى الانعتاق من التبعية وإلى التميز الحضاري. أو إذا وافقنا على أن الحل الاسلامي يعني إقامة نظام الحياة على نسق الاسلام ووفقاً لتعاليمه وقيمه، فكيف يكون ذلك؟
ردى على السؤال هو: أن الإجابات تتعدد أيضاً على هذا الشق، ومن المهم أن تحدد الفصائل أو التجمعات التي تتبنى هذا الطرح أو ذاك أولويات العمل ونقطتي البدء والانتهاء. وإذا كان لي أن أحدد موقفاً. فقد أعيد ما سبق أن عرضته في هذا الصدد، وهو أن مدخلنا الأوفق والأسلم للتطبيق الاسلامي هو باب الشورى ـ إعمال التطبيق في المجال السياسي ـ مما يثبت قيم الحرية والديمقراطية، ويهيئ مناخاً مواتياً للتقدم بعد ذلك في أمان.
قلت أيضاً إن أول حجر نزع من أساس الصرح الاسلامي في العصر الأموي تمثل في الشورى، مما أدى إلى خلخلة البناء كله. ومن المهم الآن أن ننتبه إلى خطر هذه الثغرة، فتتجه أولى خطوات التطبيق إلى سدها، لكي يستقيم الأساس ويستعيد عافيته، ويصبح قادراً على أداء الدور المنوط به.


 

   "العلمانية" الغبية

 
من اراد ان يتعرف على المعنى الحقيقى للعلمانية الغبية فليذهب الى تركيا، حيث يفاجأ بان الدولة كلها بساستها ومؤسساتها وقوانينها وجيشها لا هم لها الا شئ واحد هو: يكون الحجاب او لا يكون؟! فاذا لم يكن فالعلمانية بخير، وكذلك الديمقراطية والجمهورية. إما اذا كان، فتلك نهاية التاريخ، وعلى الأمة السلام!

لا يكاد المرء يصدق عينيه واذنيه وهو يتابع اللوثة التى اصابت النخبة التركية حين نشرت الصحف صورة رئيس البرلمان بولند ارينج والى جواره زوجته المحجبة، وهما يتقدمان مودعي رئيس الجمهورية فى سفرته الى براج لحضور قمة حلف الاطلسى مصطحبا زوجته. إذ ظهرت عناوين صحف اليوم التالي صائحة مولولة، وناعية الى الناس نبأ الكارثة التى حلت بالعلمانية حين اطلت تلك الرأس المحجبة فى الوداع الرسمي لرئيس الجمهورية.

ان للخبر وقع الصاعقة، حيث ما خطر ببال النخبة المهيمنة ان يأتى زمان على الجمهورية التركية يظهر فيه الحجاب فى مناسبة رسمية وفى حضور رئيس الجمهورية.كان عنوان صحيفة "حريت" "الحجاب يغطي رأس الدولة التركية"، باعتبار ان رئيس البرلمان هو الذى يتولى مهام رئاسة الدولة بالوكالة، فى غياب الرئيس. اما صحيفة "ملليت" فكان عنوانها: الحجاب فى بروتوكول الدولة، اما التعليقات على الحدث الجلل فقد ركزت على ان هذه هى المرة الاولى فى تاريخ الجمهورية الكمالية (التى تأسست فى عام 1923) التى يظهر فيها الحجاب على رأس امرأة فى مناسبة رسمية، واعتبرته خطرا على العلمانية، ومقدمة للانقلاب على الجمهورية باسرها.

منذ وقعت الواقعة يوم 20/11 وحتى الآن، اى طيلة شهر تقريبا، واللوثة مستمرة، متجلية فى تعليقات يومية حول موضوع الحجاب على صفحات الصحف، وحوارات لا نهاية لها على شاشات التليفزيون بمحطاته وقنواته المختلفة (15 محطة) - ورغم ان استطلاعات الرأى التى اجريت حول الموضوع اسفرت عن ان 70% من افراد الشعب يؤيدون رفع القيود المفروضة من قبل السلطة على الحجاب، الا ان النخبة المهيمنة التى احتكرت صدارة المجتمع تجاهلت تلك الحقيقة ومضت تتجادل حول الخطر الذى يمثله الحجاب، وحول مشروعية حظره، وهل الحظر يستند الى الدستور والى تعاليم مؤسس الجمهورية كمال اتاتورك، ام الى نص القانون او روحه. كان هناك مؤيدون لرفع الحظر، استنادا الى النص على حرية الاعتقاد فى الدستور، والى مبادئ ميثاق حقوق الانسان. فى الوقت ذاته فان صحف الاتجاه الاسلامى اضافت ان اتاتورك لم يمنع الحجاب رغم انه منع ارتداء العمائم الا فى اماكن العبادة فقط.ونشرت بعض تلك الصحف صورا لاتاتورك مع زوجته لطيفة هانم وقد ارتدت حجابا كاملا، مشيرة إلى أن أمه زبيدة هانم كانت محجبة ايضا. اما مؤيدو حظر الحجاب فقد استندوا الى احكام القضاء وتعميمات مؤسسات الدولة وما اطلقوا عليه "تقاليد الجمهورية".

رئيس الجمهورية احمد نجدت سيزر لم يصطحب زوجته فى سفره لاحقه الى المانيا، حتى لا يأتى رئيس البرلمان بزوجته المحجبة فى وداعه، كما تقضى قواعد البروتوكول، ومن ثم تتكرر الازمة ويتضاعف الهياج السياسى والاعلامى فى البلد. وفى اول فرصة - حين زاره وفد من المعلمين- اعلن الرئيس سيزر ان الغاء الحظر على الحجاب فى الاماكن الرسمية والجامعات يعنى التنازل عن المبادئ العلمانية الاساسية للجمهورية، ويتعارض مع احكام المحكمة الدستورية العليا، التى كان يرأسها يوما ما.وهو ذات الموقف الذى عبر عنه القادة العسكريون فى اول اجتماع لمجلس الامن القومى بعد تشكيل الوزارة الجديدة.

 
بعد فوز حزب العدالة والتنمية بالاغلبية فى الانتخابات، فان الجدل فى الاوساط السياسية والاعلامية تجاهل القضايا الحياتية الملحة فى البلاد، وفى مقدمتها الازمة الاقتصادية، وشيوع الفساد ومسائل الحريات العامة، وفتح ملف الحجاب وموقف الحكومة الجديدة منه. ولان زعماء الحزب واكثر اعضاء الحكومة لهم خلفيات اسلامية لا تكاد تتجاوز حدود التدين العادى الذى نعرفه فى بلادنا، فان اركان المؤسسة العلمانية اعتبروا موضوع الحجاب حدا فاصلا بين الولاء للجمهورية والانقلاب عليها، وذهبوا الى ان استمرار الحظر عليه هو المعيار الاول للثقة فى الحكومة وفى جدارتها بالاستمرار.

الذى أثار التساؤل بعد فوز الحزب ان رئيسه الطيب اردوغان زوجته ترتدى الحجاب، وكذلك ابنتاه اللتان لم تستطيعا الالتحاق بالجامعات التركية بسبب حظرها للحجاب، ومن ثم اضطرتا الى مواصلة تعليمهن فى الولايات المتحدة، وهو ما تفعله كثيرات من بنات الاسر التركية.كذلك الحال بالنسبة لنائبه عبدالله جول، واغلب قيادات الحزب.لذلك فانه منذ اليوم الاول لاعلان فوز حزب العدالة بالاغلبية كتبت صحيفة "صباح" متسائلة: هل ستكون زوجة رئيس الوزراء محجبة ؟ وكان السؤال استنكاريا، لانها اردفت تقول: لم يحدث سوى مرة واحدة فى تركيا الحديثة ان تجرأت زوجه مسؤول كبير على الظهور بالحجاب، الذى تعتبره النخبة التركية المقربة من الغرب بمثابة نيل من القيم الحديثة العلمانية. وهو ما لم يلق استحسانا، لان الجيش قام فى نهاية المطاف بطرد زوجها: رئيس الوزراء السابق نجم الدين اربكان.

فى اول مؤتمر صحفى عقد بمقر رئاسة الجمهورية عقب اعلان نتائج الانتخابات، طرح السؤال على الناطق باسم الرئيس سيزر. ولكنه رفض ان يوضح ما اذا كانت مسألة الحجاب ستكون من العناصر الحاسمة فى اختيار رئيس الوزراء الجديد - غير ان الصحف لم تتوقف عن تقليب الموضوع ومناقشته، عبر نشر صور المرشحين وزوجاتهم - واحتدمت تلك المناقشة حين عين عبدالله جول رئيسا للوزراء رغم ان زوجته ترتدى الحجاب.وحين تبين ان زوجات 16 من 24 وزيرا فى الحكومة الجديدة محجبات ايضا. الامر الذى آثار موجة من التعليقات، لا على كفاءة الوزراء وافكارهم ومسئولياتهم، ولكن على ملابس زوجاتهم وحجابهن، والمشكلات البروتوكولية التى يمكن ان تترتب على ذلك الوضع غير المسبوق فى تاريخ الجمهورية.

 
منذ الثمانينيات والجدل مستمر حول موضوع الحجاب فى الدوائر السياسية والاعلامية.فقد صدر قانون بعد انقلاب العسكر عام 81 منع الطالبات المحجبات من دخول الجامعات، لكن بعدما تولى تورجوت اوزال رئاسة الحكومة فى عام 83 نجح نواب حزبه (الوطن الام) فى اصدار قانون يحمى حرية دخول الجامعات.ولكن طعن فى القانون الجديد امام المحكمة الدستورية العليا التى ابطلته وعادت المشكلة الى نقطة الصفر مرة اخرى. وظلت موضع شد وجذب الى ان قام العسكر بانقلابهم الابيض الشهير فى فبراير 1977، مما أدى الى استقالة حكومة نجم الدين اربكان.ونصت قرارات مجلس الامن القومى التى أحدثت ذلك الانقلاب على ضرورة تطبيق "قوانين الثورة" فيما يتعلق بالزى الواجب ارتداؤه.والمقصود هو قانون الزى (يسمونه قانون القيافة) الصادر فى عام 1934، الذى يتطرق الى زى الرجل وليس المرأة.حيث يفرض ارتداء القبة بدلا من الطربوش والبنطلون بدلا من الجبة (فى الدستور الحالى نص بهذا المعنى). وبعد اعلان قرارات المجلس الذى يتحكم فيه رئيس الاركان وقادة اسلحة الجيش، صدر تعميم فى مجلس التعليم العالى بمنع المحجبات من دخول الجامعات. وهو المنع الذى لايزال مستمرا الى الآن.

اشرت توا إلى أنه بسبب ذلك الحظر اضطر عدد غير قليل من الفتيات الى الالتحاق بجامعات اخرى خارج تركيا، بعضهن ذهبن الى بلد مسلم مثل اذربيجان والاخريات توزعن على الدول القريبة نسبيا مثل المجر (الاقل تكلفة) والنمسا والمانيا وهولندا. ولكن العلمانية الكمالية أبت إلا أن تطارد المحجبات حتى اذا درسن فى الخارج.فقد قرر المجلس الاعلى للتعليم ألا يعتمد الشهادات الممنوحة فى الخارج إلا إذا اجرى الطالب او الطالبة اختبار قبول بعد عودته الى بلده.وهو ما وضع امام الطالبات المحجبات عقبة لم تكن فى الحسبان، لأن ذلك الاختبار محظور عليهن الا اذا خلعن الحجاب !



 

   صهينة الكلام!

احذر من " صهينة الكلام " بمعنى نصب مفردات لغة الخطاب العربى على الارضية الاسرائيلية، ومن ثم تكريس الهزيمة على مستوى اللغة، وتوسيع نطاق التآكل المفجع الذى تحدثت عنه فى الاسبوع الماضى، ذلك الذى طال خرائط العرب تارة وقيم زمانهم تارة اخرى، وزحف حتى اصاب بدائه السنتهم فى طور ثالث.
 
استشعرت وخزا حين سمعت قبل حين مصطلح " عسكرة الانتفاضة "، وادهشنى ان مسؤولين فلسطينيين كبارا استخدموه، بقدر ما احزننى ان بعض الكتاب والمثقفين العرب ادرجوه ضمن المصطلحات المعتمدة فى حديثهم عن انشطة المقاومة. ووجدت ان المصطلح بدا يكتسب بمضى الوقت شرعية فى الخطاب الاعلامى موحيا بان ثمة انتفاضة مذمومة، هى تلك التى تستخدم السلاح فى مقاومة الاحتلال، واخرى محمودة هى التى تتنزه عن ذلك وتفضل الوسائل الاخرى المتبعة فى الدول "الديمقراطية" و"المتحضرة ".
امام شيوع المصطلح محملا بذلك المعنى، فاننى وجدت فيه نموذجا "للتلوث اللغوى"، الذى تحدث عنه الشاعر مريد البرغوثى فى المقال الذى نشرته له مجلة "وجهات نظر " (عدد ابريل الماضى)، وخصصه لفضح ما اسماه "لغة الجنرالات القاتلة ". وهى اللغة التى يتم بها اغتيال المعنى واغتيال الحقيقة، من خلال مصطلحات تؤدى ذات الوظيفة التى يقوم بها المسدس كاتم الصوت. ذلك الذى يقتل دون ان يلحظ احد او يحس.
مصطلح " عسكرة الانتفاضة " هو احدى طلقات ذلك المسدس، التى صوبت الى صدر الانتفاضة لاجهاضها، بزعم ان مواجهة المحتل بالسلاح هى عمل مستنكر يتأبى عليه " المتحضرون "، ومن ثم فانه يعد مسلكا مدانا يتعين الاقلاع عنه للحفاظ على " نظافة الانتفاضة " و "الارتقاء" بمستوى المواجهة!
من المفارقات المذهلة ان ادانة مسلك المقاومة تتم على ذلك النحو، فى حين يدرك الجميع ان مسلك الطرف الآخر فى المواجهة يتسم بالوحشية والغطرسة، وانه ما خاطب الفلسطينيىن يوما الا بلغة الابادة، ولايزال قتل الفلسطينيين يمثل سياسة اسرائيلية رسمية معلنة حتى هذه اللحظة. ثم انه لا مجال للمقارنة بين تلك "العسكرة" المنتقدة، وبين الاسلحة الاسرائيلية الفتاكة ومخططات الاستيطان الجهنمية. ثم لا تنس ان تلك العسكرة لم تظهر فى الافق الا بعدما فاض الكيل بالفلسطينيين، حتى ادركوا ان اسرائيل سدت فى وجوههم ابواب الامل فى تحقيق حد ادنى من الانصاف والعدل، وانها انتهزت فرصة التهاء الفلسطينيين والعرب بما سمى " مسيرة السلام "، لكى تكرس الاحتلال والاستيطان. ازاء ذلك فان مخاطبة العدو بلغة السلاح غدت الخيار الوحيد امامهم. وتبين ان هذه اللغة وحدها التى اصابت اسرائيل بالوجع، واذاقت الاسرائيليين بعضا من طعم الالم والخوف الذى يعيش الفلسطينيون فى ظله طيلة نصف قرن.
ولان العمل الفدائى الفلسطينى الذى تجسدت فيه "العسكرة" هو الذى اوصل رسالة الوجع الى اسرائيل، فقد صار هم قادتها، وشاغل الدول الكبرى المساندة لها، هو ابطال مفعول ذلك السلاح وتجريد الفلسطينيين منه، لكى تهدأ اسرائيل بالا وتهنأ باستمرار الاحتلال. وبوسع المرء ان يقدر دوافع الاسرائيليين ومن لف لفهم فى سعيهم الى ذلك. من ثم فلو ان مصطلح "عسكرة الانتفاضة " ورد على لسان اى مسئول ينتسب الى تلك الجبهة لعذرناه وفهمنا موقفه. لكن ما يصدم المرء ويحيره هو لماذا يتبنى اى طرف عربى المصطلح الذى يقف بالكامل على الارضية الاسرائيلية، ولا يخدم الا الاهداف والمخططات الصهيونية.
ان ميثاق الامم المتحدة ينص على حق الشعوب فى مقاومة الاحتلال بكل الوسائل. وازاء موقف كالذى نحن بصدده فان عنوان المقاومة يتسع للعديد من صور النضال تتوزع على قائمة طويلة من الجبهات، السياسية والاعلامية والاقتصادية والعسكرية. ويظل من غرائب الزمن وعجائبه ان يصبح حق المقاومة بكل صورها مكفولا لكل شعوب الدنيا التى تخضع للاحتلال، فى حين يستثنى الفلسطينيون من القاعدة، بحيث يحرم عليهم ما يحل لغيرهم، فيطالبون بالتخلى عن العمل الفدائى بزعم ان تلك " عسكرة " مذمومة!
 
ذلك شكل من اشكال صهينة الكلام لا ريب. حيث المصطلح فى هذه الحالة اطلق على لسان عربى. لكى يلبى حاجة اسرائيلية ملحة، وليس للمصلحة الفلسطينية او العربية فيه ناقة ولا جمل.
من اسف انه ليس المصطلح الوحيد، وانما بين ايدينا قائمة طويلة من المفردات التى تسللت الى لغة الخطاب العربى، فى حين انها تقف كلها على الارض الاسرائيلية. ولا اعرف ان كان ذلك قد حدث على سبيل المصادفة ام لا، لكن ما افهمه ان المصطلحات والمفردات ذات الدلالة التى تتخلل خطابات السياسيين على الاقل، لا تلقى اعتباطا، وانما يتم اختيارها فى العادة بدقة شديدة، بحيث يكون المصطلح محملا برسالة كاملة. وفى احيان كثيرة - خصوصا فى اللقاءات التى تتم على مستوى القمة- تتشاور العواصم المعنية حول ذلك النوع من المصطلحات، ويعمل المستشارون لايام واسابيع للاتفاق حول ما هو مستخدم منها. وقد قرأنا بعد مؤتمر العقبة ان وصف الرئيس الامريكى بوش لاسرائيل بانها " دولة يهودية تنبض بالحياة " لم يكن تعبيرا بلاغيا امتدح به اهم حليف للولايات المتحدة فى المنطقة، ولكنه كان فخا منصوبا اشتغل على صنعه وزير الخارجية الاسرائيلى سيلفان شالوم طيلة اسابيع خلت. واعتبر دسه فى خطاب الرئيس الامريكى انتصارا له. لان التصريح به بمثابة الغاء ضمنى لحق اربعة ملايين فلسطينى موزعين على المنافى منذ عام 48 فى العودة الى بيوتهم التى طردوا منها فضلا عن اضعاف موقف اكثر من مليون فلسطينى آخر يعيشون داخل حدود دولة اسرائيل.
واذ لا نستغرب حدوث ذلك من حليف وراع دائم التبنى للسياسات الاسرائيلية، بما فيها القتل اليومى للفلسطينيين الذى اعتبرته واشنطون من قبيل الدفاع عن النفس، فان استغرابنا سيتضاعف حين نجد سياسيين فلسطينيين وعربا يتحدثون عن " العنف والعنف المضاد " فى فلسطين، ويصنفون ما يجرى بانه "نزاع" فلسطينى اسرائيلى، ويذهبون الى حد اتهام فصائل المقاومة "بالتطرف" تارة و"الارهاب" تارة اخرى. بل وجدنا من ذهب الى ابعد فى الحط من شأن الذين يلتفون حول المقاومة ويساندون حق الشعب الفلسطينى فى الاستقلال والكرامة، بانهم "حربجية!
 


ما العمل؟

أصعب اسئلة الساعة هو السؤال ما العمل؟- ذلك بأن ثمة شعورا عربيا عاما برفض الواقع وانسداد افق المستقبل، الامر الذى يثير رغبة عارمة فى التغيير. لكن الاشكال هنا انه لا التغيير بالعنف صار مقبولا، ولا التغيير السلمى بات ممكنا، وهو ما يوقع كثيرين فى دوامة الحيرة، ويسوغ الالحاح على السؤال الذى لا أملك اجابة شافيه له. (1)

فى زيارة سابقة للجزائر قيل لى ان سيدة عجوزاً قالت ذات مرة لبعض اقاربها الذين شاركوا فى حرب التحرير ان الاحتلال الفرنسى استمر 130 عاما وكانت له نهاية، وهذا الاستقلال الذى اتيتم به متى سينتهى؟

لا اعرف ان كانت المرأة تمزح ام انها كانت تعنى ما تقول،وكلامها كان جادا، والاحتمال الاخير هو عندى اقرب، لان الطبع الجزائرى الذى اعرفه على الاقل، ليس له فى المزاح باع كبير- ايا كان الامر فالرسالة فى كلام العجوز الجزائرية واضحة، ذلك انها لم تجد تغيراً ملحوظا بين هموم الاحتلال وهموم ما بعد الاستقلال. واحسب ان ذلك امر لا تنفرد به تلك السيدة. ولكنه شعور عام سائد فى الكثير من اقطار العالم الثالث، التى خضعت للاحتلال الاجنبى حينا من الدهر. ثم نالت استقلالها بعد ذلك،فوقعت فى قبضة سلطة قاهرة اخرى كانت بمثابة "احتلال وطنى".

شاعت خيبة الامل هذه فى افريقيا قبل اربع سنوات، حتى إن أحد كبار الكتاب الكينيين- الدكتور على مزروعى- كتب مقالا دعا فيه الى العودة لوضع الدول الافريقية تحت الوصاية، لإنقاذ ما يمكن انقاذه من ثرواتها وشعوبها، التى تعرضت للنهب والقمع من جانب النخب التى احتكرت السلطة واستأثرت بالثروة بعد الاستقلال. وهو الاقتراح الذى اثار جدلا واسعا فى حينه، وفتح الباب لتقديم اقتراحات اخرى تحقق الانقاذ المنشود، فاقترح احد الكتاب الامريكيين تأجير القارة للدول الغربية الراغبة. وقال آخر ان عودة الاستعمار للقارة مرة اخرى هو الحل. وكان القاسم المشترك بين تلك المقترحات يتمثل فى اليأس من الحكم الوطنى، والبحث عن بديل من خارج حدود الوطن.

هذا الحوار المدهش، الذى يتجاوز قدرة العقل على التصديق والاستيعاب، له نظير يدور الآن فى العالم العربى للأسف. وقد تابع كثيرون نموذجا له على شاشة قناة "الجزيرة" (برنامج الاتجاه المعاكس- 5/13) حيث وجدنا من دافع عن عودة الاحتلال ورحب "بالخلاص" الذى يأتى على يديه- كما ان الذين يتابعون خطاب جماعات المعارضة العربية لبعض الانظمة الذى تبثه عبر مواقعها على شبكة "الانترنت" يجدون الآن صدى قوياً لذلك الحوار. بل ان البعض لم يعد يسأل هل يجئ المحتل الامريكى ام لا، ولكنهم باتوا يرفعون اصواتهم بالسؤال: متى يجيئون ويخلصونا من عذاباتنا التى لا ترى لها نهاية؟

 
قل ما شئت فى حق الذين يتبنون ذلك الطرح الذى يصدم الحس الوطنى ويهينه، لكنك لن تستطيع ان تنكر امورا ثلاثة، الاول انه يجسد اجواء الانكسار والهزيمة المخيمة على العالم العربى. والثانى ان دعاة الترحيب بالاحتلال ليسوا كلهم عناصر "حزب امريكا" الذين تغلغلوا فى منابر الاعلام العربى، وانما اغلبهم من اليائسين المحبطين، الذين ضاقت بهم السبل، حتى اصبحوا مستعدين للاستعانة "بالشيطان" اذا اتى لهم بالخلاص المنشود. اما الامر الثالث فهو ان الاحتلال نجح فى الاطاحة بنظام جبار ومستبد اذل شعب العراق ومرغ كرامته فى الاوحال لاكثر من ثلاثة عقود. وهو النجاح الذى احيا امل اليائسين، وشجع آخرين على المراهنة عليه فى بلوغ مرادهم. سألتقط الخيط من النقطة الاخيرة، لاعتقادى انها ضللت كثيرين واغوتهم. كما انها صارت ورقة مهمة وحجة قوية فى تزيين الاحتلال وتسويغه. وعديدة هى الكتابات والحوارات التى ارتفع فيها صوت البعض قائلين: هل كان يمكن اسقاط نظام بغداد وتحرير العراقيين من قبضته الوحشية لولا التدخل الامريكى؟
الاجابة على السؤال بالنفى معروفة سلفا. لكن ذلك لا ينهى المناقشة، لانه فى تحرير المشهد يتعين التفرقة بين الاهداف المرحلية والاهداف النهائية، والاهداف الظاهرة والاجندة الخفية. والقياس الذى يطمئن الى نتيجته ليس ذلك الذى يقف عند الاهداف المرحلية او الظاهرة، وانما هو الذى يتحرى الاهداف النهائية والاجندة الخفية. فثمة التقاء لا ينكر فى الهدف المرحلى الذى اسقط النظام البعثى ومن ثم اطلق حريات الناس،لكن السؤال، الاهم هو هل هذا الذى حدث وسيلة وهدف مرحلى، ام هو غاية وهدف اخير. وهل تلك نهاية المطاف ام ان وراء الاكمة ما وراءها؟
حتى أقرب الفكرة فاننى اذكر بان الحملة الفرنسية على مصر فى آخر القرن الثامن عشر اعلنت فى الظاهر انها جاءت لتخلص المصريين من عسف المماليك. وتحدث البعض عن دورها "التنويرى"، استنادا الى ان الفرنسيين ادخلوا المطبعة الى مصر وقتذاك. ورغم ان مسألة عسف المماليك كانت صحيحة، الا انها كانت الذريعة التى احتج بها نابليون فى المنشورات التى وزعها على المصريين، فى حين ان هدفه الحقيقى الذى تحدثت عنه المراجع الفرنسية ذاتها كان توسيع نفوذ بلاده وقطع الطريق على الامبراطورية البريطانية التى كانت قد ثبتت اقدامها فى الهند. وصحيح ايضا ان الفرنسيين جاؤوا بالمطبعة الى مصر، الا ان مسألة التنوير لم تخطر على بالهم، كما انهم لم يفكروا فى استخدامها لصالح اى دور ثقافى او رسالى كما تروج عناصر "حزب فرنسا". اذ الحقيقة انهم جاؤوا بالمطبعة لطباعة منشوراتهم التى خاطبوا من خلالها المصريين، وحين عزموا على الرحيل بعد مضى ثلاث سنوات، فانهم ادركوا ان المطبعة ادت وظيفتها، فأخذوها معهم عند خروجهم.
ما اريد ان اقوله ان اسقاط النظام العراقى كان مجرد هدف مرحلى التقت عنده مصلحة الشعب العراقى مع المصلحة الامريكية، لكن الامر اختلف تماما بمجرد سقوط النظام، ففى حين اعتبره العراقيون غاية تطلعوا اليها، فان الامريكيين تعاملوا مع السقوط باعتباره وسيلة لتحقيق اهداف أبعد، تتعلق بالتطلعات الامبراطورية والاطماع النفطية التى تداخلت معها المصلحة الاسرائيلية.
ولست اتردد فى القول ان ما تحقق من مصالح للعراقيين بسقوط النظام، لا يختلف عن المطبعة التى جاء بها الفرنسيون الى مصر، او الطرق التى مهدوها فى الجزائر، وخطوط السكك الحديدية التى مدها الانجليز فى بعض مستعمراتهم. فتلك امور اريد بها خدمة الاحتلال، وتسهيل انتقال قواته عبر البلاد. واذا ما افادت الناس بصورة او اخرى، فلا ينبغى ان يتم التعامل معها بحسبانها فضائل للاحتلال. وانما من المهم للغاية ان توضع فى اطارها الصحيح بحسبانها "اعراضا جانبية" لم تكن مقصودة ولا مستهدفة، وانما نتجت عن وجود الاحتلال، الذى لم يمانع فى استثمارها ومحاولة التجمل بها، كى يستر عوراته ويصرف الانتباه عن مقاصده الحقيقية واجندته الخفية.
 
حسم مجلس الامن يوم الخميس الماضى 5/22 الجدل السقيم الذى دار فى بعض الدوائر العربية حول ما اذا كان الامريكيون فى العراق محتلين ام محررين. واحرجت الولايات المتحدة ابواقها العربية حين طلبت من مجلس الامن رسميا اعتبارها (ومعها بريطانيا) قوة احتلال فى العراق. الامر الذى وضعنا امام مفارقة مضحكة ومخجلة فى آن. فواشنطن قالت صراحة انها جاءت كقوة احتلال، بينما ابواقها فى بلادنا مازالت تقسم بأغلظ الايمان على انها قوة عتق وتحرير.
وهو مصادفة لا ريب، انه قبل يوم واحد من اعلان تقنين الاحتلال الامريكى للعراق، واسقاط القناع الزائف الذى تم تجميل الغزو به، عممت صحيفة "واشنطن بوست" تحليلا نسف ادعاء الدفاع عن الديمقراطية فى الاداء الامريكى، وهو الامل الذى راهن عليه البعض، وظنوه سبيلا الى الخلاص من معاناتهم فى بعض الدول العربية.
التحليل كتبه توماس كارو تيرز مدير مشروع الديمقراطية وحكم القانون بمؤسسة كارنيجي الامريكية (نشرته الشرق الاوسط فى 5/11). وفيه ركز على ان واشنطن ليست معنية بمسألة الديمقراطية الا بالقدر الذى يخدم سياساتها ومصالحها الامنية. وعلاقاتها الآن وطيدة ومشهودة مع العديد من الدول غير الديمقراطية. وفى حالة النموذج الاستبدادى الفج القائم فى اوزبكستان التى اصبحت حليفاً لامريكا فى وسط آسيا، فان غاية ما فعلته واشنطن انها وجهت انتقادا هادئا خفيفا للوضع السائد هناك (لمجرد ذر الرماد فى العيون) للحفاظ على مصالحها الامنية فى المنطقة، وقد كافأت سنغافورة وسارعت الى توقيع اتفاقية تجارية معها لانها ايدت واشنطن فى غزو العراق. ولكنها تجاهلت تشيلى وادارت لها ظهرها، وهى التى انتظرت طويلا توقيع تلك الاتفاقية معها. ورغم ان تشيلى دولة ديمقراطية. الا ان واشنطن ارادت ان تعاقبها لانها لم تؤيدها فى مجلس الامن. وكافأت واشنطن دولة مثل اندونيسيا وقفت ضد ارادة شعبها وايدت غزو العراق، فى حين انزلت عقوبتها بدولة ديمقراطية مثل تشيلى، لانها احترمت ارادة شعبها ولم تؤيد الغزو. وهى تعلم جيدا ان ثمة تجربة ديمقراطية مهمة فى ذلك البلد الكائن فى اقليم يسوده الاضطراب مثل امريكا اللاتينية، حيث تحتاج الديمقراطية الى سند امريكى واضح.
بشكل مواز فان نائب وزير الدفاع الامريكى بول وولفوفيتز الذى زار أنقرة مؤخرا انتقد الحكومة التركية لعدم مساندتها للولايات المتحدة فى الغزو، وهى التى لم تفعل ذلك الا لانها حكومة ديمقراطية استجابت لضغوط الشعب التركى القوية المعارضة للحرب. ليس ذلك فحسب، وانما اعرب وولفوفيتز عن أسفه لأن العسكريين الاتراك "لم يلعبوا دورا قياديا كان متوقعا منهم فى هذه القضية"- وهى الاشارة التى فهمت بحسبانها تحريضاً وعتابا للعسكر، لانهم لم يقوموا "بالواجب" فى ذلك الطرف. وهو كلام ليس له فى الخبرة التركية الا ترجمة واحدة هى انه دعوة للانقلاب على الديمقراطية.


 

نقطة نظام

عندى طعن من حيث الشكل في تناول مسألة تجديد الخطاب الدينى، التى صارت مضغة في افواه كثيرين، وساحة مستباحة اقتحمها كل من هب ودب. ولم يكن الكلام السقيم على كثرته اسوأ ما قيل في تلك المناسبة. وانما الاسوأ ان نفرا من الغلاة استخدموا منصة التجديد لتسويغ التبديد واحيانا التجديف، الامر الذى يتجاوز الاساءة للدين الى اثارة الفتنة، وإشغال الناس بجدل يصرفهم عن تحديات اكثر جسامة تهدد الامة من كل صوب.
 
منذ اكثر من عام وملف التجديد مفتوح امام الرأي العام. رغم ان المتابعين للشأن الاسلامى يعرفون انه مثار في دوائرهم منذ اكثر من قرن، على الاقل منذ ظهر الافغانى ومحمد عبده في الافق. ولا استبعد ان تكون اجواء ما بعد11 سبتمبر، وما استصحبته من دعوات وضغوط، قد اسهمت في تصعيد الاهتمام بالقضية. طيلة تلك الفترة، ولاسباب احسبها مفهومة، كنت احد المتابعين لما قيل وكتب في الموضوع الذى لا يختلف احد على اهميته. وقد فهمت وقدرت الجهود التى بذلتها في هذا الصدد الجهات المسؤولة ذات الصلة المباشرة بالموضوع، لكنى لم استسغ من البداية انفراط عقد المناقشات الدائرة حوله، واقتحام آخرين لساحتها على نحو كانت فيه "الاستباحة" اوضح ما تكون. آثرت الصمت طيلة تلك الفترة، معتبرا ان اكثر ما قيل بعد انفراط العقد من قبيل الثرثرة واللغو، وان ما تخلله من غلو وشطط لا يعدو ان يكون تنفيسا عما يجيش بصدور دوائر الغاضبين والخصوم، الذين كسدت بضاعتهم الفكرية، واستبدت بهم المرارة، فاهتبلوا الفرصة لكى يطلقوا سهامهم ويصفوا حساباتهم الدفينة. في الوقت ذاته، فقد كان تقديرى ولايزال ان الخوض في مسألة تجديد الخطاب الدينى له شروط، اهمها ان يكون للمشاركين في الحوار "شرعيتهم". والحد الادنى لتلك الشرعية ان يكون هؤلاء على صلة بالموضوع او انتساب له من اى باب. وكان من العبث الذى يرقى الى مستوى العجب ان يتحول غير ذوى الصلة او الصفة، بل ان يصبح المشتبكون مع الخطاب الدينى، متحدثين رئيسيين في امر تجديده. الامر الذى وضعنا بازاء صورة "كاريكاتورية"، يصعب على المرء ان يحملها على محمل الجد. وبلغ العبث مداه حين وجدنا ان المهرجانات التى اقيمت لذلك الغرض استبعد منها المفكرون والباحثون الجادون الذين نذروا انفسهم وكرسوا جهودهم منذ عقود لاجل تأسيس فكر اسلامى مستنير، يخدم التجديد ويدعو اليه، على نحو سنأتى على ذكره بعد قليل. وهو امر بدا باعثا على الدهشة، وكان متعذرا افتراض البراءة فيه. ولازلت ارجو من الذين يرفضون فكرة المؤامرة ان يبحثوا لنا عن تفسير مقنع - غير تآمرى - له!
 
ازاء عدم شرعية اغلب الذين خاضوا في الموضوع، وتهافت ما صدر عن المهرجانات التى نصبت لاجله، لم اجد ما يشجع على الاشتراك في المناقشة، التى ازعم اننى احد الذين يقفون في ساحتها منذ ربع قرن على الاقل. وظل العنصر الحاسم الذى دفعنى الى الانصراف عن تلك المناقشة، اننى كنت ولازلت اؤمن بان هناك قضايا اخرى اكثر إلحاحا ينبغى ان تستأثر بالاهتمام، والا يصرف انتباه الناس عنها. غير ان امرا استثنائيا جد على المشهد، ودفعنى الى تسجيل بعض الانطباعات عنه. وهو امر يحتاج الى ايضاح.
'
عدت من سفرة الى الخارج، لاجد رسالة من الاستاذ محمد فايق الامين العام للمنظمة العربية لحقوق الانسان، مرفقا بها خمس ورقات اطلق عليها كاتبوها اسم "اعلان باريس حول سبل تجديد الخطاب الديني". وفي الرسالة ذكر الاستاذ فايق ما يفيد بأن تلك الورقات صادرة عن لقاء نظمه مركز القاهرة لحقوق الانسان، عقد بالعاصمة الفرنسية في 11 و12 أغسطس الماضي لبحث سبل العملية لتجديد الخطاب الدينى.وان اللقاء تم ترتيبه بالتعاون مع الفيدرالية الدولية لحقوق الانسان، والشبكة الاورومتوسطية لحقوق الانسان، بدعم من الاتحاد الاوروبى.
 
لأول وهلة بدا الامر اشبه بنكتة، اذ وجدت ان فرنسا الكاثوليكية قد احتضنت لقاء لتجديد الخطاب الاسلامى. ومن عباءة ذلك اللقاء اطلت علينا بشارة التجديد في ثنايا "اعلان باريس". لكن وقع النكتة تراجع حين لاحظت ان الاتحاد الاوروبى هو الذى مول اللقاء، وان امر انعقاده رتبته منظمة مصرية ممولة بدورها من الخارج، بالتعاون مع منظمتين اوروبيتين، وهو ما دعانى الى التساؤل على الفور: ما شأن هؤلاء بالموضوع، ومنذ متى كانوا غيورين على الاسلام وحريصين على تجديد خطابه؟ وهل كان يمكن ان يتم اللقاء لولا انه يقف على الارضية الاوروبية ويستجيب لاولويات الاجندة الاوروبية والامريكية؟.
 
اطلعت على نص الاعلان، فلاحظت امورا ثلاثة، اولها انه يكرر الكلام المتهافت الذى رددته مهرجانات اخرى سابقة، ذلك الكلام الذى يدخل من باب الخطاب لكى يعبث بالدين ذاته ويشتبك معه. وثانيها انه ينوه باسماء طائفة من المجددين، الذين دست عليهم اسماء شخصيات مشبوهة، تسجل كتاباتها انكارا للشريعة واجتراء على العقيدة. اما ثالثها فكانت توصية بانها هامة، دعت الى: "تعريف الرأي العام بالعلمانية، وازالة الالتباس الذى لحق بمفهومها، والتأكيد على انها لا تعارض الدين كدين، ولكنها تعارض تسييس الدين".
الادهى من ذلك والامر، اننى حين القيت نظرة على المشاركين في اللقاء «29 شخصا دعوا من8 أقطار عربية»، وجدت ان 85% منهم من غلاة العلمانيين والشيوعيين السابقين (أحدهم اعترض ذات مرة على ذكر اسم الله في مستهل بيان صدر عن مؤتمر عقد في صنعاء، وآخر ألقى محاضرة قبل اشهر معدودة في جامعة برلين الحرة بالمانيا شككت في ان الوحي مصدر القرآن الكريم). وكان هؤلاء هو الذين صاغوا "اعلان باريس"، ولك ان تتصور مضمون بقية ما صدر عنهم من افكار وتوصيات بشأن التجديد الدينى.
حين رأيت الامر بهذه الصورة، ادركت ان الاستباحة جاوزت المدى. ووجدت ان الامر يجب الا يمر دون ان تقال فيه كلمة تنبه الى ما يجرى، وتحذر من مغبة المضي في ذلك الاتجاه.
 
قبل الف عام، حدثنا الامام ابو حامد الغزالى في مؤلفه "احياء علوم الدين" عن فقه المناظرات. وقال ان التعاون على طلب الحق - بعد تحرير موضوعه والاتفاق على مضمونه - له شروط، من بينها تقديم الاهم على المهم، حيث لا معنى للانشغال بفروض الكفايات عن فروض الاعيان (الاولى يؤديها نفر فتسقط عن غيره، والثانية واجب يلزم به كل احد). ومن بينها ان يكون المناظر مجتهدا يفتي برأيه ولا يقلد غيره، حتى اذا ما ظهر الحق في مذهب آخر التزم الحق ولم يلتزم بالمذهب. منها كذلك ان لا يناظر الا في مسألة واقعية او قريبة الوقوع، أي في شأن راهن لا ينساق المتناظرون وراء قضايا افتراضية او غير حالة، الامر الذى يحول المناظرة إلى جدل عقيم.


 يسألونك عن الجدار

لن تستطيع ان تدرك حجم الجريمة فى اقامة الجدار الاسرائيلى الا اذا رأيته بعينيك، حيث يتعذر على الكلمات ان تصف بشاعته. على الاقل فقد كان ذلك انطباعى حين رأيت مجسما له قبل ايام قليلة. وهو ما جعلنى اقتنع بان الكلام حول التفاوض او ما يسمى بخريطة الطريق، هو من قبيل العبث الذى يستهلك الوقت ويشغل العرب بما لا طائل من ورائه، او قل انه مشهد الهزل فى القصة، بينما الجد هناك فى الجدار الوحشى.
 
حين ذهب الشاعر الفلسطينى مريد البرغوثى الى مسقط رأسه فى رام الله بعد ثلاثة عقود من الغياب القسرى، فانه عاد ليخبرنا فى كتابه «رأيت رام الله» بالخبر الاليم : ان كل ما كتب فى الممارسات الاسرائيلية فى الارض المحتلة يقصر عن وصف الحقيقة التى هى بمثابة انقلاب شامل لا يكاد يبقي على شيء مما وعته الذاكرة. واحسب انه ما كان له ان يقرب الينا تلك الحقيقة لولا ان موهبته الشعرية الفذة اسعفته، ومكنته من ان يعالج قصور النثر عند القيام بالمهمة.
اجدنى فى مواجهة ذات الموقف. ذلك ان ما قرأته عن الجدار شيء. وما رأيته فى مجسمه شيء آخر، فالجدار فى التصور العادى حائط اسمنتى قد يكون شاهقا، يفترض فى التصور الاسرائيلى انه يفصل الاسرائيليين عن الفلسطينيين، ويحجب عن الاولين غضب الآخرين. لكنه فى الحقيقة شيء آخر. فهو ليس حائطا فقط، ولا هو فاصل فقط ثم انه ليس سياجا امنيا فقط كما يدعون - كيف؟
نعم، ثمة جدار اسمنتى يصل ارتفاعه فى بعض المناطق الى ثمانية امتار، اى اكثر من ثلاثة طوابق، ذلك بمثابة لقطة واحدة من المشهد اذا جاز التعبير، لاننا بازاء منطقة عازلة بين الاسرائيليين والفلسطينيين بعرض يتراوح بين50 و60 مترا. ويفترض ان تمتد بطول650 كيلو مترا، تم انجاز 150 كيلومترا منها (بدأ تنفيذ الجدار فى23 يونيو عام 2002 ، وكانت الحكومة الاسرائيلية قد اقرته بعد اجتياحها للضفة فى شهر مايو عام 2001).
الجدار ينتصب وسط المنطقة العازلة التى تتوزع على الجانبين الفلسطينى والاسرائيلى. وفى كل جانب بعض التحصينات والترتيبات. تشغل مساحة تتراوح بين 25و30 مترا. هى فى الجانب الفلسطينى كما يلى : ثمة حاجز من الاسلاك الشائكة هى اول ما يصادفه الفلسطينيون. وخلف الحاجز خنادق يصل عمقها الى اربعة امتار. للحيلولة دون مرور اية مركبات، وبعد الخنادق هناك طريق خشنة خصصت لاستخدام دوريات الجيش الاسرائيلى. ويشرف على الطريق سياج من الاسلاك بارتفاع ثلاثة امتار ونصف المتر، مجهزة بجهاز استشعار الكترونى لاكتشاف اى دخيل، وخلف السياج ينتصب الجدار الاسمنتى.
فى الجانب الاسرائيلى من المنطقة العازلة، ثمة تجهيزات اخرى تشغل ذات المساحة تقريبا، فثمة حاجز آخر من الاسلاك الشائكة لكنه هذه المرة مزود بكاميرات استطلاع منتشرة على مسافات متقاربة تعمل على مدار الـ 24 ساعة. وهناك طريق مخصص لدوريات الشرطة الاسرائيلية محاذ للجدار ومواز للطريق الذى تتحرك عليه دوريات الجيش على الجانب الآخر.
بإقامة تلك التجهيزات على الجانبين. تصبح كلمة «جدار» اختزالا خادعا ومعيبا، من حيث انها تُهَون من الامر وتطمس حقيقته. ذلك اننا بصدد منطقة عسكرية عازلة تتجاوز بكثير حدود وايقاع الكلمة، كما ان لها وظيفتها الاخطر والابعد.
 
هذه المنطقة العسكرية العازلة تمتد كثعبان وحشى ضخم يتلوى فوق الارض الفلسطينية، ملتهما القرى والزراعات وممزقا للنسيج الاجتماعى الفلسطينى، لمن شاء حظهم العاثر ان يعترضوا طريقه من اى باب. وليس صحيحا ان المنطقة العازلة تفصل بين فلسطينىي48 وتلك التى احتلت عام 67، لان «الجدار» المزعوم يتغول داخل الضفة الغربية ويؤدى عمليا الى مصادرة10 % من اراضيها فى حالة اكتماله. وحسب تقدير لوزارة الزراعة الفلسطينية نشرته القدس العربى فى 7/14 ففى المرحلة الاولى التى نفذت من الجدار (شملت الـ150 كيلو متر فقط أي حوالى ربع المشروع) تمت مصادرة ما بين160 الى180 الف دونم من الاراضى (الدونم ربع فدان)، تعادل2 % من مساحة الضفة. من جراء امتداد الجدار الى عمق ستة كيلو مترات داخل المناطق المحتلة فى عام 1967علما بأنه فى شمال الضفة اقيم فوق اهم المناطق المروية والحيوية. وقد ترتب على إنجاز المرحلة الاولى ابتلاع 17 قرية فلسطينية وادخالها ضمن «الخط الاخضر»، اى ضمها عمليا الى دولة اسرائيل، كما ضم الاسرائيليون 10 مستوطنات كانت مقامة فوق الاراضى المحتلة عام67 .
من اجل إقامة المنطقة العازلة جرفت قوات الاحتلال ما مساحته 11.500 دونم، وقلعت 83 الف شجرة، وصادرت 30 بئر مياه فى محافظتى قلقيلية وطولكرم، معروفة بطاقتها التصريفية العالية. وهذه الآبار تم حفرها قبل عام 1967 ، وتقع على الحوض الجوفى الغربى، وذلك سيفقد الفلسطينيين اربعة ملايين متر مكعب من المياه، تمثل18 % من حصتهم فى الحوض المنصوص عليها فى اتفاقيات اوسلو. اضافة الى ذلك، فقد ادى انجاز المرحلة الاولى الى تدمير البنية التحتية لقطاع المياه، من مضخات وشبكات الانابيب الخاصة بمياه الشرب والرى الزراعى، مما سيؤدي الى فقدان بعض القرى الفلسطينية لمصادرها المائية بالكامل.
الدكتور عزمى بشارة، العضو العربى فى الكنيست. وصف الجدار بانه تجسيد للوقاحة والقباحة الاسمنتية الاسرائيلية ( الحياة اللندنية -7/3 ) التى داست تحت اقدامها على مصالح ومصائر اكثر من 200 الف فلسطينى. اذ بسبب الجدار تضرر بشكل مباشر67 تجمعا سكنيا فلسطينيا، حيث مس علاقتها مع اراضيها مصادرة او عزلا او تخريبا، منها الـ17 قرية التى فصلت عن اراضيها الزراعية غرب الجدار، ولا يجد اصحابها وسيلة للوصول اليها لفلاحتها. وهناك19 تجمعا سكنيا حشرت فى التواءات الجدار بحيث اصبح سكانها فى حيرة من امرهم ذلك انهم ليسوا ممكنين من الدخول الى اسرائيل او الذهاب الى الضفة. وبالتالى فانهم لم يعودوا يعرفون لاى سلطة يخضعون ناهيك عن انقطاعهم عن مصالحهم وسبل حياتهم.


 اي كلام خارج الموضوع الفلسطيني هوإخلال بمبدأ الاولويات

عن استراتيجية التعذيب والتذويب

 عدتُ من رحلة عمل الى افغانستان محمّلاً بحصيلة وفيرة من المعلومات والانطباعات. لكني حين امضيت يوما كاملا في مطالعة الصحف التي صدرت اثناء الغياب؛ وجدت في العناوين والتقارير الفلسطينية ما يدعو الى القلق ويستوجب الاستنفار؛ على الاقل من خلال دق اجراس التحذير والانتباه. من ثم ادركت ان اي كلام خارج الموضوع الفلسطيني هو بمثابة تمرير لما يجري وإخلال بمبدأ الاولويات. وهو ترف لا نملكه فضلا عن انه يعد تخليا طوعيا عن واجب الوقت. لذلك نحيّتُ كل ما حصّلته في افغانستان جانبا؛ وقررت ان اصطف الى جانب الواقفين على باب ذلك الثغر النازف والدامي.

 

شاءت المقادير ان تبدأ الرحلة وتنتهي بالوجع الفلسطيني. فقد لقيت في مطار القاهرة شابا فلسطينيا يعمل مهندسا بدولة الامارات؛ كان قادما لتوّه من غزة بعدما امضى شهرا هناك عقد خلاله قرانه على احدى قريباته. ولان شركة الطيران الافغانية (ايريانا) فتحت خطا جديدا بين دبي وكابول؛ فقد ركبنا معا طائرة واحدة؛ وظل لأكثر من ثلاث ساعات يحدّثني عما عايشه وشاهده في غزة. من وطأة الاحتلال الى معاناة الناس وعذاباتهم اليومية؛ التي طالت أدقّ التفاصيل في حياتهم. وهو ما ذكّرني بما قرأته ذات يوم في كتاب مريد البرغوثي <<رأيت رام الله>>؛ الذي قال فيه إن احدا لا يستطيع ان يتصور حقا ما يحدث على الارض في فلسطين إلا حين يراه بعينيه؛ لان اي وصف مهما بلغت دقته وبلاغته يعجز عن أن يفي الصورة حقها. خصوصا فيما يتعلق بالتمدد الوحشي للاستيطيان الاسرائيلي والانقلاب الهائل الذي تشهده الخريطة الفلسطينية؛ ويتم بصورة يومية من خلال اعادة رسم الطرق وإحكام المعازل؛ وتحويل فلسطين الى اكبر سجن في التاريخ؛ في داخله يتم خنق الفلسطينيين من خلال كتم انفاسهم وتعريضهم للقتل البطيء.

وخزني الشاب الفلسطيني بسكين حاد حين قال ان الفلسطينيين يشعرون الآن ان الجميع تخلّوا عنهم؛ حتى اصبحوا يقفون وحدهم؛ ولا يرون إلا افقاً مسدوداً ومظلماً. واكثر ما يحزنهم ان عذاباتهم تحولت الى خبر عادي في حياة العرب؛ لا يحرك غيرة او شعورا بالخطر. واذا استثار غضب البعض وحميتهم فان ذلك الغضب سرعان ما يهدأ؛ وينصرف الناس عنه الى شواغلهم الخاصة؛ واحيانا الى العبث واللهو؛ الذي تعبر عنه الفضائيات العربية بصورة مستفزة وصارخة.

أضاف محدثي ان الشيء الوحيد المضيء في الأفق الفلسطيني الآن هو العمليات الاستشهادية؛ التي اصبحت بعض الاصوات العربية يستنكرها ويتحدث عنها باستياء يثير دهشة الشارع الفلسطيني؛ الذي عجز ان يفهم لماذا يغار على الدم الاسرائيلي بأكثر من غيرتهم على شلال الدم الذي يتدفق يوميا على الخارطة الفلسطينية كلها؛ بوتيرة متفاوتة منذخمسين عاما. ولماذا لا يدرك هؤلاء ان الشبان والفتيات الذين يضحون بحياتهم هم جزء من الجسم الفلسطيني الذي يتعرض للذبح يوميا؛ وكل ما يفعلونه هو انهم يمسكون بخناق القاتل ويحاولون منعه من الاجهاز على بقية الجسم؟

قال المهندس العائد من غزة انه يوم عقد قرانه اجتمعت الاسرتان في مجلس خيمت عليه الكآبة واجواء الحزن؛ وتبادل الجميع كلمات مبتورة؛ كانت الابتسامات خلالها تنتزع وترسم على الوجوه لافتعال فرحة سقطت من قاموس الحياة الفلسطينية. ثم انصرف الجميع مع حلول الظلام؛ وكأنهم عائدون من سرادق للعزاء. وشاءت المقادير ان تقع عملية استشهادية في ضحى اليوم التالي؛ فإذا بالدم يسري في العروق والفرحة تعم الجميع؛ حتى ان شباب الحي والعريس معهم خرجوا الى الشوارع؛ وظلوا يرقصون <<الدبكة>> حتى الظهر. لقد ردت اليهم العملية الروح؛ وأحيت في نفوسهم الامل في امكانية نقل الوجع الى العدو والخلاص منه؛ ولو بعد ألف عام.

في يوم العودة من كابول تلقيت اتصالا هاتفيا من غزة؛ من مدير احد مراكز المعلومات هناك؛ الذي نقل الي نفس الصورة؛ واعرب عن استغرابه لحالة اللامبالاة واللهو التي اصبحت تسود العالم العربي؛ ثم قال ان اجتياح غزة واعادة احتلالها بالكامل صار وشيكا؛ وهو واقع لا ريب؛ خصوصا اذا تم شن الحرب الاميركية ضد العراق. وسألني محدثي بنبرة لا تخلو من استياء ودهشة: ألا يدرك العرب ان فلسطين تصلب ويضحى بها؛ على مذبح الاستقلال والأمن والكرامة العربية؛ وان طوفانا سيغرق الجميع اذا لقيت القضية المصير الذي يراد لها الآن؟

 

حين يضع المرء عناوين الاخبار والتقارير التي خرجت من فلسطين خلال الايام العشرة الاخيرة؛ لا بد ان تصدمه النتيجة. اذ تقع عيناه على صورة مكثفة للمشهد؛ لا يكاد يلحظها قارئ الصحيفة الصباحية؛ الذي يرى العنوان الفلسطيني ضمن عناوين اخرى كثيرة؛ ثم يطوي الصحيفة او يلقي بها جانبا؛ ويعود الى انشغاله بأموره الاخرى.

هذه <<الصدمة>> تلقيتها حين اجتمعت أمامي الصحف التي صدرت خلال الرحلة؛ وكانت سبباً في انقطاعي عن احداث العالم الخارجي؛ والعالم العربي ضمنا. ذلك ان الذاهب الى افغانستان ينتقل الى كوكب آخر في حقيقة الامر. كما ينقطع عن احداث العالم الخارجي. والوافد اذا كان محظوظا او من أهل الوجاهة فقد يُتاح له ان يتابع ما يجري في العالم إذا أُعطي في الفندق غرفة مزوّدة بتلفزيون (واذا لم ينقطع التيار الكهربائي بطبيعة الحال!) ولكنني لم اكن من هؤلاء؛ حيث حمدت الله وقنعت بغرفة مزودة بالمياه؛ وتزورها المياه الساخنة زيارة عابرة كل ثلاثة ايام؛ وبسبب من ذلك فقد كنت من ضحايا ذلك الانقطاع عما يجري في الكرة الأرضية طيلة فترة الزيارة؛ اذ بالكاد كنا نعرف ما يجري في كابول؛ في حين يجري التعتيم في الاغلب عما يحدث خارجها؛ خصوصا فيما يتعلق بعمليات القوات الاميركية والاشتباكات المستمرة معها في الجنوب والشرق.

حين وضعت العناوين الفلسطينية جنبا الى جنب وجدت انها ترسم صورة خلاصتها ان الشعب الفلسطيني يتعرض للابادة والتعذيب؛ كما ان القضية برمتها تتعرض للتذويب. وادركت ان ما تنشره الصحف كل صباح هو في حقيقة الامر عرض لإحدى حلقات ذلك المسلسل. فما من يوم إلا وهناك قتلى وقصف وتدمير للبيوت واعتقالات واستيلاء على الاراضي الفلسطينية؛ وتوسيع للمستوطنات؛ وتكثيف من الحواجز؛ واقتحام لمناطق جديدة. هي ليست قصة مكررة؛ لان التكرار يفترض ان تتحدث عن نفس الشيء محكوماً بإطاره المكاني والزمني. اما حين تتكرر الوقائع ذاتها على مسرح مختلف كل يوم؛ وفي اطار مكاني وزماني مغاير؛ فإننا نصبح بصدد شيء مختلف؛ اسمه جريمة مستمرة؛ وربما كان الأدق ان يوصف بأنه مسلسل طويل يفضي الى نتيجة عدمية يدمر فيها كل شيء؛ بحيث لا يبقى على مسرح الحدث سوى اطلال المباني واشلاء البشر.

لا يحتمل المكان ان استعرض العناوين التي أعنيها؛ لكني احسب ان البعض منها يفي بالغرض. من هذا البعض مثلا: احتلال قرية <<بيت ابا>> للمرة الرابعة فلسطين سجن كبير وشعبها ينتظر <<الفورة>> (المقصود فترة السماح التي تعطى لنزلاء السجون لكي يخرجوا من الزنازين لرؤية الشمس والمشي لبعض الوقت في فناء السجن) استشهاد فلسطينيين بقذائف دبابة اسرائيلية قرب نابلس 10 اشخاص ضحية هدم منزل دمره الاسرائيليون الاطفال الاسرى يعانون من التعذيب والاذلال في سجون الاحتلال كارثة صحية: الاطفال الفسطينيون يعانون من <<الانيميا>> وآثار الغازات السامة حواجز اسرائيلية تحاصر مدينة نابلس من الخارج وأخرى تقسمها من الداخل حظر التجول يربك حياة الفلسطينيين و2 مليون ينامون ولا يعرفون على اي إجراء عسكري جديد يصبحون جمعية اسرائيلية لحقوق الانسان تتحدث عن استخدام الجيش الاسرائيلي قذائف محظورة رخص حياة الفلسطينيين ظاهرة واضحة وحوادث قتل الاطفال والابرياء زادت بصورة كبيرة (هآرتس) رئيس الاركان الاسرائيلي: الضربات الاميركية <<الوقائية>> تبرر الاغتيالات بحق الفلسطينيين شارون: اتفاقات اوسلو وترتيبات كامب ديفيد وطابا لم تعد قائمة 15 دبابة اسرائيلية اقتحمت دير البلح ليس في الثلاجة إلا الزعتر والاطفال يتضورون جوعا نقل جريحين الى قلب جنين وقتلهما بدم بارد امام الاهالي اسرائيل استخدمت في غزة قذائف محظورة تطلق آلاف القطع المسمارية لايقاع اكبر عدد من الاصابات والقتلى... وهكذا.

 

ليست هذه حرب؛ لان للحرب قوانين وأعرافا وأخلاقا؛ وليس لشيء من ذلك وجود في المشهد. ولكننا بصدد حالة من الافتراس الهمجي الذي لا يدع وسيلة للاجهاز على الآخر إلا واستخدمها. وكلما استعصت الضحية وقاومت؛ كلما اهتاج القاتل وازداد شراسة وخسة. وما التجويع المتعمّد؛ ومنع الادوية والامصال؛ واذلال الجميع؛ والمرضى في المقدمة منهم؛ عند الحواجز المنتشرة في كل مكان إلا من تجليات تلك الخسة.

وقعت على تقرير تحدث عن الكارثة الصحية في فلسطين؛ ونقل عن الدكتور عبد الجبار الطيبي مدير الرعاية الاولية بوزارة الصحة الفلسطينية قوله ان ما نسبته 45% من الاطفال دون سن الخامسة يعانون من الانيميا؛ وان 55% من السيدات الحوامل يعانين من نفس المرض. واضاف ان ذلك يحدث في الوقت الذي ازدادت فيه حالات نقص الوزن والطول عند الاطفال بنسبة تجاوزت 13%.

ذكر التقرير ان مصدرا طبيا في مستشفى دار الشفاء بمدينة غزة قال ان المستشفى استقبل حالة ولادة غاية في الغرابة؛ حيث وضعت سيدة فلسطينية طفلا غير محدد الجنس؛ وجسده بدون اطراف؛ ويعاني من تشوّهات خلقية في الوجه؛ وقد ولد الجنين في حالة سيئة جدا؛ ولم يتجاوز وزنه كيلو غرام واحد؛ بينما طوله لم يتجاوز 27 سنتيمتراً.

قال المصدر الطبي انه رغم ان هذه الحالة استثنائية إلا ان حالات تشوه المواليد اصبحت ظاهرة في المجتمع الفلسطيني في ظل الانتفاضة؛ وهو ما حدث في السابق حين وقعت انتفاضة عام 1987. وذلك التشوه ناجم عن النقص الحاد في التغذية او نتيجة لاستنشاق الامهات للغازات السامة والمواد الاشعاعية التي تطلقها قوات الاحتلال بين الحين والآخر؛ عن طريق الطائرات التي لا تكف عن التحليق في سماء المدن والقرى الفلسطينية.

تلك مجرد لقطة واحدة من فصل الخسة في سجل الافتراس الاسرائيلي للشعب الفلسطيني؛ واللقطات الأخرى المماثلة تفوق الحصر؛ وكلها تدور حول محور واحد مركب من التعذيب والاذلال وسحق الارادة.

 

في الظلمة الحالكة تلمع أشياء من ذلك القبيل الذي يرد الروح الى القلوب المتعبة والنفوس التي اصبحت عصية على الانكسار. نعم العمليات الاستشهادية تتربع على القمة؛ حيث تكفكف الدمع وتمسح الحزن وتحيي الامل؛ لكن هناك ممارسات اخرى بسيطة تصب في ذات الوعاء. نابلس المحاصرة؛ التي يسكنها 200 ألف نسمة يصر الاسرائيليون على حصارهم وسجنهم؛ ومن ثم خنقهم واذلالهم شهدت محاولات من ذلك القبيل. فبعد اغلاق المدارس او تدميرها؛ اقام بعض الناشطين مدرسة شعبية في احدى ساحات المدينة القديمة؛ اطلقوا عليها <<مدرسة شهداء نابلس>>. في تقرير نشرته صحيفة <<القدس>> اللندنية حول المشروع ذكرت ما يلي: الاطفال يحضرون مبكرا الى الساحة ويبدأون بتجهيز المدرسة التي هي عبارة عن صناديق خضار فارغة يضعون فوقها ألواحا خشبية ويرتبونها بشكل متواز ويقسمونها الى اجزاء حسب صفوفهم؛ ويقفون بانتظام لحين وصول الاستاذ الذي سرعان ما يبدأ بتوزيع الاطفال على مقاعدهم الخشبية كل حسب عمره كي تبدأ الجولة الصباحية من التدريس بحيث تليها جولة اخرى في المساء.

التاسعة صباحا هو موعد الحصة الاولى والتي يبدأ الاطفال بالنشيد وقراءة الفاتحة؛ ومن ثم يبدأ التدريس على مراحل متعددة بعد ان يقوم بعض المتطوعين من لجان البلدة بتوزيع الاقلام والدفاتر على الاطفال؛ وتقوم احدى المؤسسات بتقديم ألواح صغيرة وطباشير يستخدمها الاطفال في الكتابة.

الحضور مكتمل باستثناء مقعد واحد ترك فارغا... انه مقعد الطفل الشهيد عبد الله سمير الشعبي (8 سنوات) الذي سقط في مجزرة نابلس مع باقي افراد عائلته؛ وفاء له ترك زملاؤه مقعده فارغا ووضعوا عليه اكليلا من الزهور.

يحضر الاطفال قبل موعدهم بكثير. تقول أم احمد التي احضرت اطفالها الى المدرسة <<لقد فرحوا كثيرا عندما اخبرناهم بأنهم ذاهبون للمدرسة. لقد مرّ اكثر من اسبوع على بداية العام الدراسي والاطفال لم يذهبوا الى مدارسهم الحقيقية؛ هم يدركون جيدا ان السبب وراء ذلك هو اسرائيل... واذا سألت اصغرهم سيجيبك ان هناك احتلالا يحرمه من التوجه لمدرسته وتلقي العلم>>.

من نماذج الاضاءات ايضا تلك الفكرة التي تبنّتها مؤسسة <<كرامة>> في نابلس؛ بدعم من <<مؤسسة إنقاذ الطفل>> الفلسطينية؛ واختارت ان تسهم في مساعدة الاطفال الفلسطينيين على تجاوز آثار السجن الاسرائيلي. اذ جندت مجموعة من المتطوّعين للترفيه عن الاطفال الذين اصبحوا اسرى للبيوت وضحايا للترويع المستمر. في كل المواقع التي تم بها البرنامج (البلدة القديمة كروم عاشور رأس العين الجبل الشمالي المساكن الشعبية مخيمات عسكر القديم والجديد عسكر البلد قرية بيت ايبا) عقدت 18 ورشة للاطفال أشرف عليها 25 متطوعا من الناشطين العرب والاجانب. ولإنجاح البرنامج الترفيهي قدم الاهالي بيوتهم لتكون ساحة آمنة تنظيم تلك الورشات؛ وشكّل الآباء ساترا لحمايتهم؛ وقدموا كل ما استطاعوا تقديمه لإنجاح المحاولة وجذب المزيد من الاطفال المقهورين إليها؛ وكان ولا يزال شعار البرنامج هو: <<نصرّ ان نحيا>>.

 

اذ يستمر التعذيب والتجويع على ذلك النحو؛ فإن عملية تذويب القضية وإزالة معالم الوطن مستمرة على قدم وساق. وقد جاء الاعلان الأخير لرئيس الوزراء الاسرائيلي بانتهاء اتفاقيات وتفاهمات اوسلو وكامب ديفيد وطابا؛ بمثابة إشهار لتلك العملية. اذ بمقتضى ذلك الالغاء فإن القضية الفلسطينية لم تعد مرتبطة بشيء؛ وإنما اصبحت معلقة في الفراغ بانتظار حدوث <<شيء ما>> في المنطقة؛ الامر الذي لا يستغرب معه ان يشبه رئيس الوزراء الاسرائيلي شارون المرحلة <<بحرب الاستقلال>> في سنة 1948.

ان الشعار المرفوع الآن يدعو الى حل القضية الفلسطينية وايجاد الدولة بشرط واحد هو: تغيير السلطة وخلق سلطة جديدة لا تتعامل بالارهاب وغير فاسدة؛ وديموقراطية. وهو ما ادركت منه الفصائل الفلسطينية المختلفة ان المطلب الحقيقي هو عزل حركة التحرر الوطني الفلسطيني عن اي شكل من اشكال الكيان الفلسطيني المطلوب؛ الامر الذي يعني من الناحية العملية انهيار كل الآمال التي عُقدت على النضال الفلسطيني طيلة الخمسين سنة الاخيرة. وهو ما يعني ايضا تذويب السلطة وتذويب حركة التحرر الفلسطيني وازالة الوطن الفلسطيني من خارطة المنطقة؛ الى جانب استمرار القتل البطيء للفلسطينيين. كل ذلك على مرأى ومسمع من الجميع.
 



المسكوت عنه في فلسطين

تحولت الحواجز الى مذبح للكرامة الفلسطينية، وساحة لتوزيع جرعات المذلة والهوان على الجميع بلا تمييز، فقد قسم الاسرائيليون الضفة الغربية الى 300 منطقة احتلالية تفصل بينها الحواجز، الامر الذى فرض على الفلسطينيين طقوسا خاصة لأن الفلسطيني أصبح مخلوق الله المستباح، فان وقائع إبادته وتدمير حياته وإذلاله، التى تطالعنا بكثافة وبوتيرة يومية منذ أشهر، باتت اخبارا عادية لاتثير الانتباه فضلا عن ان تحرك الشعور. ولئن حدث ذلك فى غمرة انشغال الناس باخبار الحرب التى لم تقع، فما بالك به لو وقعت!
 
يوم الأحد الماضى 2.23 نشرت الصحف خبرا من روما يقول إن الفى شخص نظموا مظاهرة طافت بشوارع المدينة، رفعوا خلالها لافتات طالبت بحماية «كرامة القطط». وقال منظمو المظاهرة من ممثلى جماعات الدفاع عن القطط ان فى المدينة 150 الف قطة شاردة، لايعاملها سكان المدينة بطريقة لائقة، فى حين انها احوج ما تكون الى الرعاية خصوصا فى أجواء الصقيع التى تعيشها اوروبا الآن.
فى اليوم ذاته نشرت الصحف تقريرا من نابلس عن الاجتياح الاسرائيلى لإحياء المدينة القديمة، بما استصحبه من اطلاق عشوائي للنيران وتفجير لستة بيوت، الامر الذى ادى الى تشريد 14 اسرة، وخروج الامهات والاطفال وهم يرتجفون الى الشوارع المغطاة بالثلوج والاوحال. الرجال اختطفوا تحت جنح الظلام الى مكان مجهول وهم مقيدون بالحبال. اما النساء والاطفال، فقد هاموا على وجوههم بحثا عن مكان يؤويهم من البرد والفزع.
حين طويت الصحيفة لاحقتنى فكرة المقارنة بين حظوظ القطط فى روما، وحظوظ الفلسطينيين فى الارض المحتلة . وبدت المفارقة كاشفة ومروعة بين قطط شاردة وجدت من يدافع عن كرامتها وحقها فى الحياة هناك، وبين رجال يساقون الى الموت تحت جنح الظلام، ونسوة واطفال فى فلسطين يواجهون مشكلة التشرد، ولا احد فى العالم يعيرهم التفاتا او يدرك ان لهم كرامة او حقا فى الحياة.
المذهل فى الأمر أن عملية الابادة والتدمير اليومى للبيوت والمرافق والانسان الفلسطينى أصبحت جزءا من نمط الحياة فى الارض المحتلة، حيث كتب على سكانها ان يعانقوا الموت والذل والخراب طوال الوقت. ولان العملية لم تتوقف منذ بدأت الانتفاضة (فى عام ألفين) فان احداثها ووقائعها تحولت فى الخطاب الاعلامى والسياسى الى ارقام. وصرنا ونحن فى الخارج نقرأ ان كذا شهيدا قتلوا وكذا جريحا سقطوا، وكذا بيتا هدمت، ومع اعتياد الناس على تلك الارقام، فان كثيرين أصبحوا يقرأونها كما يقرأون اخبار الصعود والهبوط فى اسهم البورصة. يرفعون حواجبهم اذا ارتفعت قيمتها، ويقلبون شفاههم اذا ما انخفضت. لكن هذا وذاك لا يغير كثيرا من مزاجهم وهم يحتسون قهوة الصباح.
 
فى غزة وحدها هدم الاسرائيليون منذ بدء الانتفاضة حوالى 800 منزل تسكنها 1100 عائلة تضم ستة آلاف شخص، حسب احصاءات وكالة غوث اللاجئين. وهذه المنازل سويت بالارض، ولم يعد فيها حجر فوق حجر. ومذبحة المنازل هذه جديدة فى تعامل الاسرائيليين مع الفلسطينيين، والهدف منها يتراوح بين الانتقام والترويع. فى السابق كانت اسرائيل تهدم بيتا او اثنين كل عدة اشهر، كما ذكرت كارين ابو زيد، احدى موظفات وكالة الغوث. ولكن حين اصابت الانتفاضة اسرائيل بالوجع، خصوصا من خلال العمليات الاستشهادية، فان لوثة اصابت ساستها وعسكرييها الذين اطلقوا عنان الدبابات والجرافات التى اصبحت تهدم البيوت بالعشرات، ولم يكن ذلك مقصورا على غزة وحدها بطبيعة الحال، وانما انطبق بذات القدر على الضفة . وهدم البيت ليس مجرد تقويض لمبنى، ولكنه فى حقيقة الامر تدمير لحياة اسرة كاملة، واعادتها الى نقطة الصفر، بلا مأوى او اثاث او حتى ثياب، الامر الذى ينسف كل ما دبرته ووفرته فى حياتها، ويحول من بقي على قيد الحياة منهم الى مشردين ومتسولين. ناهيك عن كونه جريمة غير انسانية لانظير لها، بمقتضاه تعاقب الاسرة بمختلف اجيالها المكدسة فى البيت، من جراء فعل منسوب الى احد افرادها، وهو فى العادة احد عناصر مقاومة الاحتلال.
ناهض الحلو من ابناء غزة لم يكن من هؤلاء ومع ذلك نسف بيته فى احدى الحملات الاسرائيلية المجنونة على القطاع. بل وقتل ابناه علاء وسعيد مع ابن خالتهم تامر درويش، حين انهار المبنى فوق رؤوسهم، واختلطت اشلاؤهم بالركام كما اختلطت دماؤهم بالوحل الذى غمر المكان.
فى مخيم المغازى بالقطاع، حاصرت القوات الاسرائيلية منزل سلامة بن سعيد، والد الشهيد بهاء، الذى كان قد نجح فى اقتحام احد المستوطنات، واعتقلت ثلاثة من اخوة الشهيد، ثم قامت بتفجير المبنى الذى انهار فوق ام الاولاد كاملة سليمان بن سعيد (65 سنة) - ووقع الحادث فى اعقاب تفجير مبنى آخر فى «بيت لاهيا»، سقط فوق مالكه الذى كان عجوزا فى السبعين من عمره.
فى غزة ايضا جلست عجوز كفيفة فى التسعين من عمرها فوق انقاض منزلها الذى دمر فى حياتها خمس مرات، فى حين قتل الاسرائيليون ابناءها الاربعة واحدا تلو الآخر، لم يبق فى عين العجوز - ام عابد الزريعى - دمع تذرفه، ولا امل فى الدنيا تتعلق به، حتى ارادت ان تدفن مع الانقاض. وحدها الامطار الغزيرة اضطرتها الى مغادرة المكان والاحتماء بجدار نجا من التدمير.
فى قرية «النبى الياس» القريبة من قلقيلية، فوجئ محمد حنون، ابو شادى، بالجرافات الاسرائيلية وهى تنهش اشجار الزيتون التى تعتاش منها اسرته، اذهلته المفاجأة، ولم يصدق ان كل ما زرعته عائلته، وسقط على الارض بغير حراك. وحين نقلوه الى المستشفى قال الاطباء ان جلطة قلبية داهمته فاصابته بفقدان النطق والشلل.
فى مخيم بلاطة بمدينة نابلس اقتحم الاسرائيليون بيت محمد مسيمى لاعتقال ابنه الناشط فى كتائب الاقصى. وحين لم يجدوا الابن، امروا العائلة بمغادرة المبنى، فانصاعوا بطبيعة الحال، ولكنهم حين عادوا إليه بعد حين صدمهم الخراب الذى حل به، فسقط الاب على الارض من هول ما رأى، حيث اصابته نوبة قلبية أودت بحياته.
هذه مجرد نماذج للاحداث اليومية التى اصبحت تقع على هامش عمليات الاجتياح وتجريف الارض والقتل المتعمد، الذى يستهدف الناشطين او القتل العشوائى الذى يراد به الترويع والتركيع.
 
هدم البشر واذلالهم لا يقل خطورة، وربما كان الاخطر، لانه يراكم المرارة والحزن، ويحول الناس بمختلف اعمارهم الى قنابل غضب موقوتة تمشى على الارض. وذلك وجه للمشهد الفلسطينى لايراه كثيرون. لان التقارير الصحفية ووسائل الاعلام تركز على الصفحات المكتوبة بالدم فى السجل الفلسطينى، ولاتتوقف كثيرا عند تلك المكتوبة بالدمع والتى ترسمها الزفرات والشهقات والمرارات.
فى 2002/11/16 قدم التليفزيون الاسرائيلى برنامجا تضمن شهادات لجنود خدموا فى الضفة الغربية، ذكروا ان قادتهم سمحوا لهم بالرهان فيما بينهم على اطلاق النار على الفلسطينيين لمجرد التسلية «وقتل» الوقت، وشهد الجنود بأن عددا من قادتهم امروهم بان ينهالوا بالضرب المبرح على كل ما يصادفونه من الذكور اثناء مداهمة بيوت الفلسطينيين، احدهم قال انه رأى ثلاثة من زملائه فى نابلس اوسعوا ثلاثة شبان فلسطينيين ضربا حتى نزفت الدماء منهم، ثم قاموا برسم شعار لواء «المظليين» الذى ينتمون اليه على الحائط بتلك الدماء النازفة، آخرون من لواء المشاة «هناحل» قالوا انهم قاموا بنتف لحى ثلاثة من الشيوخ الفلسطينيين فى احدى خرائب بلدة دورا شرق مدينة الخليل، شهد بعضهم ايضا بأنهم رأوا زملاءهم وهم يطلقون النار عامدين على الدواب والماشية الفلسطينية، وفى احدى المرات قتلوا 15 رأس ماشية دفعة واحدة، فى البرنامج اقرت الشرطة العسكرية بانها سجلت 250 حالة قام فيها جنود الاحتلال بنهب وسرقة البيوت الفلسطينية اثناء الاقتحام.


سجل الإبادة المسكوت عليه

حين تنكشف أمام الرأي العام الغربي في الظروف الراهنة حقائق اسلحة الدمار الشامل التي تكدسها اسرائيل، فاننا في لحظة كهذه ينبغي الا نكتفي بموقف المتفرجين او المراقبين.. ببساطة لان هذه الاسلحة موجهة ضدنا، ونحن ضحاياها المرشحون. من ثم فنحن بازاء فرصة لا تضيع ولا تعوض، تتيح لنا ان نسلط الضوء على فصل الابادة في السجل الاسرائيلي الوحشي، الذي يحفل بجرائم ضد الانسانية مدفونة ومسكوت عليها منذ نصف قرن.

لا اعرف كم مرة استخدمت مصطلح «اللامعقول» في وصف احداث زمننا العربي، لكنني لا بد أن اسجل ان الكثير مما يجري في هذا الزمن يصدم ابناء جيلنا على الاقل، ويتجاوز قدرتهم على الاستيعاب والفهم. حتى اذا استسلم الواحد منا لانفعالات جهازه العصبي فأغلب الظن انه سيجد نفسه فاغرا فاه طول الوقت. ليس لشدة العجب والمفارقة فيما يشاهده فحسب، ولكن ايضا لان المستجدات تأتي كل حين بما هو اعجب واغرب. وازعم ان الذي حدث في اجتماعات «الشونة» ينتمي الى ذلك الصنف الاخير.
لا مقارنة بين التغطية الاعلامية واسعة النطاق التي حظيت بها اجتماعات المنتدى، وبين الشح او التعتيم الاعلامي الذي كان من نصيب المؤتمر القومي العربي، هذا اذا استثنينا الاعلام اليمني بطبيعة الحال ـ وهي حظوظ افهمها، خصوصا ان المؤتمر القومي يبدو في الاجواء الراهنة وكأنه شيء ينتمي الى الماضي، ويتحدث بلغة تآكلت حتى كادت مفرداتها تسقط في الخطاب العربي المعاصر، ولا غرابة في ذلك، فبيان المؤتمر ركز على المقاومة والصمود وتحرير الارض ومقاطعة اسرائيل والولايات المتحدة، وعن الامة الواحدة، وحلمها في العزة والاستقلال والوحدة، في حين ان حوارات المنتدى مضت في اتجاه معاكس تماما لكل هذه العناوين والمفردات.
بالمقارنة بين خطابي المؤتمرين، بدا وكأن اعضاء المؤتمر القومي الذين اجتمعوا في صنعاء وتجاوز عددهم المائتين. قدموا من مختلف انحاء العالم العربي، بمثابة مجموعة تعتنق فكرا سيا سيا «سلفيا» بينما الذين اجتمعوا على شاطىء البحر الميت كانوا حداثيين بامتياز. من زاوية اخرى فإن الذين اجتمعوا بالاردن «1200 شخص» كانوا يحاولون صياغة مستقبل المنطقة، اما الذين اجتمعوا في صنعاء فإنهم كانوا يحاولون قراءة ذلك المستقبل ويتشبثون بفكرة تصويبه وتصحيح مساره.
اما ما بدا خطيرا ومثيرا للغاية، فهو هوية الحضور في المؤتمرين، اذ في حين كان المشاركون في مؤتمر صنعاء ينتمون الى شريحة المثقفين العرب الاقحاح، الذين قدموا من مشرق الامة ومغربها، حاملين معهم هموم الامة واحلامها، فإن الذين جاءوا الى اجتماعات المنتدى لصناعة التاريخ في بلادنا كانوا خليطا عجيبا من البشر، الذين استقدموا من مختلف اصقاع الارض، وقد زادت فيهم نسبة العجم على العرب، لذلك لم يكن غريبا ان يدور حوارهم حول المسقبل العربي بالرطانة الانجليزية، ولا تسأل عن صلتهم بالهم او الحلم العربيين. اما الادهى من ذلك والامر فإن الجميع وان كانوا قد التقوا على ارض عربية من الناحية الجغرافية، الا ان مناقشاتهم جرت على ارضية سياسية امريكية واسرائيلية، ولذا كان الامريكيون اكبر الوفود عددا واثقلهم وزنا يتلوهم الاسرائيليون.

لم تصدق عيناي الكثير مما قرأته من تقارير عما دار في المنتدى. حتى انني كنت اطوي الصحيفة كل صباح واتمتم: حلم هذا ام علم؟ وحين استعرضت في النهاية القصاصات التي استقطعتها، وجدت انها تمثل مادة خصبة لكتابة عدة حلقات تحت عنوان: صدق او لا تصدق. ولست في ذلك مبالغا، فحين نجد مثلا ان العراق كان ممثلا في اجتماعات المنتدى بموظف امريكي نصبته واشنطن على رأس ذلك البلد العربي الكبير، فإن ذلك مما لم يخطر على قلب بشر يوما ما.
وحين نقرأ الاخبار التي نشرت عن اجتماعات بين شخصيات عربية واسرائيلية، وعن الاختراقات التي احدثتها اسرائيل في الساحة العربية، من خلال مشروعات مشتركة بحثت وترتيبات للتطبيع تم الاتفاق عليها، فإن ذلك مما يصعب تصديقه. خصوصا ان تلك الدول العربية التي تورط ممثلوها في تلك الاتصالات لم تكن مضطرة الى ذلك. ولا تفسر لما
اقدمت عليه الا بحسبانه نوعا من الاستجابة او الاسترضاء للامريكيين، الذين يلحون في كل مناسبة على ادخال اسرائيل في نسيج المنطقة.
لقد قرأت ان مسؤولا خليجيا كبيرا بدرجة ولي للعهد ـ عقد اجتماعا مع وزير الخارجية الاسرائيلي، وصرح بعد اللقاء بأن ما تم لم يكن «تطبيعا» في حين ان المصادر الاسرائيلية تحدثت عن اتفاق لفتح مكتب تجاري «هو في الحقيقة تمثيل دبلوماسي» في عاصمة الدولة الخليجية التي نفت نبأ الاتفاق، وتحدثت صحيفة «يديعوت احرونوت» «في 23/6» عن مشروع نوقش اثناء المؤتمر لاقامة كتلة اقتصادية بين اسرائيل وفلسطين والاردن والعراق. وعن دعوة امريكية لرجال الاعمال الاسرائيليين للاسهام في مشروعات اعمار العراق. كما افاضت التقارير في الحديث عن اجتماعات عقدت بين العديد من رجال الاعمال الخليجيين بوجه اخص وبين الاسرائيليين. وازاء هذه الاجواء فإن مراسل «يديعوت احرنوت» اعتبر ما جرى في اجتماعات المنتدى يمثل «تغييرا جذريا ودراماتيكيا في النهج العربي تجاه اسرائيل» 22/6» وهو ما ايده مراسل «الاهرام» الذي ذكر في تقرير له نشر في «26/6» ان اسرئيل المستفيد الاول من اللقاءات التي تمت على شاطىء البحر الميت.
لا يستطيع المرء وهو يتابع مشهدا من ذلك القبيل ان يتجاهل مفارقتين، الاولى ان هذا التقارب العربي الاسرائيلي يحدث في ظروف تآكل العلاقات العربية العربية، والثانية انه حدث بينما تواصل اسرائيل سياسة سحق الفلسطينيين بالقتل وتدمير اسباب الحياة، على مرمى البصر من المنتجع الذي تمت فيه اللقاءات. وقد واصلت عمليات السحق والقتل حتى اثناء انعقاد جلسات المنتدى، الامر الذي يوحي بأنه ثمة انتكاسة خطيرة في الاداء السياسي العربي ادت الى اخراج او تهميش دور القضية الفلسطينية من سياق العلاقات مع اسرائيل. وهي القضية التي كانت يوما ما العنصر الحاكم لمسار تلك العلاقات.
لسنا نبالغ والامر كذلك، اذا قلنا ان اجتماعات المنتدى كانت تدشينا لطور جديد في تطبيع العلاقات مع اسرائيل، بقدر ما انها جاءت قفزا فوق الملف الفلسطيني واشهارا لتراجعه. وقد كان عزمي بشارة الكاتب والسياسي الفلسطيني على حق حين ادرك ذلك التحول وضاق ذرعا به، فكتب متسائلا: كيف يمكن عقد مؤتمر اقتصادي دولي «من ذلك القبيل» دون ان يثير العرب موضوعا مثل جدار «الابارتهايد» «الفصل العنصري» الذي تقيمه اسرائيل، مغيرا طبيعة البلاد والمجتمع في فلسطين بشكل جذري، ومدمرا بشكل فوري حياة 15 الف عائلة فلسطينية؟.. وهل يمكن عقد مؤتمر اقتصادي على بعد عشرات الكيلومترات من هذه الكارثة دون اثارة موضوع تخريب اسرائيل الجاري للاقتصاد الفلسطيني، وهي التي تطالب بزوال الحدود الوطنية امام ضرورات التعاون الاقتصادي، وتمتدح غياب الحواجز الجمركية في العراق «لتصرف بضائعها» في حين تبني جدارا عنصريا يحطم اي امكانية لوجود اقتصاد على طول الضفة الغربية «الحياة اللندنية 26/6».

الولايات المتحدة تقمصت في المؤتمر دور المبشر والراعي الذي جاء منتصرا ورافعا رايات الدفاع عن الديموقراطية، بحسبانها مدخلا لاعادة تشكيل المنطقة على النحو الذي تنشده. وهو التشكيل الذي بات واضحا ان خارطة الطريق، واحتلال العراق يمثلان مدخلا اليه.
بلغة المنتصر قال كولن باول الذي جاء الى عمان قبل يومين من انعقاد المنتدى ان الولايات المتحدة «تسعى لاعادة بناء المنطقة العربية سياسيا واقتصاديا» (الاهرام 23/6) ـ وفي اليوم ذاته نشرت «الحياة» اللندنية على صفحتها الاولى تصريحات لوزير الخارجية الامريكي قال فيها: بعد التقدم على الجانب الفلسطيني الاسرائيلي، يمكن بناء خريطة اخرى لسوريا ولبنان، في اشارة صريحة الى توسيع الدور الامريكي في المنطقة لتسوية الاوضاع المعلقة بين العرب واسرائيل، او بالدقة لتلبية المتطلبات الامنية للدولة العبرية، لكي تتحرر من الاعباء التي تحول دون قيامها بالدور المرجو لها في مخططات اعادة التشكيل.

واذا تحولت الديموقراطية الى مصطلح تلوكه مختلف الالسن ويدور النقاش حوله في الجلسات المتعاقبة، فإن صحيفة سويدية خبيثة سألت بول بريمر «الحاكم الامريكي للعراق» بعد حديثه المطول عن مستقبل اعمار العراق: هل استشرتم الشعب العراقي بخصوص مشاركتكم باسمه؟ فأجابها الرجل بمنتهى الهدوء قائلا: لا، لم نفعل؟

المقاصد والمرامي البعيدة كانت الشق المغيب او الجزء الغاطس في المشهد، وما هذا الذي تابعناه سوى تفاصيل كانت تتحرك في الاطار المرسوم، لكي توصل الى الهدف المرصود. ولكي نقف على تلك المقاصد فإن علينا ان نعود بالذاكرة قليلا الى الوراء، ونراجع الخطاب الذي القاه الرئيس بوش في التاسع من شهر مايو الماضي، في جامعة جنوب كاليفورنيا، وتحدث فيه عن رؤيته للمنطقة، ملوحا بإقامة الدولة الفلسطينية «بعد القضاء على المقاومة» ومعلنا عن اقتراحه انشاء منطقة تجارية امريكية ـ شرق اوسطية خلال عقد من الزمن. وقد استأثر حديثه عن الدولة الفلسطينية بالاهتمام والتركيز، بينما لم يهتم كثيرون باقتراحه اقامة المنطقة الحرة.
لفت الانظار في وقت لاحق ان مدير المنتدى الاقتصادي العالمي فردريك سكري ادلى بحديث نشرته صحيفتا القدس العربي والوطن القطرية في 19/6، وسئل عن السبب في عقد دورة استثنائية للمنتدى في الاردن بدلا من «دافوس»، مقره الاعتيادي، اجاب قائلا ان احد اهم الاسباب هو «اقامة منطقة للتجارة الحرة في الشرق الاوسط، بحلول عام 2013» واعاد التأكيد في حديثه على هذه النقطة مضيفا بعدا اخر مهما. حيث قال ما نصه «من القضايا المطروحة على جدول اعمال المنتدى مسألة اقامة منطقة التجارة الحرة في الشرق الاوسط، يفترض ان تضم جميع دول المنطقة بما فيها اسرائيل».
اضاف مدير المؤتمر الى اسباب عقد المنتدى بالاردن في هذا التوقيت انه يعقد «وسط الازمة الحقيقية التي تهدد الامن العالمي» ـ اي القضيتان الفلسطينية والعراقية ـ «وبالقرب من العراق، البلد العربي الذي يثير اهتمام العالم الان، لاعادة اعماره والوصول الى اسواقه».
واذا لاحظت التطابق في «الرؤية» بين حديث الرئيس الامريكي وتصريحات مدير المنتدى العالمي، فإنك لن تحتاج الى بذل جهد لكي تدرك العوامل التي حركت الدعوة الى عقد الدورة الاستثنائية للمؤتمر، والعناصر التي تحكمت في تحديد زمانه ومكانه، الامر الذي لا يدع مجالا للشك في اننا بازاء «اجندة» امريكية في البدء والمنتهى. وهو ما يدعونا الى قراءة التفاصيل التي مررنا بها بعين اخرى، ترى في خريطة الطريق طورا ينهي المقاومة الفلسطينية ويتيح لاسرائيل التحرك بحرية واطمئنان في المنطقة، ويمكنها من استكمال حلقات تطبيع العلاقات مع الدول العربية. كما ترى في احتلال العراق طورا اخر يؤدب نظاما «مارقا» ويقوض قدرته العسكرية التي توجست منها اسرائيل، ويدخل امكانيات العراق النفطية ومشروعاتها الصناعية ضمن الامكانيات الكبيرة التي يمكن الافادة منها، الامر الذي يمهد الطريق لاقامة منطقة التجارة الحرة التي تضم اسرائيل، ويعيد الى الاذهان مرة اخرى مشروع الشرق اوسطية الذي تحدث عنه شيمون بيريز وتبنته حكومة حزب العمل يوما ما.

لا يكتمل ذلك التحليل اذا لم نتعرف على النواة المرشحة لمنطقة التجارة الحرة، وهي نموذج «المنطقة الصناعية المؤهلة» المقامة بين الاردن والولايات المتحدة، التي فتحت فيها الابواب للاستثمارات الاجنبية، وتمتعت بميزة التصدير بدون رسوم جمركية او حصص الى الولايات المتحدة، بشرط واحد هو: ان يكون ما بين 8 و20% من المواد الاولية ذات منشأ اسرائيلي. ويمتلك رأس المال حرية اخراج الارباح واخراج رأس المال بأكمله بحرية تامة، ولا يدفع اي نوع من الضرائب او الرسوم، ويقوم باستغلال العمالة المحلية والارض والبنية التحتية بأرخص الاسعار.
قرأت تعليقا على هذا النموذج للكاتب الاردني الدكتور هشام البستاني «نشرته صحيفة القدس العربي في 25/6» قال انه بمقتضى تلك التجربة فإن المنطقة العربية تتحول الى «ارضية» فقط لحركة رأس المال، وتركيز القوة والاقتصاد والموارد في يد الكيان الصهيوني «فيما يخص الموارد، لا تنس اعادة الحياة الى مشروع انبوب كركوك حيفا النفطي» ـ وتتحول المجاميع البشرية العربية الى قوى عاملة رخيصة، تشبع بعرقها نهم الساعين الى الثراء والسيطرة في المنطقة.
اذا كانت المرامي والمقاصد على ذلك النحو. فلا استغرب ان يرفع الامريكيون الذين وضعوا «اجندة» المنتدى على اجتماعات الاردن لافتة: «قمة المصالحة» لانها قد تكون كذلك بالفعل، من وجهة النظر الامريكية والاسرائيلية، لكن ما استغربته حقا ان يهلل لذلك بعض بني جلدتنا، فيعتبرونها فتحا جديدا في تاريخ المنطقة، وتعجيلا بولادة عملية سلام جديدة في الشرق الاوسط واعادة الحياة الى البحر العربي الميت.
ان مشكلاتنا لا تقف عند حدود ما يرسم للمنطقة من خرائط تعد في الظلام، ولا فيما يدبر لها من فخاخ ومكائد، لكنها ايضا في «المارينز» العرب، الذين يحاولون تزيين كل ذلك وتسويغه، وهو ما يحمل المخلصين والشرفاء في هذه الامة عبئا مضاعفا، حيث يصبحون مطالبين بالاحتشاد والاستنفار لمواجهة وحدات «المارينز» على الجبهتين الخارجية والداخلية!





  أن نبقى بلا أمل أو ذاكرة

لن اتحدث عن مؤامرة، لكنني سوف أضع بين يديك ما تجمع لدي من ملاحظات وشواهد، تاركا لك حرية تقييم ما يفعله شارون فى الخارج وما يقوله آخرون فى الداخل. علما باننى لا استبعد ان يكون وحدة الوعاء الذى يصب فيه جهد الطرفين محض مصادفة بائسة.
 
قبل حين وقعت على مقال كتبه باتريك سيل، الصحفى البريطانى المتخصص فى الشرق الاوسط، اورد فيه عشرة اسباب، فسر بها اقدام ارييل شارون على قتل الشيخ احمد ياسين (الحياة اللندنية 3/26) واذ وجدت المقال حافلا بالتحليل العميق والاحاطة الواسعة بخلفيات الصراع وتفاعلاته، الا اننى لاحظت ان ثمة سببا آخر جوهريا لم يتطرق اليه الكاتب وهو يعرض لدوافع ارتكاب الجريمة، يتعلق بالرمز الذى يمثله الشيخ ياسين فى الوجدان العام. حيث ازعم فى هذا الصدد ان الصواريخ الثلاثة التى مزقت جسده لم تستهدف فقط الشيخ بقدر ما استهدفت الفتك بالرمز فيه.
 
ذلك ان الشيخ احمد ياسين كان رمزا لقيمة او لمجموعة من القيم، بقدر ما ان اغتصاب فلسطين ذاتها كان رمزا لمشروع. بل اننى ازعم ان ثمة تشابها كبيرا بين الرجل والبلد. فالرجل بحد ذاته كان قعيدا ومشلولا ومسكونا بالامراض والعلل، حتى صوته كان اقرب الى الحشرجة منه الى أي شيء آخر. تماما كما ان فلسطين الجغرافية كانت بلدا فقيرا بلا اية ثروات طبيعية تثير المطامع او تغرى بالاجتياح، الامر الذى يسوغ لنا ان نقول ان البلد من تلك الزاوية كان فى هشاشة بنية الشيخ.
لكن الشيخ، كما فلسطين، كان كل منهما يرمز الى شئ اكبر من حقيقته البنيوية او الجغرافية. فالقوة المعنوية الهائلة التى مثلها الشيخ، وتجسيده لقيم الصمود والثبات والعزة والفداء، وكل ما هو نبيل فى الحلم الفلسطينى، حول الرجل القعيد والهزيل، الى قامة سامقة وشامخة خطفت الابصار والاضواء، واشبعت روح الوجدان الفلسطينى. بل وملأته ثقة فى النفس ويقينا فى النصر، حتى حشرجات صوته الواهن، تحولت الى طاقة مجلجلة ترددت اصداؤها فى فضاء الامة بأسرها.
 
ولانه كان تجسيدا لكل ذلك فى زمن شحَّت فيه خصال الكبرياء والصمود، وتقزمت فيه الهامات وانكسرت الإرادات، فلم يكن مستغربا ان يصبح الرجل هدفا للذين يريدون فرض الركوع وتعميم الانبطاح. على الفلسطينيين اولا والأمة بالتالى. وبدا لافتا للنظر ان قتل الرجل ما كان يحتاج لخروج ثلاث طائرات "اباتشى"، اطلقت ثلاثة صواريخ مزقته حتى نثرت لحمه وعظامه على جدران المكان، فى سابقة هى الاولى من نوعها فى سجل الابادة الاسرائيلية. والصحافة الاسرائيلية ذاتها هى التى قالت انه لم يحدث فى جرائم القتل السابقة ان اطلقت الطائرات اكثر من صاروخ او اثنين على من اريد استهدافه، لكن الشيخ ياسين كان حالة خاصة. رغم ان تصفية جسده العليل والمشلول كان يمكن ان تتم برصاصة واحدة. الا ان قامته المديدة ووزنه الهائل والرمز الكبير الذى كان يمثله، ذلك كله اقتضى الفتك والتمثيل به، وليس قتله فقط. اذ المقصود فى النهاية هو الترويع واشاعة الخوف والقنوط فى الدائرة الاوسع التى تتجاوزه.
 
من المفارقات الجديرة بالانتباه ان الحكومة الاسرائيلية على لسان المتحدثين باسمها، دأبت على اتهام الرئيس ياسر عرفات بأنه وراء كل عملية فدائية. حتى صورته وسائل الاعلام الاسرائيلية والامريكية بالتالى، بحسبانه محورا للشر ومصدرا للارهاب. ولكن الاسرائيليين حينما ارادوا ان يسددوا ضربتهم القوية للفلسطينيين والمقاومة، فانهم لم يستهدفوا عرفات، وانما اطلقوا صواريخهم صوب الشيخ ياسين وهو خارج من صلاة الفجر فوق مقعده المتحرك. صحيح انهم قالوا إن عرفات مدرج على قائمة الاغتيالات، لكن الكل يعلم انه لم يكن بعيدا عن ايديهم طوال الوقت. ورغم اننا نتمنى له السلامة وطول العمر، الا ان السياق يفرض علينا السؤال التالى: لماذا سارعوا الى اغتيال الشيخ، وتركوا عرفات قابعا فى "المقاطعة"؟
 
ردى السريع على ذلك ان عرفات اصبح رمزا للتسوية السياسية، فى حين ان الشيخ ظل ثابتا على موقفه رمزا للمقاومة الصلبة والعنيدة. ولعبة التسوية يجيدها الاسرائيليون، وقد حققوا من ورائها الكثير منذ توقيع اتفاقيات اوسلو. اذ فى ظلها توسعوا فى الاستيطان وابتلعوا الاراضى وحصلوا على العديد من التنازلات واحدثوا بعضا من الاختراقات فى اروقة السلطة الفلسطينية. اما الثانية فهى اكثر ما يخيف الاسرائيليين ويؤرق منام قادتهم، إذ مادامت جذوة المقاومة متقدة، ومادام الفلسطينيون متشبثين بالدفاع عن حقوقهم الى حد الاقبال على الموت دفاعا عنها، فان المشروع الصهيونى باسره سيظل فى دائرة الخطر - ليس ذلك فحسب وانما باتت المقاومة ضد الاحتلال الاسرائيلى بالنموذج الفذ الذى قدمته، اهم تجليات الصمود والفداء والكبرياء فى زماننا.
ولان الشيخ احمد ياسين يقف فى صدارة ذلك النموذج فان الفتك به الى حد التمثيل بجثته اريد به اغتيال كل ما كان يمثله. وهو ما يعنى ان الصواريخ التى صوبت نحو الشيخ الشهير استهدفتنا جميعا، واريد لها ليس فقط ان تمزق جسده، وانما ايضا ان توهن من عزائمنا وتشيع اليأس والهزيمة، بين الفلسطينيين خاصة والعرب قاطبة.
 
ذلك بالضبط ما حدث لفلسطين، التى كان اغتصابها وتشريد اهلها وسيلة وكنا ومازلنا نحن الهدف. نعم وظفت فى العملية اسطورة "ارض الميعاد" التى توسل بها آباء الصهيونية الذين كان بعضهم من الملاحدة اصلا، ناهيك عن انه بين اليهود من يعتبرها خرافة وابتداعا لا اساس له. لكن الابالسة الذين ارتأوا ان يزرعوا الكيان الاسرائيلى فى فلسطين، بعد استبعاد ترشيحات العراق وليبيا واوغندا وامريكا اللاتينية، ارادوا لذلك الكيان ان يظل فى ذات الوقت خنجرا فى خاصرة الامة العربية، يقطع تواصلها ويهدد امنها، ويرتهنها لخدمة المصالح الغربية. ومن ثم كتب على فلسطين التى لم يكن لها فى العير او النفير، ان تكون ضحية المخطط الخبيث. ذلك انه ما كان لعملية اختراق العالم العربى وقطع وشائجه ان تتم، الا بعد المرور فوق جثة فلسطين وشعبها.
إذا صح هذا التحليل فانه يفتح اعيننا على جانب مثير مسكوت عنه فى القضية، فقتل فلسطين كانت اوطاننا هدفا له، وقتل الشيخ احمد ياسين كانت ارادتنا هدفا له. وفى الحالتين ظل اخضاع امتنا وتركيعها قاسما مشتركا اعظم.


  •  ثقافة الاستسلام
    2005-01-18

    لنعترف: أصبحت ثقافة الاستسلام أحد معالم الزمن العربي الذي نعيشه، حتى غدت وباء ظهرت أعراضه في العديد من الأقطار العربية. لذلك أزعم أن كتاب الأستاذ بلال الحسن الذي صدر تحت ذلك العنوان بمنزلة وثيقة مهمة تفضح خطاب الاستسلام كما عبرت عنه بعض «مراجعه».

  • كنت قد أشرت إلى مضمون الكتاب قبل اسبوعين، في سياق استعراض الشواهد والقرائن التي تسوغ وصف العام المنقضي بأنه «عام الاختراق الكبير»، ولفت نظري فيما تلقيته من أصداء ورسائل بعد النشر ثلاثة أمور. الأول أن ما اسميته بمثقفي «المارينز» ليسوا مقصورين على مصر وحدها، ولكن أصبح لهم وجودهم وخطابهم المكشوف في طول الأمة العربية وعرضها، من المحيط إلى الخليج، الأمر الذي يعطي انطباعاً قوياً بأن ثمة خللاً ما في أوساط المثقفين العرب.
    الأمر الثاني أن عدداً غير قليل من الرسائل التي تلقيتها طالبني بعرض كتاب «ثقافة الاستسلام» لبسط حقائقه أمام الناس. أما الأمر الثالث فقد كان دعوة إلى تشكيل تجمع ثقافي عربي باسم مناهضي الاستسلام، على غرار التجمعات الأخرى القائمة مثل مناهضي العولمة ومناهضي التطبيع.
    وإذ أحيل الاقتراح إلى من يهمه الأمر من «النشطاء» لبحثه والتحقق من جدواه، فإن استجابتي ستكون محصورة في عرض مضمون الكتاب الذي صدر في بيروت قبل أسابيع قليلة. وكنت قد أشرت إلى أنه قدم قراءة نقدية لأفكار وخطاب خمسة من الكتاب العرب في أقطار مختلفة هم: كنعان مكيه (العراق) ـ حازم صاغيه (لبنان) ـ صالح بشير والعفيف الأخضر (تونس) ـ أمين المهدي (مصري).
    أما كتابات هؤلاء العرب فهي بالدرجة الأولى مقالات نشرتها صحيفة «الحياة» اللندنية، خلال السنوات الخمس الأخيرة، وتعلقت أساساً بالصراع العربي الإسرائيلي، والعلاقات العربية الأمريكية. وما فعله بلال الحسن أنه جمع الأفكار المتناثرة التي عبر عنها كل واحد منهم في كتاباته، وضمها جنباً إلى جنب، الأمر الذي بيَّن من خلاله للقارئ حقيقة وأبعاد الصورة المراد طبعها وترسيخها في أذهان المتلقين. ولم تكن المشكلة في طبيعة أو شطط الأفكار التي أقتنعوا بها، فكل واحد حر في قناعاته الشخصية، ولكنها كانت بالدرجة الأولى في تسويق تلك الأفكار، وبلبلة القراء بواسطتها، ومن ثم إشاعة ثقافة الهزيمة والاستسلام بين الناس.

    خلاص العراق يكون بنبذ العروبة وإقامة الفيدرالية، أما خلاص الأمة العربية فيكون بالتخلي عن فكرة القومية العربية والتطبيع مع إسرائيل. هذه هي الفكرة المحورية في كتابات كنعان مكيه، الباحث عراقي الأصل، الذي يقيم في الولايات المتحدة، ولكنه يحمل الجنسية البريطانية، وهو من خصص له مؤلف الكتاب الفصل الأول، الذي تضمن عرضاً لأفكاره منذ ان بدأ حياته السياسية معارضا لنظام الرئيس السابق صدام حسين، وصار لاحقاً عضو نشطاً في الترتيبات الأمريكية للإطاحة به، ولإعادة رسم خريطة المنطقة العربية من بعده.
    في عام 91، بعد حرب الخليج الثانية وقيام الانتفاضة الشعبية العراقية التي نجح نظام صدام حسين في القضاء عليها، نشر مكيه مقالاً دعا فيه إلى إقامة نظام علماني في العراق يغلب عليه التشيع باعتباره وصفاً أمثل، لأن العلمانيين الشيعة أقل انجذاباً للقضايا القومية، زاعماً في هذا الصدد أن «العروبة هي شأن سنًّي إلى حد بعيد». وكانت تلك هي المرة الأولى التي تطرح فيها فكرة الانتقاص من عروبة العراق، على أساس من التحليل الطائفي.
    استمر مكيه يدعو إلى فكرته في كل مناسبة. إذ في دراسة قدمها إلى معهد «أمريكان انتربرايز» بواشنطون (3/10/2002) كرر فيها قوله إن العراق «يجب أن يكون لكل ابنائه، مما يتطلب أن يكون عراقاً غير عربي» - كما أنه لن يكون ديموقراطياً إلا إذا كان فيدرالياً. (بين العرب والأكراد).
    الفكرة استقبلت بترحيب ملحوظ في الدوائر الأمريكية، حولت صاحبها إلى واحد من المتحدثين البارزين عن مستقبل العراق في مراكز الأبحاث ومعامل إتخاذ القرار. ورفع من رصيده لدى تلك الدوائر أن الرجل أقام علاقة جيدة مع الإسرائيليين، وزار تل أبيب عدة مرات، التي منحته جامعتها شهادة الدكتوراه الفخرية.
    في تطوير لفكرته ربط مكيه بين وجود الأنظمة العربية المستبدة وبين الصراع العربي الإسرائيلي، (كأن العالم العربي لم يعرف الاستبداد؟! في اليمن مثلاً؟ قبل ميلاد دولة إسرائيل)، وبنى على ذلك أنه لكي يتخلص العرب من الاستبداد، فيتعين عليهم أن يتخلوا عن صراعهم مع إسرائيل. وفي رأيه أن ذلك لن يتحقق إلا إذا تخلصوا مما اسماه «ايديولوجية القومية العربية»، وما استصحبته من دعوات للتضامن أو الوحدة العربية.
    في هذا السياق فإنه يدعو إلى نسيان الماضي وتجاوز التاريخ وبالتالي غض الطرف عن كل ما جرى في فلسطين طيلة القرن الماضي، ومن ثم التطلع إلى المستقبل وحده والتعلق بآماله ومنافعه. ـ في هذا الصدد يقول ما نصه: «يتطلب البدء بتكلم لغة السلام (مع إسرائيل) إعطاء الأولوية لحاجات المستقبل بدل مفاهيم وتفاسير الماضي، بما في ذلك مشاعر الظلم أو المرارة المشروعة التي يشعر بها الكثير من الفلسطينيين... علينا أن ننبذ بصورة نهائية تلك السياسات القائمة على التشبث المهووس بالتاريخ، وما فيه من مظالم» - (لاحظ أنه يطالب العرب وحدهم بنسيان التاريخ، ولا يطالب الإسرائيليين الذين كل مشروعهم خارج من رحم التاريخ).
    هكذا، فإن كنعان مكيه يبدأ من معارضة النظام العراقي، لينتهي إلى ضرورة التخلي عن كل افكارنا، من الإنتماء العربي إلى إدراكنا لعدالة القضية الفلسطينية، معتبراً أن قبول الفلسطينيين والعرب بشروط إسرائيل والتطبيع معها هو ترجيح لمنطق «المنفعة الذاتية». وفي نظره فإن الذين يرفضون هذا المنطق بحجة «المصلحة العامة»، هم دعاة تدمير وحروب أهلية (حربجية كما قال أحدهم في مصر).

    خيط التطبيع المجاني مع إسرائيل الذي دعا إليه مكيه رصده المؤلف في مقالات مشتركة كتبها كل من حازم صاغيه وصالح بشير. وهما يبسطان المسألة على النحو التالي:
    - الافتراض الأساسي أن الإسرائيليين (المتفوقين اقتصادياً) لا يجدون في العالم العربي اليوم الجاذبية التي تطلق حماسهم للسلام معه. باعتبار أن المنطقة العربية ليست مثالاً يحتذى في أي شيء!، خصوصاً في ظل هيمنة الثقافة غير الديموقراطية عليها الأمر الذي «يؤسس قاعدة صلبة لعجزنا عن مخاطبة الرأي العام الإسرائيلي».
    - إضافة إلى ذلك فإن «فكرة السلام بذاتها لا تزال مرفوضة في المنطقة، وهذا يصح على العرب، كما يصح على الإسرائيليين» - فالإسرائيليون يرفضون السلام بسبب «الهواجس الأمنية»، والعرب يرفضونه بسب
    ب «نبذ التطبيع».
    - العرب لا يستطيعون حل مسألة الهواجس الأمنية لأنهم لا يملكون القوة. وبسبب قوة إسرائيل العسكرية والاقتصادية فإن العرب يصبحون الطرف المتضرر من إبتسار العملية السلمية. «وإذا كان المأزق الراهن عربياً أولاً وأخيراً، فإن مسئولية المبادرة بالخروج منه تقع على الجانب العربي».
    - إزاء ذلك «ربما أصبح التطبيع الوسيلة الوحيدة المتاحة بين أيدي الجانب العربي... والوسيلة التي تسبق بقية مراحل السلام، لا أن تكون ناتجة عنها» - أما المبادرة إلى ذلك فهي بيد المثقفين و«الحيز الثقافي».
    هذا التشخيص أورده الكاتبان في وقت مبكر نسبياً (مقالة نشرت في 1/8/97 تحت عنوان «لا بد أولاً من تذليل عقبتي الأمن والتطبيع»)، وفيها اعتبر أن المشكلة عند العرب، وعليهم أن يبادروا إلى حلها، بإشاعة الثقافة الديموقراطية والمبادرة إلى التطبيع مع إسرائيل لكسب ثقتها، وهذا التطبيع ينبغي أن يبدأ ثقافياً، بنسيان القضية الفلسطينية والقفز فوقها.
    ثمة نص آخر غريب نشر للكاتبين (في 18/12/2000) اعتبرا فيه أن الانتفاضة الفلسطينية من تجليات معركة العرب ضد الحداثة، والحداثة في هذه الحالة هي إسرائيل. وذهبا في هذا الصدد إلى القول بأن الإنتفاضة حركة دون حداثة، في حين أن إسرائيل حداثة دون حق.
    في المقالة المشتركة أشارا إلى متوازيات بين الموقف الإسرائيلي والفعل الفلسطيني على النحو التالي:
    - الحداثة دون حق (إسرائيل) توازي الحق دون حداثة (الإنتفاضة).
    - السلوك الإسرائيلي يندرج في خانة إندرجت فيها الأمبراطوريات الإستعمارية والحالة النازية، واستلهام الهمجية الأولى ـ أما الإنتفاضة فتندرج في خانة الاحترابات الأهلية والدينية.
    - سياسة إسرائيل تترك حدود الدولة ـ الأمة معلقة على التوسع. وسياسة الإنتفاضة عرضة للإنكفاء عن الدولة ـ الأمة، والنكوص عنها إلى جماعة دموية أو دينية.
    ليس ذلك فحسب، وإنما تدين المقالة مواجهة العرب للإستعمار، وتعتبر أن الإنتفاضة ضد حداثة إسرائيل بمثابة امتداد لمنهج عربي وقف ضد الإستعمار (الغرب) رافضاً الحداثة التي يمثلها. وتخلص إلى نتيجة تطالب بضرورة المفاضلة بين تكاليف مكافحة الغرب وبين انعكاس ذلك على صلتنا بالحداثة، بحيث إذا تبين أن خسارتنا الأكبر في هذه الحالة، عزفنا عن المواجهة والمكافحة.. وهو التحليل الذي يدعونا في نهاية المطاف إلى القبول بالإستعمار والقبول بإحتلال إسرائيل.
    بعد الضوء الذي سلطه على موقف الكاتبين، تتبع المؤلف كتابات حازم صاغيه الرافضة لفكرة الثورة والنضال، والداعية إلى التحالف مع الإستعمار «حتى لا نبقى خارج الحداثة».. الأمر يخلص منه القارئ إلى ان الفشل العربي في مواجهة الحركة الصهيونية وقيام دولة إسرائيل، لا تتحمل مسؤوليته القوى الاستعمارية التي دعمت الحركة الصهيونية وفتحت لها أبواب الهجرة إلى فلسطين، بل يتحمل العرب مسؤوليتهم، لأنهم أختاروا ألا يتحالفوا مع الإستعمار، ومن ثم بقوا خارج الحداثة ودونها.
    في مسعى تفكيك القضية الفلسطينية وتفريغها من مضمومنها، فإن الكاتب يقلل من أهمية الاستيطان وتقطيع الأراضي الفلسطينية، مدعياً أن الجغرافيا لا أهمية لها، وأن الأهم هو السلام. وفي الوقت ذاته فإنه يدعو إلى إبعاد ملف اللاجئين عن أي تعامل مع القضية الفلسطينية، محبذاً فكرة إسقاط حق العودة لهم. ثم انه يتهم مجتمعاتنا بالتخلف لأنها لم ترتق بعد إلى مستوى القبول بالتطبيع، ويذهب إلى أنها تعظم «الشهادة»، لأنها مجتمعات زراعية تعيش ثقافتها على هامش الفولكلور.
    أكثر من ذلك فإن الكاتب حين يتحدث عن أهمية التطبيع الثقافي، فإنه يدعونا إلى إعادة النظر في مشروعية وجود إسرائيل، بحيث ترى كحق وليس كأمر واقع، ذاهباً في هذا الصدد إلى أن لها الحق في الوجود بالمنطقة العربية كما للسوريين واللبنانيين والعراقيين. لأن وجودها هو من نتائج الحرب العالمية الأولى، كما أن وجود لبنان وسورية والعراق (كدول) هو من نتاج تلك الحرب ـ (لاحظ أن الكاتب يتجاهل حقيقة أن الدول العربية المشار إليها لم تغتصب أرض أحد، ولم تستجلب شعوبها من الخارج وتطرد أصحاب الأرض كما في الحالة الإسرائيلية) ـ ثم أن وجود إسرائيل هو أيضاً من نتائج المحرقة النازية في الحرب الثانية، التي تمثل مأساة إنسانية كبرى، لا بد أن يتعاطف معها العرب، على نحو يجعلهم «يتفهمون» الأسباب والمبررات الأخلاقية لقيام دولة إسرائيل (!؟).

    «الشرق معقد لأنه ما زال محكوماً بجنون اللامعقول، الذي يجعل الرموز والمباني أقدس من الحياة. معقد هو الشرق لأنه لم يعرف بعد ثقافة السلام، أي التسامح، والتسليم بالحق في الإختلاف، والقدرة على وضع النفس موضع الآخر، لفهمه وتفهمه، للتفاوض معه لا مع النفس».
    هذا واحد من نصوص عدة قدم بها بلال الحسن الموقف الفكري للكاتب التونسي، الشيوعي السابق، عفيف الأخضر. وهو نص مفتاح، لأنه يفسر هجاء الأخضر وازدراءه لكل ما هو عربي وإسلامي، في الماضي والحاضر، ومن ثم حماسه المفرط لما هو أمريكي واسرائيلي بطبيعة الحال. وهذا الحماس جعله ينحاز ضد المقاومة الفلسطينية، وبالذات العمليات الاستشهادية، ويتبنى الموقف الإسرائيلي الذي يتهم العرب بعامة والفلسطينيين خاصة بأنهم ضد السلام.
    في التعبير عن إعجابه بالنموذج الإسرائيلي دعا الأخضر الفلسطيين والعرب إلى «ممارسة ديموقراطية تستلهم النموذج الإسرائيلي»، وأعتبر أن «إسرائيل هي الحل» - قائلاً بأن: وجود إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط يمكن تحويله من خطر إلى فرصة، بما هي دولة غنية (بالمعونة الأمريكية؟!) وحديثة وديموقراطية قد تكون قدوة حسنة لمحيطها الفقير، التقليدي واللاديموقراطي، وتكون قاطرته نحو الحداثة«.. ومن خلاء بناء سياسة مشتركة... لإنقاذ البحث العلمي العربي.. لأن إسرائيل تضاهي الغرب في هذا المجال».. و «من خلال زراعة مشتركة، لأن تحديث الزراعة في إسرائيل يضاهي الغرب». و«من خلال سياسة اقتصادية مشتركة تنقلنا إلى عالم المعلوماتية». الأهم من ذلك كله أن اسرائيل ـ في نظر الكاتب ـ قادرة على أن تساعدنا على «تحديث اللغة العربية على غرار اللغة العبرية» (!) ـ مقالة نشرت في 24/7/.1999
    ذلك كله ـ بما فيه تحديث اللغة العربية ! ـ يمكن أن يحدث للعالم العربي بشرط واحد: أن يسلم للإسرائيليين بما يريدون وينسى القضية الفلسطينية!
    «خامسهم» كاتب هاو غير معروف في مصر اسمه أمين المهدي افسحت له جريدة «الحياة» صفحاتها حيناً من الدهر ـ (صار يكتب بعد ذلك في بعض الصحف الطائفية والإسرائيلية) ـ فنشرت له مقالات محدودة خصصها لهجاء العرب والتغزل في الحركة الصهيونية والإعجاب المفرط بإسرائيل إلى حد الدفاع عن الاستيطان، الذي أعتبر أنه زحف إلى فلسطين، بعدما «تبلورت أسسه الاجتماعية في إطار فكر متحرر أوروبي النشأة«. وفي كتاباته ردد مختلف المقولات التي سبق أن مررنا بها، ولكنه تفوق على أقرانه بإمتداحه للحركة الصهيونية التي قال عنها في إحدى مقالاته (نشرت بالحياة في 11/2/2000): جاءت الصهيونية إلى بلاد العرب، عبارة عن ايديولوجية خلاصية شعبية. وهنا تكمن في دوافعها وجوانبها الانسانية.. وسلكت الصهيونية في التنفيذ مسلكاً علمانياً عقلانياً، مؤسسياً وديموقراطياً».
    في مقالة أخرى كتبها صاحبنا ونشرها الموقع الإلكتروني لصحيفة «يديعوت أحرونوت» (في 11/11/2002) كتب مؤيداً النزعة الأمريكية الامبراطورية، واصفاً إياها بأنها تعبير عن «صعود عصر الشعوب» من خلال «تآكل مفهوم السيادة الوطنية». أما تطلع المسلمين إلى توحيد صفوفهم بعد سقوط الدولة العثمانية، فقد وصفه في مقالة تالية بأنه «محاولة لتحدي التقدم والإستعمار الذي طرحته الحضارة الأوروبية»!
    إن المشكلة ـ للأسف ـ ليست فقط في الترويج لهذه الثقافة البائسة، ولكنها أيضاً في الأجواء التي هيأت مناخاً مواتياً لإطلاق ذلك القدر من السموم من خلال المنابر الإعلامية العربية. ويتضاعف الأسف إذا أدركنا أن تلك الجرعة من السموم جرى بثها من منبر واحد، فما بالك إذا جمعنا الكتابات المماثلة التي حفلت بها المنابر الأخرى.


    أين قدرة العرب
     على  الاحتجاج والغضب ؟

    2004-12-15

     

    يلح علي السؤال اعلاه ، كلما وجدت أن جهات غربية تنشط في تسليط الضوء على ما يحيق بالعرب والمسلمين من مظالم، أو ترفع صوت الاحتجاج والعتب عندما تصادف تلك المظالم. في حين يظل العرب معتصمين بالصمت.

    لست هنا في مجال تقييم دوافعهم إلى ذلك، التي قد تتراوح بين الحياد في إعلان الحقيقة أو الدفاع عن بعض القيم الانسانية والحضارية، ولكن ما يهمني في الأمر هو لفت الانتباه إلى ذلك الاستسلام العربي للظلم، والسكوت المدهش وغير المبرر عليه ، بينما يرى عدد من الشواهد التي تشكل خلفية السؤال الذي طرحته في العنوان ، اعرضها فيما يلي:

    في الثلاثين من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي قدمت مجموعة محامي الحقوق المدنية الامريكيين، في اعضاء الفيدرالية الدولية لحقوق الانسان، شكوى إلى السلطات القضائية في برلين، طلبوا فيها التحقيق في الانتهاكات والجرائم ضد الانسانية التي ارتكبها عشرة من كبار المسؤولين الامريكيين في العراق (أبو غريب بوجه اخص) وفي افغانستان، وفي جوانتانامو. وفي مقدمة اولئك المسؤولين، وزير الدفاع الأمريكي الحالي دونالد رامسفيلد، والمدير السابق للمخابرات الأمريكية، جورج تينيت، وقائد القوات الامركية في العراق الجنرال ريكاردو سانشيز.

    أما لماذا قدمت المذكرة إلى السلطات الألمانية، فهناك سببان، اولهما أن بعضا من الضباط الامريكيين الذين وردت اسماؤهم في مذكرة الاتهام موجودون حاليا في ألمانيا، ضمن القوات الأمريكية المتمركزة هناك.
    أما السبب الثاني فهو أن الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان تعتبر أن الجرائم ضد الانسانية، فضلا عن أنها لا تسقط بالتقادم، فانها تعد انتهاكا للقانون الدولي وبروتوكولات معاهدة جنيف ، خصوصا في شقها المتعلق بمعاملة المسجونين والاسرى، وبسبب خصوصيتها تلك فان التحقيق فيها ومحاكمة المسؤولين عنها يمكن أن يتم في أي مكان، دون التقيد بحدود جغرافية البلد الذي ينتمي إليه المتهمون.

    في المؤتمر الصحفي في برلين قال مايكل راتنر، رئيس مركز الحقوق الدستورية في الولايات المتحدة الذي رأس الفريق مقدم الطلب، إن الادارة الأمريكية لم تعطِ التحقيق حقه فيما خص الانتهاكات التي حدثت في سجن أبو غريب، وكذلك الانتهاكات التي وقعت في حالات واماكن أخرى، وازاء ذلك فلم يكن هناك مفر من المطالبة بفتح التحقيق في المانيا، سواء للمضي في إجراءات محاسبة المسؤولين في الجرائم التي ارتكبت، أو لحث السلطات الامريكية على أن تولي الأمر ما يستحقه من اهتمام، وتأخذه على محمل الجد.

    في اليوم التالي مباشرة، الأول من ديسمبر (كانون الأول)، نشرت «الشرق الأوسط» خلاصة تقرير سري تسرب محتواه الى صحيفة «نيويورك تايمز»، قدمته اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى الحكومة الأمريكية، وكان محوره معاملة العرب والمسلمين في سجن جوانتانامو (550 شخصا) ، والمعاملة الوحشية التي يتعرضون لها، الأمر الذي يعد انتهاكا فظيعا لكل الاتفاقات والاعراف المعمول بها في مثل هذه الحالات، واشار التقرير إلى أن مفتشي الصليب الأحمر، الذين كانوا جماعة من الخبراء والاطباء، كانوا قد زاروا السجن الكبير في جزيرة جوانتانامو، وامضوا هناك عدة اسابيع خلال شهر يونيو (حزيران) الماضي. وتوصلوا خلال تلك الزيارة إلى عدة حقائق ومؤشرات سجلوها في تقرير قدم إلى الادارة الامريكية في شهر يوليو (تمور)، لكنها رفضت معظم ما جاء فيه. من تلك الحقائق ما يلي:

    ان فريقا من الاطباء، والعاملين في مجال الصحة النفسية، اشتركوا في التخطيط لاستجواب المعتقلين، وانتزاع الاعترافات منهم، من خلال ممارسة التعذيب النفسي، وهو ما يعد مخالفة فاضحة للاخلاق الطبية.

    في هذا الصدد وجد ممثلو الصليب الأحمر أن نظاما مبتكرا جرى تطبيقه على المعتقلين في جوانتانامو يستهدف كسر ارادتهم، ويجعلهم طَّيعين بشكل كامل لمستجوبيهم. وذلك عن طريق الاذلال والحبس الانفرادي، وتعريضهم لدرجات حرارة عالية جدا أو منخفضة للغاية. وقد اعتبر محققو الصليب الأحمر أن هذه الاساليب المستخدمة كانت اكثر شدة وقمعا مما لاحظوه في مرات سابقة. واعتبر التقريران هذا الاسلوب في انتزاع المعلومات ، لا يمكن إلا أن يعد نهجا متعمدا في المعاملة المهنية والوحشية وشكلا من اشكال التعذيب.

    سجل التقرير انه إضافة الى التعذيب غير المباشر، المتمثل في الضوضاء العالية والمستمرة، والموسيقى الصارخة والتعرض للبرد لفترات طويلة، فان المعتقلين كانوا يعرضون للضرب احيانا.

    في الشهر الماضي (نوفمبر / تشرين الثاني) سلطت جهتان غربيتان اضواء جديدة على المشهد العراقي كانت بمثابة صدمة لنا، فقد نشرت مجلة «لانست» الطبية الاكثر احتراما في بريطانيا ، نتائج دراسة حول العراقيين المدنيين الذين قتلوا بسبب القصف الأمريكي. وتبين أن عددهم مائة ألف مواطن، اغلبهم من النساء والاطفال. وقد اجرت هذه الدراسة الكاشفة جامعة هوبكنز الأمريكية مع الجامعة المستنصرية بالعراق، ومعها بعض الأطراف الأخرى. وكانت تلك هي المرة الأولى التي يعرف فيها أن هذا الرقم المجهول من الضحايا المدنيين قتلهم الامريكيون بعد «التحرير» بدعوى مطاردة المقاومة (الإرهابية!) واجهاض عملياتها.

    من ناحية أخرى بثت قناة «سي.بي.اس» C.B.S الامريكية صورا لعملية قتل بعض المدنيين الجرحى داخل أحد مساجد الفلوجة، الأمر الذي يعد بمثابة نقطة سوداء في تاريخ الاداء العسكري الأمريكي، من حيث ان قتل الجرحى هو من قبيل «الكبائر» التي لا تغتفر في سلوك قوات المحاربين. واذا اضفت إلى المشهد تلك الصورة التي تسربت في الولايات المتحدة عن المعاملة غير الانسانية والمشينة التي تعرض لها سجناء «أبو غريب»، وتلك التي ظهرت هذا الأسبوع على أحد مواقع الإنترنت في الولايات المتحدة ، عن معاملة بعض جنود البحرية الأمريكية للمعتقلين العراقيين، إذا وضعت هذه الصور جنبا إلى جنب ، فانها إلى الإدراك العربي بل الانساني بعامة صدمة جديدة، من حيث أنها تبين المدى الذي بلغه ازدراء واحتقار القوات الأمريكية للعراقيين، وهو ذات الموقف الذي تبناه النظام البعثي السابق، وكان أحد مسوغات تعبئة الرأي العام ضده والحفاوة باسقاطه.

    هذه الممارسات «الإرهابية» التي استهدفت النيل من كرامة العرب والمسلمين وانسانيتهم، تلاحقت خلال الاسابيع الأخيرة (لا تسأل عما جرى ويجري للفلسطينيين في الأرض المحتلة) ولم يحدث ذلك كله أي صدى يذكر في الجانب العربي. اريد أن ابرَّيْ الشارع العربي نسبيا، لانه عبر عن غضبه بالتظاهر في عدة أقطار، وفي بعض الحالات، واخص باللوم والعتب هنا النخب صاحبة القرار في العالم العربي، التي من صلاحيتها رفع صوت الاحتجاج في بيانات رسمية، أو الدعوة لعقد اجتماعات طارئة لمناقشة تلك الجرائم سواء على مستوى الجامعة العربية أو مجلس الأمن، كما أن بوسعها تقديم الشكاوى والمطالبة بإدراجها على جدول أعمال المنظمات الدولية وهيئاتها المتخصصة. وفي حدود علمي، فان شيئا من ذلك لم يحدث، وانما ظللنا نتلقى الصفعات كل حين ، وندير خدودنا كل مرة لمن ضرب، لماذا يا ترى؟

    السبب الرئيس في رأيي هو مجاملة الادارة الأمريكية والحرص على عدم اغضابها، حتى ولو أدى ذلك إلى
    غض الطرف عن مثل تلك الجرائم التي ترتكب بحق العرب والمسلمين والانسانية جمعاء. وترتفع وتيرة ذلك الحرص حين تكون تلك النخب معتمدة على الدعم والتأييد الأمريكي، بأكثر من اعتمادها حتى في اكتساب الشرعية من الجماهير العربية. بكلام آخر، فانه في غياب الديمقراطية، فان قدرة النخب صاحبة القرار على الممانعة أو الغضب تتراجع أو تنعدم، لأن من شأن تبني مواقف من ذلك القبيل أن يهدد وجود تلك النخب ذاته، وقد يعرضها لما لا تحب.
    لقد وجدنا مسؤولي الحكومة التركية الحالية، وهو بلد حليف أصيل للولايات المتحدة، قد امتلكوا شجاعة الرفض لأطروحات وسياسات الحكومة الأمريكية، وسواء في استخدام الأراضي التركية لغزو العراق في الشمال، أو في المساس بحقوق التركمان في كركوك، وأيضا فيما يخص ترتيب وضع الاكراد، وكان استنادها إلى شرعية مستمرة في انتخاب الجماهير التركية هو العنصر الاساسي الذي استندت إليه حكومة انقرة في تلك الممانعة.

    هذا الصمت وتجنب أي انتقاد رسمي للولايات المتحدة، الذي اصبح أحد السمات الملحوظة في البيانات العربية، يغفل جانبا مهما في الجانب العربي، يتمثل في تراكم الشعور بالمهانة والذل لدى الجماهير العربية.

    وذلك شعور خطر لا ريب، ليس بوسع أحد أن يقيس حجمه أو عمقه، لكن أزعم أن حجم ذلك الشعور ينبغي إلا يستهان به، كما أن تجلياته وتداعياته قد تكون باباً لشرور كثيرة، يعلم الله وحده طبيعتها ومداها.

    في الشهر الماضي كتبت مقالا نشرته «الشرق الأوسط» تساءلت فيه: لماذا يقف العرب متفرجين أمام ترتيبات ذبح الفلوجة؟ ومن بين اصداء الفلوجة التي رددت الاستنكار في السؤال تعليق نشرته صحيفة «اليوم» السعودية (عدد 15/7) كتبه الشاعر والاديب عبد الله العثيمين. كان عنوانه: أصخرة أنا؟، وقد استقاه من بيت شعر لأبي الطيب المتنبي قال فيه: أصخرة أنا؟ مالي لا تحركني هذي المدام ولا تلك الاغاريد. وفي غمرة احتجاجية على ممارسات الامريكيين والاسرائيليين اجرى الشاعر تعديلا في بعض كلمات النص لتعبر عن المشهد العربي الراهن، بحيث اصبح كالتالي:

    أصخرة نحن بتنا لا تحركنا/ بطش يمارسه قوم مناكيد؟.
    وقد بدا الشاعر اكثر تشاؤما حين استطرد بعد ذلك قائلا بان الصخرة قد تتشقق فيخرج منها الماء الذي ينفع الناس ويمكث في الأرض، لكن اين ماء الكرامة والحياء ؟ لقد جف ذلك الماء خلال العقود الثلاثة الأخيرة لدى كثير من قيادات الامة السياسية والفكرية.

    إلى هذا المدى وصل الشعور بالاحباط لدى شاعر ومثقف عربي كبير. فعبر عن شعوره في بيت شعر أو مقالة مكتوبة، وإن اخشى ما اخشاه أن تعبر جماهيرنا المحبطة والمهانة عن مشاعرها باساليب أخرى لا تكون في الحسبان.


     لماذا أصبح العرب
     غير جديرين باحترام الآخرين؟

    16/09/2003

    بسبب من التطورات الساخنة التي تعاقبت على المنطقة خلال الاسبوعين الاخيرين، تاهت في الزحام زيارة رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون للهند، فلم تلق حقها من الرصد والتحليل، رغم انها حافلة بالدلالات والعبر، في توقيتها ونتائجها ومغزاها،

    اذ ليست مصادفة بأي حال ان تتم الزيارة في اجواء ذكرى احداث 11 سبتمبر، التي تعيد الى الأذهان الشريط الذي يحتل ما يسمى بالارهاب الاسلامي ركنا اساسيا فيه، وهو الحدث الذي استثمر في اسرائيل والهند الى ابعد مدى، فاسرائيل اهتبلت الفرصة وبثت خطابا اعلاميا يزعم انها بدورها ضحية لذلك الارهاب، وان ما تعرضت له الولايات المتحدة ذات يوم، تعيشه اسرائيل كل يوم، ويمثل كابوسا يخيم على حياة مواطنيها، من جراء العمليات التي تقوم بها عناصر المقاومة الاسلامية في فلسطين، خصوصا العمليات الاستشهادية التي تحصد ارواح الاسرائيليين «الابرياء» الى آخر المعزوفة التي تتجاهل مسلسل الجرائم، واولها جريمة الاحتلال، وثانيها الممارسات الاسرائيلية الوحشية التي لم تتوقف عن قتل وترويع مئات الاف من الفلسطينيين، وكذلك الممارسات الاسرائيلية المستمرة للتهرب من استحقاقات السلام العادل، واستخدام مشروعات التسوية وسيلة لكسب الوقت، وستارا لاخفاء مخططات الاستيطان وتوسيع رقعة الاحتلال.

    وفي حين استثمرت اسرائيل احداث 11سبتمبر على ذلك النحو، ونجحت في اقناع الادارة والرأي العام في الولايات المتحدة، بأنها بدورها «ضحية»، تقف في خندق واحد مع الضحايا الامريكيين، فان الهند فعلت نفس الشيء، فالحزب القومي الهندوسي له حساسيته ازاء المسلمين من الاساس، ثم ان الحكومة وجدتها فرصة للاعلان عن أن ما تواجهه من مقاومة في كشمير هو بدوره امتداد للارهاب الاسلامي، الذي ادعت ان باكستان هي قاعدته، ومنها يتسلل «الارهابيون» إلى كشمير للقيام بعمليات «ارهابية» ضد السلطة الهندية، وكان من السهل الغمز في باكستان، ليس فقط لان الهند تعتبرها مصدرا للشرور والاضطرابات التي تعاني منها، ولكن ايضا لان ثمة نقطة ضعف اساسية في سجل الدولة الباكستانية هي انها وقفت الى جانب حركة طالبان، ان لم تكن هي التي اطلقتها.
    استخدمت الهند لافتة مقاومة الارهاب لتصرف الانتباه عن حقائق القضية الكشميرية، واستحقاقات الكشميريين التي ضربت بها عرض الحائط من البداية، وكما ان اسرائيل تجاهلت تماما مسألة الاحتلال واعتبرتها غير موجودة، فان الهند سارت على ذات الدرب والتزمت الصمت ازاء قضية معلقة راوغت دلهي في حسمها منذ عام 1947.
    كما رأيت، فإن الطرفين الاسرائيلي والهندي وظفا احداث 11 سبتمبر لصالحهما ( وهو ما فعلته ايضا الصين فيما يخص تركستان الشرقية أو اقليم سينكيانج، وما فعلته روسيا بالنسبة للشيشان) اذ اعتبر هؤلاء جميعا انفسهم ضحايا «للارهاب الاسلامي» ومن ثم فقد كانت لكل منهم دوافعه ومصالحه في الانخراط في حملة مقاومة ذلك الارهاب.
    واذا نحينا جانبا الصين وروسيا، باعتبار ان كلا منهما تعد دولة عظمى لها حساباتها الخاصة، فسنجد ان احداث 11 سبتمبر ادت الى توليد محور جديد ـ امني وعسكري بالدرجة الاولى ـ ضم كلا من الولايات المتحدة والهند واسرائيل، لذلك فان اتمام زيارة شارون الى نيودلهي في هذه المناسبة يبعث برسالة مهمة تذكر بما هو مشترك بين الدول الثلاث كما انها اقرب الى الاحتفال بعيد الميلاد الثاني لذلك التحالف، الذي اصبح يمارس نشاطا فعالا ـ معلوماتيا وعسكريا ـ في ساحات عدة، تتقدمها افغانستان والعراق، فيما هو مشهور ومعلن على الاقل.
    واذا كان هذا هو المضمون السياسي في الرحلة، الا ان ذلك لا يمنع من التنويه الى ما حققته على المستويين العسكري والاقتصادي، ذلك ان شارون الذي تعد رحلته اول زيارة يقوم بها رئيس وزراء اسرائيلي الى الهند، منذ اقامة العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين البلدين في عام 1992، حرص على ان تكون زيارته دفعة قوية للعلاقات بين البلدين، لذلك فانه اصطحب معه وفدا ضم 150شخصا يمثلون مختلف الانشطة الامنية والعسكرية والتجارية والصناعية، وقد نقلت التقارير الصحافية ان الهند وقعت في هذه الزيارة على عقد شراء ثلاثة انظمة رادار اسرائيلي محمول جوا، اطلق عليه اسم «فالكون» من شأنه ان يضع اجزاء شاسعة من الاراضي الباكستانية تحت اعين الهنود، وقيل ان قيمة ذلك العقد مليار دولار، وما يزال الحديث يتردد عن محاولة حصول الهند على نظام «ارو» الصاروخي المضاد للصواريخ، الا ان هذه الصفقة تواجهها بعض العراقيل، بسبب عدم موافقة واشنطن على اتمامها بسبب تخوفها من ان يؤدي ذلك الى دفع باكستان الى توسيع نطاق ترسانتها العسكرية.
    بطبيعة الحال فإن مثل هذه الصفقات تعد حلقة في مسلسل التعاون العسكري والاستراتيجي بين البلدين، الذي يشمل فضلا عن تبادل المعلومات الاستخباراتية، تدريب القوات الخاصة والاشتراك في العديد من مشروعات التصنيع العسكري، وذلك بخلاف التبادل التجاري الذي يتجاوز المجالات العسكرية، وقد بلغت قيمته في بداية هذا العام مليارا و600 مليون دولار، في حين انه لم يكن يتجاوز 200 مليون دولار في عام 92، وتوسيع مجالات التعاون على ذلك النحو من شأنه ان يعزز من موقف اسرائيل، ويقوي من نفوذها في الهند، اضف الى ذلك ان العلاقات الخاصة التي نشأت بين تل ابيب ودلهي، صاحبها تطور ادى الى توثيق العلاقة بين «اللوبي» الاسرائيلي والهند في واشنطن، وكان لهذا التعاون اثره في موافقة الادارة الامريكية على صفقة بيع الرادارات المحمولة جوا من اسرائيل الى الهند.
    ان ساسة الهند يعرفون جيدا انهم حين يضعون ايديهم في ايدي قادة اسرائيل، فانهم يصافحون أيدي ملطخة بدماء الفلسطينيين والعرب، وان شارون يعد واحدا من اكثر اولئك القادة إيغالا في دم الفلسطينيين ووحشية في التعامل معهم، ولا ينسى احد في عالمنا العربي ان الهند عرفت قادة ادركوا مبكرا تلك الحقيقة، وتعاملوا معها بحذر شديد انحيازا الى الحق والعدل واحتراما لمشاعر الامة العربية، لكن ذلك كله تبدل الان للاسف حتى اصبح اسوأ ما في المشهد ان سياسة الهند الحالية لم تعد تبالي لا بالفلسطينيين ولا بمشاعر الامة العربية حتى اصبحت على استعداد لان تستقبل وترحب في قلب ديارها بواحد من اشهر مجرمي الحرب الاسرائيليين.
    وهذا الذي حدث مع الهند ـ الصديقة سابقا ـ نلحظه في مواقف اصدقاء اخرين مثل الصين وروسيا، كما نلحظه في موقف الاتحاد الاوروبي الذي وافق في الاسبوع الماضي على اعتبار «حماس» منظمة ارهابية، ازاء ذلك فلعلنا لا نخطئ اذا قلنا ان العرب الان صاروا بلا اصدقاء يقفون الى جوارهم في الساحة الدولية (زيارة الامير عبد الله الى روسيا استثناء يستحق التنويه والاشارة). ليس فقط لان السياسة في العلاقات الدولية تحكمها المصالح لا المبادئ، ومن ثم فالتقلبات فيها واردة، ولكن ايضا لان رصيد الاحترام للعرب تآكل مع مضي السنين، الامر الذي دفع كثيرين الى الاقتناع بأن صداقتهم لا مردود لها، ومن ثم فان المراهنة عليهم لا جدوى منها وتلك حقيقة مرة يتعين الاعتراف بها حتى لا نسارع الى نقد الآخرين والتنديد بمواقفهم لذلك فان السؤال الذي ارجو ان نستخلص ونحاول الاجابة عليه بشجاعة وصراحة ليس لماذا انفض الاصدقاء من حولنا ولم يترددوا في الوقوف في صف عدونا، وانما هو: لماذا لم نعد جديرين باحترام غيرنا حتى انفض من حولنا اصدقاؤنا؟


     كبـوة "الإمـام الأكبـر"

    بقدر ما أدهشنا موقف الرئيس الفرنسي فى انحيازه الى تقنين منع الحجاب، فان تعليق شيخ الأزهر على الموضوع فاجأنا وصدمنا. واذا كان بوسعنا ان نفهم الملابسات التى دفعت الرئيس الفرنسى الى التورط فى ذلك الموقف، إلا أن ما صدر عن شيخ الأزهر يستعصى على الفهم. ولايمكن ان يفسر إلا بحسبانه زلة لسان من العيار الثقيل، لم يحالفه فيها التوفيق من اى باب.

    1: لقد عبرت انجلترا والولايات المتحدة الامريكية عن انتقادهما لموقف الرئيس الفرنسى، باعتباره عدوانا على الحريات (وليس غيرة على الاسلام بطبيعة الحال)، ولكن شيخ الازهر الذى يفترض انه احد رموز الغيرة على الدين لم ينطق بكلمة نقد واحدة لذلك الموقف . ولم تكن هذه هى المفارقة الوحيدة، لان الشيخ حين تحدث فى الموضوع معتبرا القرار الفرنسى "شأنا داخليا" كان يجلس الى جواره وزير الداخلية الفرنسى شخصيا، الذى جاء الى القاهرة خصيصا لكى يستأنس برأى مشيخة الازهر مدركا لأهميته، ومتجاوزا الحدود التى وصفها الشيخ لتحصين القرار الفرنسى ضد النقد. اما المفارقة الاكبر فهى ان وزير الداخلية الفرنسى اعلن فى اكثر من حديث صحفى انه كان معارضا لتقنين حظر الحجاب، ولكنه تبنى موقف التقنين بعد ان انحاز اليه رئيس الجمهورية الفرنسى واصبح سياسة لحكومة هو عضو فيها . ولان الوزير الفرنسى نقولا ساركوزى له تطلعاته السياسية وطموحه الى الترشيح لرئاسة الجمهورية مستقبلا، فانه يعتبر اصوات المسلمين الفرنسيين (6 ملايين نسمة) رصيدا يريد سيكون بوسع وزير الداخلية فى هذه الحالة ان يغسل يديه من الموضوع ويبرئ ذمته امام المسلمين الفرنسيين، ملقيا بالمسئولية على مشيخة الازهر التى سهلت مهمة الحكومة، وسوغت لها ان تتقدم بمشروعها لحظر الحجاب. اذا صح ذلك التحليل فانه يستدعى سؤالا ليس بوسعنا ان نجيب عليه الآن، وربما تتضح اجابته مستقبلا، هو: هل كان يمكن حقا ان يتراجع الرئيس الفرنسي عن قراره او يعدل فيه لو ان شيخ الازهر اتخذ موقفا صريحا معارضا لفكرة تقنين منع الحجاب، خصوصا انه اوفد وزيرا فى حكومته الى القاهرة للقائه بخصوص الموضوع، والى اى مدى يتحمل ما اعلنه الشيخ المسئولية عن تشجيع الحكومة الفرنسية على المضى فيما عزمت عليه؟

    2: فى اليوم التالى لاعلان الرئيس شيراك تأييده لتقنين حظر الحجاب فى المدارس نشرت صحيفة "الجارديان" البريطانية (عدد 12/17) مقالا لاحدى كاتباتها - مادلين بونتنج - انتقدت فيه القرار بشدة، ووصفته بانه تعبير عن "جنون العلمانية". وهو وصف على شدته يخفف من تشخيص الحالة الفرنسية. اذ ليس صحيحا ان للعلمانية موقفا واحدا من الدين، باستثناء الاتفاق على تهميش دوره فى الحياة العامة. ذلك ان ثمة علمانية متصالحة مع الدين، كما فى انجلترا التى تتولى فيها الملكة رئاسة الكنيسة، خصوصا. وظلت حملته تلك تكسبه اصواتا وارضا جديدة كل حين. وفى ظل تلك الضغوط شكل الرئيس شيراك لجنة "ستاسى" لدراسة الموضوع فى شهر سبتمبر الماضى.

    3: لحين تطرق شيخ الازهر الى الموضوع فى المؤتمر الصحفى الذى حضره وزير الداخلية الفرنسى، فانه وقع فى خطأين كبيرين، اولهما انه كان محايدا ازاء الموقف الفرنسى وغير متحفظ عليه من اى باب، وثانيهما انه بدا غير مدرك لخلفيات وملابسات وابعاد الموضوع. كان بعض الغيورين والمعنيين بالشأن الاسلامى قد توجسوا خيفة مما يمكن ان يصدر عن الشيخ بعد لقائه مع الوزير الفرنسى. وبعد اتصالات تمت فى هذا الصدد، فانه تلقى ثلاثة نماذج مكتوبة تضمنت نقاطا مقترحة للتركيز عليها فى تحديد موقف متوازن وحازم ازاء القضية. منها مثلا ان الزى الذى ترتديه الفتيات المسلمات ليس شعارا للتمييز او الدعاية، ولكنه شعيرة دينية كالامتناع عن شرب الخمر او اكل لحم الخنزير او الامتناع عن العمل يوم السبت بالنسبة لليهود. وهو فى هذه الحالة يختلف عن "طاقية" اليهود او الصلبان التى يعلقها بعض المسيحيين. وهى التى لا يؤثم المتدينون اذا لم يرتدوها، بعكس حجاب المسلمات. وطالما انه شعيرة شخصية تمارس فى حدود النظام العام. ولاتتصادم مع مصلحة جماعية للشعب الفرنسى، فلا محل لتقييدها من جانب نظام دستورى وقانونى يحمى حرية الاعتقاد وحرية ممارسة الشعائر الدينية. من هذه الزاوية فان القانون المقترح فى فرنسا يخص المسلمين بقيد على ممارسة شعائرهم لايوضع على اتباع الديانات الاخرى. وهو امر من شأنه ان يكرس عزلتهم وغربتهم فى فرنسا. اضافة الى ذلك - كما اشارت الاوراق التى اقترحت على شيخ الازهر - فان حظر الحجاب بقانون، يتعارض مع العلمانية، اذا فهمت بحسبانها فصلا للكنسية عن الدولة وعدم اعتماد دين معين عقيدة رسمية للدولة. وما يقتضيه ذلك من حقوق للمساواة بين مختلف الاديان، فى حين انه يخص المسلمين دون غيرهم بقيد على شعائرهم.. الخ. فيما بدا، فان شيخ الازهر نحى جانبا ما قدم اليه من مقترحات وقال كلامه الذى احدث الزوبعة، حيث ركز على ثلاث نقاط : الاولى ان الحجاب تكليف شرعى ليس لاحد ان يتحلل منه. والثانية ان الدولة غير المسلمة - مثل فرنسا - لا يلزمها هذا التكليف، واذا ما اختارت ان تتخذ موقفا يتعارض معه فهذا حقها (كررها ثلاثا!)، والثالثة ان المسلمة التى تعيش فى ظل تلك الدولة عليها ان تمتثل لما يصدر فيها من قوانين، على اعتبار انها تصبح فى حكم "المضطر" الخاضع لاستثناء الضرورة. فوجئ اعضاء مجمع البحوث الاسلامية الذين شهدوا المؤتمر الصحفى بكلام الشيخ، فسجلوا اعتراضهم عليه ونقدهم له، على النحو الذى سجلته وبثته على الهواء قناة "الجزيزة". وكانت نقطة الاتفاق بينهم ان الشيخ بما اعلنه عبر عن رأيه الشخصى، لا عن رأي الازهر او مجمع البحوث، كما جاء على لسان الدكتور عبدالصبور مرزوق أمين المجلس الأعلى للشؤون الاسلامية. وقد حاول الدكتور علي جمعة - مفتي مصر - انقاذ الموقف عبر اعادة تركيب كلام شيخ الازهر على نحو يتدارك ما اعتراه من ثغرات وما شابه من قبول ضمنى بموقف الحكومة الفرنسية، لكن ذلك لم يغير كثيرا من الموقف وهو ما ابرزته القناة الخامسة الفرنسية، التى بثت تسجيلا للمؤتمر الصحفى ونقلت آراء بعض المواطنين المصريين. وهو ما بين ان شيخ الازهر يقف فى جانب، بينما اغلب علماء المسلمين وعامتهم يخالفونه فيما ذهب اليه.

    4: لفى الاعلام الفرنسى قدم الازهر بحسبانه معادلا للفاتيكان عند الكاثوليك. ومن ثم اعتبروا كلام شيخه صكا يطلق يد الحكومة فى تقنين حظر الحجاب، رغم اجماع الاغلبية الساحقة من علماء المسلمين على معارضته، سواء فى مجمع البحوث الاسلامية او المجلس الاوروبى للافتاء الذى يرأسه الشيخ يوسف القرضاوى. ورغم ان معادلة الازهر للفاتيكان لا تخلو من افتعال وتغليط، ورغم ان دور الازهر تراجع كثيرا فى السنوات الاخيرة لاسباب يعلمها الجميع، إلا ان موقف شيخه من موضوع الحجاب يبدو انه سيفتح الباب لتعميم الحظر فى دول غربية اخرى. والتقرير الذى نشره "الاهرام" فى 12/30 لمراسلها فى المانيا الزميل مازن حسان، ينعى الينا ذلك الخبر. حيث جاء عنوانه دالا ومختزلا الموقف هناك فى عبارة تقول: سباق بين الولايات (الالمانية) لسن قوانين تحظر ارتداء الحجاب (!). لا اعرف كيف تعالج المشكلة الآن. وربما كانت الفكرة التى طرحت لدعوة مجمع البحوث الاسلامية للاجتماع لمناقشة الموضوع وصياغة موقف اكثر صوابا وتوازنا، تمثل مخرجا مناسبا. ولست متأكدا من امكانية عقد ذلك الاجتماع، الذى يبدو ان ثمة عقبات تحول دونه، خصوصا ان شيخ الازهر رفض فكرة اصدار بيان توضيحي لتصريحاته. ولكن الى ان يتحقق المراد ويأذن الله بفرج من عنده، فان الجميع مدعوون لأن يتوجهوا إلى الله بالدعاء كي يغفر للإمام الأكبر كبوته.





     الراسبون والناجحون
     في المشهد العربي

    أرايت ما جرى للجنرال الالمانى الذى داس لليهود على طرف فطرد شر طرده، وقرينه الامريكى الذى سب الدين والملة للمسلمين فربتوا على كتفه، وقالوا ان تلك ضريبة الحرية! - لقد استفزتنى المقارنة واشعرتنى بالمهانة. ووجدت ان فى الحدث رسالة موجعة واجبة الاستلام، ينبغى ان تقرأ بصوت عال.
     
    طرد الجنرال الالمانى اخبرتنا به الصحف الخميس الماضى 11/6، وحكايته ان نائبا ديمقراطيا مسيحيا (مارتن هوهمان) احدث ازمة فى المانيا، حين قال فى خطاب علنى ان اليهود الشيوعيين الروس والاوروبيين اشتركوا فى ارتكاب جرائم الابادة التى ارتكبتها الثورة الروسية. واضاف ان ذلك يسوغ القول بان اليهود شعب شارك فى الاجرام، تماما كما اتهم الالمان بانهم اشتركوا فى الاجرام خلال المرحلة النازية. وهو كلام كان له وقع الصاعقة فى الدوائر السياسية عامة واليهودية بوجه اخص. لكنه فى الوقت ذاته لقى هوى لدى قائد القوات الخاصة فى الجيش الالمانى، الجنرال راينهارد كونسل، الذى بعث الى النائب برسالة حيَّاه فيها على شجاعته، "لانه اعلن الحقيقة بوضوح فى بلد يقرأ ويسمع عن ذلك بصورة نادرة"! وهو ما زاد الطين بلة، فالنائب منتخب عن احد الاحزاب فى البلاد، لكن الجنرال راينهارد موظف كبير فى الدولة، وضابط له رتبته الرفيعة فى الجيش الالمانى، الامر الذى يضاعف من مسؤوليته عن الكلام الذى صدر عنه. على الفور، بمجرد اذاعة رسالة الجنرال قرر وزير الدفاع طرده من منصبه، قائلا "ان موقفه لا يحتمل". وطلب من رئيس الدولة احالته الى التقاعد. ووصفه بانه "جنرال مضطرب ايد تصريحات مثيرة للبلبلة لنائب مسيحى لم يقدر أبدا خطورة كلامه". وبطبيعة الحال فان تلك الخطوة اشاد بها المجلس المركزى لليهود فى المانيا ،واعتبرها اجراء حاسما وحكيما "ونموذجا يحتذى فى تحمل المسؤولية".
    لم يقف الامر عند ذلك الحد، وانما طالبت جميع الاحزاب الالمانية تقريبا باجراء تحقيق شامل فى صفوف الجيش الالمانى لمعرفة الكيفية التى وصل بها الجنرال راينهارد الى منصبه الرفيع، رغم آرائه المناهضة للصهيونية.
    شملت الحملة النائب مارتين هوهمان ايضا، فطلب المجلس المركزى لليهود من رئيسة الكتلة البرلمانية للحزب الديمقراطى المسيحى اقالته من البرلمان وطرده من الحزب، غير ان الطلب رفض واقتصر عقاب النائب على الاكتفاء بابعاده من منصبه فى لجنة السياسات الداخلية ونقله الى لجنة اخرى مختصة بالبيئة!
    الخلاصة ان المستقبل الوظيفى للجنرال رانيهارد انتهى تماما . وتم اغتياله معنويا، وتحول خلال ايام قليلة الى شخص منبوذ من الطبقة السياسية الالمانية.
    قبل ذلك باقل من ثلاثة اسابيع (فى 10/18) نقلت وكالة "رويترز" من واشنطون ان شبكة "ان. بى. سى نيوز" بثت شرائط فيديو ظهر فيها الجنرال ويليام بويكين نائب وكيل وزارة الدفاع لشئون المخابرات، وهو يتحدث مرتديا زيه العسكرى فى بعض الكنائس عن الاسلام والمسلمين، قائلا انهم يريدون تدميرنا "لاننا شعب مسيحى"، وانهم عدو روحى يدعى امير الظلام، وعدو يدعى الشيطان"، ومضيفا ان الهنا حقيقى اما اله المسلمين فهو مجرد وثن (!).
    حين سئل وزير الدفاع الامريكى دونالد رامسفيلد فى مؤتمر صحفى عما اذا كان من اللائق او المفيد ان يدلى مسئول ذو رتبة رفيعة فى وزارة الدفاع بمثل هذه التصريحات علنا، فانه امتنع عن الاجابة على السؤال، وقال ان كل ما يعرفه عنه انه ضابط له سجله الحافل بالانجازات، وان كثيرين فى الجيش او الحياة المدنية يعبرون عن وجهات نظرهم فى مختلف الامور، "وهذا جزء من نمط حياتنا، لاننا شعب حر". ولكى يتهرب من التعليق على كلام الجنرال بويكين قال انه لم ير الشرائط، ومن ثم فانه لايعرف السياق الكامل لما صدر عنه من تصريحات.
     
    لايستطيع المرء ان يتجنب المقارنة بين العقاب الفورى للجنرال الالمانى وبين تبرير ما صدر عن الجنرال الامريكى، ووصفه بانه ضابط له سجله الحافل بالانجازات، رغم ان الاول تحدث عن مجرد قراءة للواقع والتاريخ لم تمس الديانة من قريب او بعيد، بينما الثانى طعن فى العقيدة والاله الذى يؤمن به المسلمون.
    فى السياق تبرز مقارنة اخرى بين صدى الكلام الذى قاله الجنرال بويكين، وبين ما قاله رئيس الوزراء الماليزى السابق الدكتور محمد محاضر، فى افتتاح مؤتمر القمة الاسلامى الذى عقد فى كوالالمبور. وكيف سكت الجميع تقريبا على كلام الجنرال الامريكى، فى حين قامت الدنيا ولم تقعد فى العواصم الغربية احتجاجا على ما قاله الدكتور محاضر، الذى كانت كل "جريمته" انه قال ان اليهود يتحكمون فى مصير العالم (الضجة التى حدثت فى مختلف العواصم الغربية جاءت برهانا على صحة كلامه).
    المشهد مسكون باكثر من مفارقة. اذ لابد ان تثير انتباهك لاول وهلة تلك الغيرة العالمية المفرطة على تاريخ ودور اليهود الذين لايزيد تعدادهم فى كل انحاء الكرة الارضية على 14 مليون نسمة (اقل من عدد سكان مدينة القاهرة )، اذا ما قورن بعدم الاكتراث واستهانة الاوساط ذاتها بالطعن فى عقيدة مليار ونصف مليار مسلم. وهى مقارنة محزنة تثير العديد من علامات الاستفهام والتعجب.
    من ناحية ثانية لا يستطيع المرء ان يكتم دهشته حين يقارن الضجة التى ثارت فى عواصم الغرب لصالح اليهود بالسكوت المدهش الذى اعتصمت به عواصم الدول العربية والاسلامية ازاء ما تعرضت له عقيدة المسلمين. سيقول قائل ان اوروبا - والمانيا بوجه اخص - لديها حساسية خاصة ازاء موضوع اليهود منذ الحقبة النازية . وهى حساسية استصحبت فزعا من "عفريت" اللاسامية الذى اصبح يلاحق كل من لايذكر اليهود او اسرائيل بالخير. لكن ذلك لا ينطبق على الولايات المتحدة من اى باب، ثم انه لاينفى ان جهدا محكما وحثيثا بذل لابتزاز الدول الاوروبية وترهيبها من اى مساس بالملف اليهودى او الاسرائيلى.
    أياً كان الامر، فالشق الثانى من المفارقة هو ما يعنينى الآن، فنحن لانستطيع ان نتوجه باللوم الى اولئك الذين عملوا على كسب النخب الاوروبية والامريكية الى صفهم، وحققوا نجاحا فى ذلك. لكن اذا كان ثمة محل للوم، فينبغى ان نتجه به الى الذين فرطوا فى اصدقائهم واحدا تلو الآخر، حتى لم يعودوا يجدون دولة محترمة تقف الى صفهم اذا جد الجد . واذا كان لديك ذرة شك فى ذلك، فانظر اين تقف كل من الهند والصين وروسيا الآن، وكيف انهم ابتعدوا عنا - لنعترف باننا بدأنا بهجرانهم - واصبحوا اقرب الى اسرائيل منا، حتى اصبحت الهند (صديقنا التاريخى) حليفا استراتيجيا لاسرائيل. واذا كان اصدقاؤنا قد انفضوا عنا لسبب او آخر، فمن الطبيعى الا نتوقع نصرة او غيرة من جانبهم على مصالحنا فضلا عن عقائدنا.
     
    صحيح ان بعض الهيئات العربية - اثنتان او ثلاث - اصدرت بيانات احتجاج على تصريحات الجنرال الامريكى، لكن الصمت الرسمى فى العواصم العربية والاسلامية اجمالا يظل باعثا على الدهشة والتساؤل . لست اجادل فى ان مثل ذلك الكلام الجارح صدر عن امريكيين وغربيين آخرين بتعبيرات شتى. لكن اغلب اولئك الشتامين لم يكونوا منسوبين الى مؤسسات رسمية، وانما كانوا معبرين عن انفسهم او ناطقين باسم جماعات متطرفة ومتعصبة. وهو ما يختلف عن حالة الجنرال الامريكى الذى يشغل منصبا رفيعا فى وزارة الدفاع، وقال كلامه وهو يرتدى زيه الرسمى، الامر الذى يعنى انه فى ظل تلك الملابسات لم يكن مجرد مواطن عادى يعبر عن رأيه، وانما كان مسئولا كبيرا وقائدا عسكريا يخاطب المجتمع المحيط به. من ثم فان كلامه منسوب الى المؤسسة والادارة التى ينتمى اليها، باكثر من نسبته الى اجتهاده الشخصى، وهى العوامل التى وضعت فى الاعتبار عند طرد الجنرال الالمانى من منصبه.
    يطول الحديث عن تبيان حقيقة موقف عصبة المتطرفين المتحالفين مع الصهيونية الذين يهيمنون على القرار السياسى الامريكى، خصوصا فى عهد الرئيس بوش، وهو الموقف الذى اجاد تصويره الصحفى البريطانى ديفيد هيرست فى مقالة له نشرتها صحيفة "الاندبندنت" فى الاسبوع الماضى تحت عنوان "اسرلة امريكا"، وقصد به استسلام الادارة الامريكية للهوى الاسرائيلى . وهو حديث احسبه مكررا ومن قبيل اعلامنا بما نعلم. لكن ما ينبغى ان يحظى بقدر من الاهتمام هو ظاهرة الصمت العربى والرسمى ازاء تعدد الاهانات التى تمس المسلمين وعقائدهم، الذى يستصحب تطاولا فجا كثيرا ما يذهب الى حد اهدار الحقوق والعدوان على المصالح.
    هناك اكثر من مسوغ لكى نركز فى التحليل على تشخيص اوضاع العالم العربى، اولا لانه الجزء الذى نعيشه فى الرقعة المعنية، وثانيا لانه تاريخيا يقوم بدور القاطرة التى تقود عالم الاسلام، ثقافيا على الاقل.



    إسرائيل على ضفاف الفرات
    2004-07-14

    اشتراك إسرائيل في التحقيق مع المعتقلين العراقيين خبر يصدمنا ولا يفاجئنا. يصدمنا لأنه يكشف عن المدى الذي بلغته استباحة العراق، ولا يفاجئنا لان الحديث متواتر من البداية عن تحقيق إسرائيل لحلمها في الوصول إلى ضفاف الفرات، ومن ثم حضورها في تضاعيف العراق الجديد، وهو حضور لو تعلمون عظيم.

    الخبر جاء على لسان الجنرال جانيس كاربينسكي، وهي الأمريكية التي كانت مسؤولة عن سجن أبو غريب، وتم إيقافها عن العمل بعد ذيوع أمر فضائح التعذيب التي وقعت فيه، وتحدث بها الركبان طيلة الأسابيع الأخيرة. فقد أجرت معها الإذاعة البريطانية حوارا بثته يوم 3/7 الحالي، ذكرت فيه أنها كانت في زيارة لواحد من كبار قادة التحالف بمقر مركز للمخابرات في بغداد، والتقت هناك رجلاً يتحدث العربية، علمت منه انه إسرائيلي ويشارك في استجواب المعتقلين العراقيين. ولا يتصور عاقل أن إسرائيل أوفدت واحداً فقط، ومن الطبيعي أن يكون ذلك الواحد وأمثاله من أهل الخبرة في استجواب العرب الفلسطينيين. وكما هو معلوم فان القضاء الإسرائيلي أجاز تعذيب الفلسطينيين لانتزاع المعلومات منهم. ولا يحتاج المرء إلى بذل جهد كبير لكي يستنتج أن الإسرائيليين نقلوا كل «خبرتهم» إلى الأمريكيين في هذا الصدد، خصوصاً أن التقارير توالت منذ وقت مبكر عن بعثات أوفدتها إسرائيل إلى الولايات المتحدة لتعريفهم بكيفية التعامل مع العرب. وقد رأينا آثار تلك الدروس الخصوصية في تغطية رؤوس المعتقلين بالأكياس، وتقييد أيديهم بالقيود البلاستيكية المدببة، وفي عمليات القنص وهدم البيوت بالجرافات، التي باعتها إسرائيل إلى وزارة الدفاع الأمريكية.
    ولم يعد سراً أن إسرائيل كانت شريكاً في التحضير للغزو، سواء من خلال ما وفرته أجهزتها من معلومات تطلبتها الخطة، أو من خلال ما قامت به فرق الاستطلاع التي عبرت الأردن من مسح للصحراء الغربية للعراق. كما أن إسرائيل وضعت مطاراتها تحت تصرف القوات الغازية، الأمر الذي يسوغ لنا أن نقول إنها كانت في الصورة تماماً، قبل الغزو وأثناءه وبعده. ولهذا فليس السؤال ما إذا كان هناك أم لا، ولكنه عن الكيفية التي تواجدت بها هناك، والمدى الذي ذهبت إليه في تواجدها. والمقاصد التي تحرتها من ذلك.

    وقبل أن نتطرق إلى تلك الآفاق ألفت النظر إلى إحدى بديهيات النشاط الاستخباري الإسرائيلي في المنطقة، وهي أن جهاز الموساد وهو يحاول اختراق المجتمعات العربية كان ولا يزال يعمل جاهداً للاتصال بفئتين من أبناء تلك المجتمعات هما: الاقليات وجماعات المعارضة المقيمة بالخارج. لذلك فما من فئة من هؤلاء وهؤلاء إلا وطرقت المخابرات الإسرائيلية بابها. ولا يعني ذلك أن الجميع استجابوا، لان هناك شرفاء يرفضون بحزم أي تعاون من ذلك القبيل. لكن هناك من لم يتردد في أن يمد يده للشيطان حتى يحقق مراده. وهذا ما حدث مع عناصر الحركة الانفصالية في جنوب السودان، ومع بعض الأكراد، وبعض ممثلي المعارضة العراقية. وقد نشرت صحيفة «يديعوت احرونوت» في 23/5/2003 قصة العلاقة بين السيد احمد جلبي رئيس ما سمي بالمؤتمر الوطني العراقي وبين المسؤولين الإسرائيليين، التي بدأت في عام 1990، وكيف تطورت تلك العلاقة بشكل حميم، حتى زار الرجل تل أبيب عدة مرات وأقام فيها تحت اسم مستعار. وعرفنا من وثائق المخابرات الأمريكية التي كشفت أمام لجنة التحقيق في 11 سبتمبر، انه تعهد لواشنطن بأمرين في حال توليه السلطة هما: الاعتراف بإسرائيل وعقد معاهدة سلام معها، وإعادة ضخ النفط العراقي عبر خطوط أنابيب الموصل ـ حيفا، الذي اغلق في عام 1948، وتحول ضخ النفط العراقي إلى بانياس في سوريا.
    ومن الثابت أن اغلب المعارضين السياسيين المقيمين في الولايات المتحدة وقعوا في ذات الفخ، حيث يشيع في أوساطهم أن مد الجسور مع إسرائيل هو جواز المرور في واشنطن، وسبيل لا مفر منه لكسب ود الطبقة السياسية هناك. ولسنا نبالغ إذا قلنا إن كل تجمعات المعارضة العراقية التي مولتها الولايات المتحدة كان موضوع الاعتراف بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها أمراً محسوماً. وما التزم به السيد احمد جلبي في هذا الصدد لم يكن أمراً استثنائياً. ولا محل للشك في أن ما سرى عليه جرى مع غيره. وإذا كان السيد اياد علاوي رئيس الوزراء الحالي وزعيم حركة الوفاق التي تشكلت في أمريكا، قد جندته المخابرات المركزية للعمل معها في عام 1992، كما ذكرت «نيويورك تايمز»، فلن استبعد أن يكون ذلك أيضاً موقفه من إسرائيل. من ثم فالاعتراف بها من جانب «العراق الجديد» مسألة وقت وملاءمة لا اكثر. وفي كل الأحوال فان شواهد الواقع تدل على أن إسرائيل اعتبرت أن أبواب العراق فتحت على مصارعها منذ احتل الأمريكيون بغداد في شهر أبريل من العام الماضي، وتصرفت على هذا الأساس، ولم تقابل ممارساتها بأي اعتراض من جانب قيادات الوضع الجديد.

    قال لي أحد السياسيين العراقيين الذين رفضوا عضوية مجلس الحكم الانتقالي المعين أمريكياً ان عناصر الموساد وصلوا إلى بغداد مع الطلائع الأولى للقوات الغازية، وبعضهم كانوا من أبناء اليهود العراقيين الذين هاجروا من إسرائيل. وقد التقى هؤلاء مع أقران لهم قدموا من مراكز الموساد المرابطة منذ سنوات في المناطق الكردية، السليمانية واربيل، وغيرهما. وفي وقت قياسي أقاموا لهم مراكز في أهم المدن العراقية تتستر بالأعمال والتوكيلات التجارية والمقاولات. وكانت لديهم مهام محددة تراوحت بين تحري القدرات العسكرية العراقية، وتصفية العلماء الذين كانوا وراء مشروعات التسلح وصولاً إلى محاولة الاستيلاء على تراث اليهود في بابل والحلة والموصل والعمارة، التي يوجد بها قبر النبي عزير.
    في 15/6 الماضي نشرت «الحياة اللندنية» تقريراً أيد هذه المعلومات، وأشار إلى أن النشاط الإسرائيلي في العراق اصبح أوضح من أن تحاول أي جهة التستر عليه. وأضاف أن عدد الشركات الإسرائيلية العاملة في العراق بات يتجاوز 150 شركة، تعمل تحت ستار عناوين غربية وعربية. ونقل التقرير عن مصادر عراقية قولها أن «جسراً جوياً من إسرائيل إلى بغداد يواصل نقل الكثير من الشحنات المتعددة الأغراض لحساب جهات منها عسكرية وشركات مدنية تعمل ضمن المجهود العسكري الأمريكي، وقسم منها لحساب شركات تجارية تعمل في القطاعات المدنية العراقية أو لحساب تجار عراقيين».

    واستنتجت المصادر العراقية من نداء وجهه رجل الأعمال الإسرائيلي بيني نمؤون إلى التجار ورجال الأعمال الأردنيين لفتح الطريق أمام تدفق البضائع والخبرات والشركات الإسرائيلية إلى العراق، أن وسائل النقل الجوية والبحرية لم تعد كافية لتغطية حجم الصادرات الإسرائيلية إلى العراق.
    نسب التقرير إلى مصادر تجارية عراقية قولها أن إسرائيل «تخطط من اجل المستقبل البعيد في علاقاتها مع العراق وليس لأهداف مرحلية، ذلك انه إذا كان لأمريكا هدف أو اثنان في هذا البلد، فلإسرائيل عشرات الأهداف، ولن تترك الفرصة السانحة تذهب هدراً».

    في 1/4 نشرت صحيفة «معاريف» مقالاً في الموضوع تحت عنوان لافت للنظر هو: «قواتنا في العراق»، رسم فيه كاتبه بوعز غاوون صورة للكيفية التي انفتحت بها أبواب العراق للإسرائيليين، الذين اندفعوا بكل طاقتهم لأخذ نصيبهم من «الكعكة» الثمينة، الذين ظلوا سنين طوالاً يحلمون بالانقضاض عليها. وبدا واضحاً من المقال أن الإسرائيليين يتدفقون على العراق من الأردن، وانهم يعملون هناك إما بالاشتراك مع تجار أردنيين أو عراقيين، وينفذون من الباطن عقوداً لتوريد احتياجات الجيش الأمريكي. ولم يؤكد كاتب المقال أن اغلب «رجال الأعمال» الذين يتعاملون مع السوق العراقية هم أصلا من ضباط الموساد والجيش السابقين. كما أشار بوضوح إلى أن الإسرائيليين حريصون على إخفاء هوياتهم، كما انهم احرص على طمس أي إشارات على البضائع المرسلة تدل على أن إسرائيل منشأها. وذكر في هذا الصدد أن ثمة مكتبين على الأقل في «الزرقاء»، الواقعة في قلب المنطقة الحرة مع الأردن تخصصا في نزع كل لوحة إسرائيلية عن السيارات المستعملة التي وصلت إلى إسرائيل، وإرسالها إلى السوق العراقية. وهو يسرد هذه المعلومة روى أن مجموعة من التجار الإسرائيليين أرسلوا قبل ستة اشهر من نشر المقال، 1500 جهاز تكييف إلى الزرقاء لنقلها إلى العراق، ولم ينتبهوا إلى إزالة العبارات المكتوبة بالعبرية عليها. وعلم بذلك التجار الأردنيون المنافسون فأذاعوا خبر الفضيحة، وهددوا التجار العراقيين الذين وصلوا إلى الزرقاء لشراء المكيفات بان كل من يقترب منها سيجري تصويره، لتنشر صورته في بغداد كمتعاون مع إسرائيل. وكانت النتيجة أن العراقيين امتنعوا عن حمل الأجهزة، التي تركت في المخازن الأردنية حتى علاها الغبار، وبيعت لاحقاً بخسارة ربع مليون دولار للشركة المنتجة.
    تعلم الإسرائيليون الدرس، فأوقفوا صفقة لتسويق مشروبات إسرائيلية معلبة في العراق، وأعادوا تصميم العلب بأسلوب عراقي، وإمعانا في التمويه فانهم كتبوا على العلب آية من القرآن تحدثت عن سقاية العطشى!
    ولان السوق العراقية كبيرة واحتياجاتها لا حدود لها، فان الإسرائيليين يعتبرونها فرصة ذهبية لتسويق أي شيء تصنعه أو تتولى تجميعه أو إعادة تصديره. ومن المعلومات اللافتة للنظر في الصفقات التجارية التي عقدت مع الإسرائيليين أن أحدهم ـ اسمه يورام كاتس قال التقرير انه يتعامل مع الأسواق العربية منذ عشرين عاماً (؟) ـ طلب منه مؤخراً إرسال عدة مئات من الحافلات المكيفة المزودة بالمراحيض، لتوفير الراحة لأفواج الشيعة الإيرانيين الذين اصبحوا يتدفقون على النجف بعد سقوط النظام البعثي، ولا اعرف إن كانت الحافلات قد وصلت أم لا، كما أنني لا اعرف أيضاً شعور الإيرانيين حين يستقلون سيارات إسرائيلية وهم في طريقهم إلى النجف!

    الأحلام الاقتصادية كبيرة للغاية ـ لكن يظل الدور الاستخباري والمزايا الاستراتيجية تفوق بكثير المكاسب الاقتصادية. فان تكون إسرائيل في قلب بغداد وعلى ضفاف الفرات، ذلك حلم قديم تحقق أخيراً، وان تصفي حسابها مع النظام العراقي الذي تجرأ وقصفها بالصواريخ ذات يوم (أثناء حرب الخليج الثانية)، ثم تشترك في تقليم أظافر العراق وتجريده من قدراته العسكرية، ذلك يبدو بدوره إنجازاً كبيراً. ثم أن تصبح في موقع يسمح لها برصد ما يحدث في إيران من ناحية، وفي سوريا من ناحية ثانية، والضغط على البلدين بمختلف الوسائل والحيل، فذلك أيضاً تطور استراتيجي مهم لصالح إسرائيل.
    لكن يبدو أن إسرائيل قررت أن تكون المنطقة الكردية هي قاعدة ارتكازها في العراق، ليس فقط بسبب متانة العلاقات المستمرة منذ ثلاثة عقود على الأقل بين بعض القيادات الكردية (مسعود برزاني بوجه أخص) وبين المخابرات الإسرائيلية (التي نجحت في كسب قطاع من النخبة الكردية بادعاء أن الطرفين ـ الإسرائيليين والأكراد ـ يقفان في خندق واحد، حيث كل منهما يمثل أقلية مضطهدة في المحيط العربي!)، ولكن أيضاً لان إسرائيل ليست مطمئنة إلى استقرار الأوضاع بالعراق في ظل الوجود الأمريكي. وقد سلط الضوء على هذه الحقيقة تقرير نشرته أسبوعية «النيويوركر» (عدد 21/6) حول العلاقة بين إسرائيل والأكراد، أعده الصحفي ذائع الصيت سيمور هيرش، وفيه قال صراحة إن التحليل الإسرائيلي للوضع في العراق خلص إلى أن الولايات المتحدة خسرت الحرب، وستفشل في مهمتها هناك.

    حسب تقرير هيرش في «النيويوركر» فان تكثيف الوجود العسكري الإسرائيلي في كردستان يستهدف بناء قوة عسكرية كردية إقليمية، قادرة على موازنة النفوذ الإيراني المتنامي في العراق، ومواجهة الميليشيات السنية «البعثية» في البلد، وتنفيذ عمليات تخريبية داخل المناطق الكردية في سوريا وإيران، لإقلاق نظامي البلدين وابتزازهما.
    لا ينسى في هذا الصدد أن الإسرائيليين بعدما اطمأنوا إلى سقوط النظام الخصم في بغداد، فان لديهم مهمة أخرى لن يهدأ لهم بال إلا إذا نجحوا في إنجازها وهي تصفية حسابهم مع خصم آخر في طهران، يستشعرون خطراً من جانبه، يتمثل في أمرين: رفض الاعتراف بإسرائيل (وتشجيع سوريا وحزب الله على معاندتها)، وتنامي القوة العسكرية التي تقترب من الآفاق النووية.
    هذه الخلفيات دفعت إسرائيل إلى تعزيز محطتها الاستخباراتية في كردستان، وتوسيع مجال عملها بحيث أصبحت تشرف على تدريب وحدات «الكوماندوز» الكردية في معسكرات تحت إشراف ضباط وخبراء إسرائيليين. وذكر تقرير «النيويوركر» أن مسؤولي المخابرات الإسرائيلية يقومون فضلاً عن ذلك بمهام وعمليات سرية داخل المناطق الكردية على الجانبين الإيراني والسوري.
    أضاف هيرش أن الوضع الاستراتيجي لإيران اصبح أقوى بعد سقوط نظام صدام حسين، الذي فتح الباب لتنامي النفوذ الإيراني داخل العراق (بين البلدين حدود مشتركة بطول 900 كيلو متر)، وهو ما اعتبره ارييل شارون رئيس وزراء إسرائيل خطراً على مكاسبها ومصالحها الاستراتيجية. ولذلك فانه قرر مضاعفة وتكثيف الوجود الإسرائيلي في كردستان فيما سمي بالخطة «بي» - (صحيفة هاآرتس نشرت في 2/7 تصريحاً لشارون قال فيه ان إسرائيل لها علاقات وطيدة مع أكراد العراق، وان تلك العلاقات قائمة منذ فترة مع زعمائهم، ونفى تقديم دعم عسكري لهم، وهو أمر طبيعي نظراً لسرية عمليات الموساد. وإزاء حساسية تركيا التي عبرت عن قلقها اكثر من مرة إزاء دور إسرائيل بالقرب من حدودها في شمال العراق).

    أثار انتباهي في مقال بوعز غاوون في صحيفة «معاريف» إشارته إلى أن إسرائيل صدرت إلى العراق في العام الأول بضائع بما قيمته 40 مليون دولار، معتبراً أن ذلك مجرد «استفتاح» رمزي، وان الرقم لا بد أن يتضاعف بعد ذلك. وأضاف الكاتب نقلاً عن أحد رجال الأعمال الإسرائيليين المخضرمين أن السوق العراقية تشهد منافسة قوية للبضائع الإسرائيلية، التي تتدفق من الصين وتركيا والكويت والسعودية. وهو ما دفعني إلى التساؤل: أين السلع المصرية؟
    قبل أن أتلقى الرد وقعت في صحيفة «الوفد» (يوم 4/7) على الخبر التالي: حذر عدنان الفيصل نائب رئيس غرفة صناعة وتجارة تكريت العراقية، رجال الأعمال المصريين من تصدير بضائع للعراق بنفس مستوى ما تم تصديره ضمن برنامج النفط مقابل الغذاء، ووصف هذه البضائع بأنها أساءت إلى سمعة الصناعة المصرية.. كما حذر الفيصل من أن العراق في المرحلة المقبلة لن يقبل نوعيات العمالة المصرية التي اعتادت الهجرة إليه في الماضي، والتي وصل عددها إلى مليون و 600 ألف عامل. وحث المبعوث العراقي الشركات المصرية على استخدام العمالة الماهرة القادرة على التعامل مع التقنيات الحديثة، لان المنافسة أصبحت قوية للغاية في العراق.
    حين انتهيت من قراءة الخبر سحبت سؤالي وابتلعته!

     

     شعورنا بالهزيمة والانكسار

     أزمة المرجعية

    الاصداء القوية التى احدثها قرار الاستاذ هيكل بالاعتزال او الانصراف تعبر عن تقدير له يستحقه بامتياز. لكنى ازعم انها ايضا مسكونة بخوف مكتوم من المهم ان نفصح عنه وان نتصارح فى صدده. خوف من ان يتركنا وحدنا، بغير رأي او دليل، فى زمن سمته الجدب والتصحر وعنوانه التيه.

    ليس بوسعى ان اضيف شيئا الى ما قيل عما يمثله الاستاذ هيكل الآن على الصعيدين الوطنى والثقافى فى مصر والعالم العربى، وهو الامر الذى جعله "مرجعا" ينتظر كثيرون كلمته ويهتدون بآرائه. ومن المفارقات انه منذ غاب عن ساحة المناصب اشتد حضوره فى الوجدان العام. بل انه كلما تقدم فى السن ازداد توهجا وحضورا، الامر الذى كان له اثره المشهود فى تعزيز مرجعيته. وذلك يفسر الجزع الذى انتاب كثيرين ممن اعتبروا ذلك الحضور احد مصادر الاطمئنان والثقة فى المستقبل. ومن ثم هزتهم فكرة اعتزاله او انصرافه، خصوصا حين يتلفتون حولهم ويرون - على امتداد البصر - زحف التصحر وتجليات الجدب موزعة على الجبهات الاربع.

    بدرجة او اخرى، يذكرنا المشهد بما جرى فى اعقاب هزيمة يونيو عام 67، واعلان الرئيس جمال عبدالناصر عن رغبته فى التنحى بسببها، الامر الذى ادى الى خروج المظاهرات العارمة التى طالبته بالعدول عما انتواه. نعم هناك فرق بين الحالتين من عدة اوجه، لكن، ثمة قاسم مشترك بينهما يتمثل فى ذلك الجزع الذى اصاب الناس. وهم يرون قائد المسيرة يلوح بالانصراف والأمة غارقة فى وحل الهزيمة. اذ كان فى خروجهم آنذاك شيء من الحرص على استنقاذ الذات بقدر ما كان فيه من التعلق بالزعيم.

    فى زماننا ثمة شعور مماثل بالهزيمة والانكسار، و "الاستاذ" فى مجاله زعيم لا يبارى. وهو بين الاحياء زعيم "اوحد" بحق ان شئت الدقة. من ثم فلا غرابة فى ان يستشعر كثيرون قلقا وخوفا ازاء تـنـحـيـه بدوره فى تلك الظروف. وهو تشخيص إن صح فانه يثير اكثر من سؤال حول مسببات الانكسار وعناصر مواجهته. وتلك قضايا كبرى جديرة بالمناقشة حقا، لكني معنى فى اللحظة الراهنة بزاوية واحدة من المشهد، تتمثل فى تحرير ازمة المرجعية التى يتعلق بها الناس ويسترشدون، حينما تدلهم بهم الامور ويستشعرون الخطر. وهى القضية التى لم تنل ما تستحقه من الانتباه والتحليل، وسط اجواء الانفعال بمسألة انصراف الاستاذ هيكل او تنحيه، رغم انه لايزال حاضرا بيننا لم يغب، حفظه الله واطال فى عمره.

     
    هل لدينا أزمة مرجعية حقاً؟
    المرجعية فى السياق الذى نحن بصدده هى سلطة معنوية مهيمنة فى مجال ما، لا تملك بالضرورة موقعا وظيفيا او سلطة اجرائية، ولكنها تستمد شرعيتها من مدى الاجماع حولها وقوة تأثيرها فى المجال العام. ولانها موثوقة وموصولة بالضمير والادراك، فانها تغدو بمثابة المنارة الهادية التى يستضيء بها الآخرون فى مسيرة حياتهم، ويسترشدون بها فيما يستشكل عليهم من امور. وفى كل الاحوال فانهم يستشعرون الامان فى وجودها. وفى الديمقراطيات الحديثة تتعدد تلك المرجعيات، متوزعة بين الاشخاص والمؤسسات والمراكز غير الحكومية. اما فى عالمنا الثالث الذى يتراجع فيه دور المؤسسات، فان مرجعية الاشخاص تحتل المساحة الاكبر من صدارة التأثير على الضمير العام. والمرجع فى مجاله هو ذلك الموهوب صاحب المعرفة والخبرة والحضور، الذى هو خليط من الشيخ والاستاذ والمعلم والحكيم، صاحب الرأى الراجح والقول الفصل. ولان مواصفاته على ذلك النحو، فان علماء الشيعة الاثني عشر اعتبروه "فلتة" فرفعوا مقام المرجع الدينى « المجتهد » اذ منحوه لقب " آية الله "، الذى إذا ما اتسع نطاق نفوذه وتزايد الاجماع من حوله، فانه يصبح تلقائيا " آية الله العظمى ".

    انك اذا تلفت حولك فى مصر مثلا، باحثا عن المراجع او الذين يمكن ان نطلق عليهم المعلمين الشيوخ الكبار، فسوف يصدمك حجم الفراغ على ذلك الصعيد. فاذا توقفت عند ميادين الثقافة والصحافة والفن والفقه، فانك ستفاجأ بالغياب شبه الكامل لذلك الطراز الرائد من البشر، الذين ينعقد من حولهم الاجماع العام، ويمارسون السلطة المعنوية المهنية التى اشرت اليها. نعم سترى فى كل مجال اناسا موهوبين واذكياء وواعدين ربما، ولكنك ستظل مفتقرا الى المقامات العالية والاساتذة ذوى الاوزان الثقيلة. واذا دققت فى الصورة جيدا، فستجد ان ثمة سباقا صاخبا بين بعض ذوى الطموح - اكثرهم من متوسطى الموهبة او معدوميها - على محاولة ملء الفراغ وتقدم الصفوف واثبات الحضور، ليس عبر العطاء المتميز، وانما عن طريق الفوز بالوجاهات والمناصب واقتناء الالقاب الموحية بالتميز. وهى ظاهرة تقتضى رصدا من اكثر من زاوية.

     
    خصص الدكتور جلال امين فصلين فى احدث كتبه " عصر الجماهير الغفيرة " لتحرير وتأصيل الازمة التى نتحدث عنها. احدهما ركز على ظاهرة تآكل المراجع فى الحياة الثقافية، والثانى عالج مسألة تنامى الولع بالشهادات العليا فى المجتمع، خصوصا شهادة "الدكتوراه". فى الفصل الاول تتبع مسار الحياة الثقافية فى مصر منذ بداية الاحتلال الانجليزى « فى عام 1882 م » وحتى الآن، اى انه رصد مؤشرات تلك الحياة على مدى 120 عاما. وكان للرصد هدفان اولهما اثبات حالات الصعود والهبوط، والثانى محاولة تفسيرها. وهو ما سأحاول عرضه هنا فى تلخيص ارجو الا يكون مخلا كثيرا.

    لاحظ مثلا ان العقود الثلاثة بين بداية الاحتلال وقيام الحرب العالمية الاولى «1882 - 1914» شهدت مناخا رفيع المستوى بصورة نسبية فى الثقافة المصرية. اذ انتجت تلك الفترة محمد عبده فى الفقه والفكر الدينى، وقاسم امين وفرح انطون فى الفكر الاجتماعى، ومحمد المويلحى والمنفلوطى فى الادب، ومحمود سامى البارودي فى الشعر، ومحمد عثمان فى الموسيقى. كما شهدت الفترة ذاتها محاولات ناجحة للغاية لتطوير الصحافة والمسرح، ولاحظ المؤلف ان الشيخ محمد عبده، وهو الفلاح المصرى الذى لا يدين لصعوده الاجتماعى الا لتعليمه وذكائه الفطرى، كان يتبادل الرسائل مع بعض من اكبر مفكرى عصره، مثل تولستوى، فيعبر عن افكار اصيلة وجريئة فى الوقت نفسه، بثقة عالية بالنفس، وبلغة عربية رفيعة، نفتقد كلا منهما بشدة فى ايامنا هذه.

    شيء مثل هذا حدث فى فترة ما بين الحربين العالميتين «1914 - 1939» . وهى الفترة التى شهدت الاعمال الرئيسية لطه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم واحمد امين وسلامة موسى والمازنى وغيرهم. كما شهدت ازدهار الشعر على ايدى احمد شوقى وحافظ ابراهيم، وتطوير الموسيقى على ايدى سيد درويش وزكريا احمد والقصبجى، والمسرح المصرى بجهود امثال جورج ابيض ويوسف وهبى والريحانى، وظهور اول الافلام المصرية التى كان بعضها بدوره رفيع المستوى، ومن انتاج سيدات مثل عزيزة امير وفاطمة رشدى، وظهور ثورة فى فن النحت على يد الفنان محمود مختار.. الخ.

    فى رأيه ان الثقافة المصرية شهدت انحطاطا ملحوظا فى الفترة الممتدة بين الحرب العالمية الثانية وقيام ثورة يوليو «1939 - 1952». المرحلة التى وصفها توفيق الحكيم فى احدى مقالاته بصحيفة اخبار اليوم بالعصر "الشكوكى"، نسبة الى المنولوجست ذائع الصيت آنذاك محمود شكوكو، الذى اعتبر اغانيه الخفيفة والقصيرة المعتمدة على العامية السوقية احيانا، رمزا لتلك المرحلة.



     

     

     نحن و الحرب الإعلامية

    في ذهني وأنا أسجل هذه الملاحظة معالم الدور الذي يقوم به الإعلام الأميركي بوجه أخص في تعامله مع تطورات الأحداث بمنطقتنا، وبالذات ملف الصراع العربي - الإسرائيلي، وقد وصف الدكتور أدوارد سعيد الإعلام الأميركي ((بأنه ارهب جهاز دعاية في العالم))، لأن خطابه على جملته اتسم بعدم البراءة في ما يخصنا ومن ثم قدم نموذجاً قوياً للكيفية التي يمكن أن يتحول بها الإعلام إلى جهاز تضليل وليس جهاز تنوير.

    في هذا الصدد، فلا مفر من الاعتراف بأنه على الجبهة الإعلامية فإن إسرائيل وأبواقها يقفون وحدهم، ويتمددون بشدة في فراغنا، ويستثمرون غيابنا عن تلك الساحة الخطرة ليس فقط في تضليل الرأي العام الغربي، لكن في تضليلنا نحن أيضاً، وهو غياب لا يفسر إلا بأحد احتمالين، إما إننا لم ندرك بعد خطورة ومضاء سلاح الإعلام في العالم المعاصر، أو أننا نفضل استخدام فنون وقدرات ذلك الإعلام في حدود الأنظمة القائمة، والضن به على قضاياها العامة والمصيرية.

    أياً كان السبب، فإن المرء ليدهشه أيما دهشة، حين يدرك أن العالم العربي لم ينتبه بعد إلى أن الانتصار في الحرب الإعلامية لا يقل خطورة عن الانتصار في المعارك العسكرية، ناهيك من أن نتائج المعارك العسكرية تظل في أفضل أحوالها محدودة بالمكان والزمان، أما آثار الانتصارات الإعلامية فإنها تتجاوز بكثير حدود المكان وربما الزمان أيضاً، باعتبار أن ثورة الاتصال مكنت وسائل الإعلام من أن تصل إلى أوسع دائرة من البشر على الكرة الأرضية، في ثوان معدودة، وهو ما لم يحدث في أي مرحلة من مراحل التاريخ من قبل، بسبب تلك القوة الجبارة التي يتمتع بها الإعلام فقد شاعت مقولة أنه لم يعد مهماً كثيراً أن تكون على حق أو باطل، لأن الأهم هو ما يقوله الإعلام عنك، لأن ما يستقر في وعي الرأي العام في نهاية المطاف هو الصورة التي يرسمها الإعلام لك.





     
     
    لا للتطبيع الثقافيوالإعلامي
    مع اليهود

    هل كان يمكن أن يقبل من أي إعلامي فرنسي أن يجري حديثاً مع هتلر أو أي واحد من أعوانه إبان اجتياح النازيين لأوروبا في الحرب العالمية الثانية؟هذا السؤال يخطر على بالي دائماً كلما وقعت على نموذج للحضور الإسرائيلي في منابر إعلامنا العربي، متمثلاً في الإصدارات الصحافية أو محطات البث الفضائي، وهو الحضور الذي أصبح ملحوظاً في الآونة الأخيرة، ويحضرني منه الآن الحوار الذي نشرته مع رئيس جمهورية إسرائيل في الشهر الماضي (العدد 1154)، والحوارات التي أجراها عماد الدين أديب على شاشة قناة (أوربيت) مع بعض القادة الإسرائيليين في تل أبيب، والمقابلة التي جرى ترتيبها ولم تتم إذاعتها في اللحظة الأخيرة، بين قناة الجزيرة ورئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون.

    ما فعلته إسرائيل أسوأ

    لا أكاد أرى فرقاً يذكر بين علاقة ألمانيا الهتلرية بأوروبا في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، وعلاقة إسرائيل بالعالم العربي، منذ منتصف القرن الماضي، بل ازعم أن النموذج الإسرائيلي أفدح من ألمانيا النازية، فقد اشترك الاثنان في الموقف العنصري والعرقي، باعتبار أن الإسرائيليين اعتبروا أنفسهم ((شعب الله المختار))، وأرادوا إقامة دولة ((مضطهدة)) من غير اليهود، كما أن النازيين اعبتروا الآريين الألمان هم ((عرق الله المختار)) وأرادوا إقامة دولة متطهرة من الأعراق الأخرى، التي هي أقل شأناً وأدنى درجة، كما أن التهديد الذي مثلته ألمانيا النازية لأوروبا، لا يختلف إلا من حيث الدرجة عن التهديد الذي تمثله إسرائيل بالنسبة للعالم العربي. مع ذلك فبوسعنا أن نقول إن ألمانيا النازية لم تقم على جثة أو أرض شعب آخر وإن آذت شعوباً أخرى، وإنما نفذت مشروعاً من خلال الألمان الذين كانوا في بلدهم، أما إسرائيل فمشروعها ما كان له أن يقوم إلا على جثة شعب فلسطين ووطنه.

    ذلك ليس مقبولاً أيضاً باسم الموضوعية أو التوازن، حيث أكرر أن الموضوعية لا تعني على الإطلاق أن تتم معالجة الملفات اعتماداً على المعادلة الصفرية التي تقدم للقارئ الشيء ونقيضه، بحيث يستويان وتكون النتيجة صفراً في نهاية المطاف، وأكرر أيضاً أن محطة الجزيرة ليست محايدجة في الموضوع، ولكن لها موقفها وانتماؤها الذي نلمسه في أدائها، وفي كل الأحوال ينبغي ألا ينسى أن إسرائيل ما زالت تخوض معركتها ضد الفلسطينيين، وأنها في حقيقة الأمر ما زالت عدواً للأمة العربية، كما ينبغي أن لا نتجاهل حقيقة أن ذلك الحضور الإسرائيلي على الفضائيات العربية يوهن من عزيمة شعبنا الفلسطيني في الداخل الذي يحتاج لمن يساعده على الصمود ويشد من أزره. حيث لا يعقل بحال أن تواصل إسرائيل قمعها وذبحها للفلسطينيين وإبادتها لسكان المخيمات الصامدة، ثم يجدون المعلقين الإسرائيليين يدافعون عن موقف حكومتهم ويسوغونه على الفضائيات العربية في المساء.

    إن صمود النخبة المثقفة مهم للغاية ودورها في مقاومة العدوان الإسرائيلي جوهري بأهمية دور الجيوش المحاربة. وينبغي ألا ننسى أن عناصر تلك النخبة هي التي تشكل الوجدان العام، خصوصاً في ظل التطور الهائل الذي لحق وسائل الاتصال، لذلك فإن أخطاء المثقفين لا يرتد أثرها عليهم وحدهم، ولكنها تؤثر في الرأي العام سلباً أو إيجاباً.

    إن المقاطعة الشاملة هي الحد الأدنى الذي ينبغي أن يلتزم به المثقفون وينبغي أن لا تلين المبادرات المطروحة من عزائمهم حيث أخشى أن تنجح إسرائيل في استمالة بعض العرب بدعوى أن المبادرة العربية التي تبنتها القمة العربية الأخيرة أبدت استعداداً للتطبيع مع العدو إذا ما انسحبت قواته إلى ما وراء خطوط حرب عام 1967، الأمر الذي قد يشجعهم على محاولة اختيار ذلك الاستعداد بدعوى كسب الثقة وتمهيد الطريق وتهيئة الأجواء لانجاح المبادرة، إلى غير ذلك من المزاعم والحيل التي تهدف إلى توريط وسائل الإعلام العربية في تطبيع مجاني، يسبق أي خطوة مما التزمت به إسرائيل.





    القيادات العدو االيهودي
     يجب أن تقاطع إعلامياً

    لا أكاد أرى فرقاً يذكر بين علاقة ألمانيا الهتلرية بأوربا في الثلاثينات والأربعينيات من القرن الماضي، وعلاقة إسرائيل بالعالم العربي، منذ منتصف القرن الماضي. بل ازعم أن النموذج الإسرائيلي أفدح من ألمانيا النازية، فقد اشترك الاثنان في الموقف العنصري والعرقي، باعتبار أن الإسرائيليين اعتبروا أنفسهم ((شعب الله المختار)) وأرادوا إقامة دولة ((مضطهدة)) من غير اليهود، كما أن النازيين اعتبروا الآريين الألمان هم ((عرق الله المختار))، وأرادوا إقامة دولة متطهرة من الأعراق الأخرى، التي هي أقل شأناً وأدنى درجة. كما أن التهديد الذي مثلته ألمانيا النازية لأوربا، لا يختلف إلا من حيث الدرجة عن التهديد الذي تمثله إسرائيل بالنسبة للعالم العربي. مع ذلك فبوسعنا أن نقول إن ألمانيا النازية لم تقم على جثة أو أرض شعب آخر وإن آذت شعوباً أخرى، وإنما نفذت مشروعاً من خلال الألمان الذين كانوا في بلدهم، أما إسرائيل فمشروعها ما كان له أن يقوم إلا على جثة شعب فلسطين ووطنه.

    لا أريد أن استطرد في المقارنة، وأفضل في ما فعلته ألمانيا النازية بحق الآخرين، خلال فترة زمنية وجيزة، وما فعلته إسرائيل بحق عرب فلسطين منذ عام 1948 وحتى هذه اللحظة، لكن أريد أن أخلص إلى أنه كان من المستحيل على أي صحافي في أوربا التي تعرضت للاجتياح والخطر النازي أن يفكر أو يحاول إجراء أي حوار من أي نوع مع قيادات الدولة النازية. ولست أشك في أن أي شخص إذا ما غامر بشيء من ذلك القبيل، كان سيلقى مصيراً سيئاً ويوصف بأبشع الأوصاف التي تجرح انتماءه ووطنيته عند الحد الأدنى.

     


      أنياب "الديمقراطية"
     اليهودية الموعودة

    سجلوا علي هذه الافادة، وادعو الله ان تكذب الايام كل كلمة فيها: إغلاق مركز زايد الثقافي بضغط أمريكي، هو علامة فارقة في اجواء المنطقة، من حيث انه يبعث برسالة تحذير وانذار لكل منبر او مثقف عربي، تقول بصريح العبارة ان الديمقراطية الموعودة بعد احتلال العراق لها حدود، ولها سوط وأنياب ايضا.

    (1) في الثامن عشر من شهر اغسطس الماضي بثت وكالة اسوشيتدبرس خبرا ذكرت فيه ما نصه: صرح مسؤول في دولة الامارات العربية بأنهم بصدد اغلاق مركز فكري يتهمه النقاد الغربيون بالترويج لمعاداة السامية والولايات المتحدة.. وقال ان الامارات اعربت بشكل خاص عن قلقها في الشهر الماضي بشأن التصريحات المنشورة عن انشطة المركز.
    في اليوم التالي مباشرة في 19/8، كتب الاستاذ عبدالرحمن الراشد رئيس تحرير الشرق الاوسط تعليقا على مدى يومين شرح فيه حيثيات اغلاق المركز الذي وصفه بانه صار يمثل مشكلة سياسية، بسبب السمعة التي شاعت عن تطرف طروحاته، واستضافته لمفكرين متطرفين والترويج لهم ـ واضاف انه بسبب تلك السمعة السيئة وقع المركز في شباك الباحثين عن اخطاء عربية، مثل مؤسسة ميمري المحسوبة على الفكر الاسرائيلي، فاصطادت بسهولة المركز متلبسا بالتوجهات المتطرفة، وأجهزت على سمعته. وهذه المعلومة الاخيرة كررتها برقية لوكالة رويترز في 26/8 قالت فيها ان عددا من الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة كانت قد اتهمت المركز بالعداء للسامية.
    أخيرا، في 27/8 اعلن رسميا في ابو ظبي انه تم اغلاق المركز الذي كان تابعا للجامعة العربية منذ انشائه في عام 1999، وتولت دولة الامارات رعايته وتمويله. ومن ثم اسدل الستار على قصته، حتى اشعار اخر على الاقل ـ وفي التقرير الذي بثته الوكالة الفرنسية بمناسبة اعلان الاغلاق، نقلت على لسان مسؤول في المركز انه تعرض لحملة من معهد بحوث الشرق الاوسط والمؤسسات اليهودية في العالم.
    نحن اذن امام خبر صحيح، وبين ايدينا اسباب معلنة للاغلاق وخيط مهم يشير الى الجهة التي قامت بدور المحرض على عملية الاغتيال. وتوفر تلك العناصر يوفر لنا ارضية تسمح لنا ان نقلب الامر ونحن مطمئنين الى الوضوح النسبي للأركان الأساسية في القضية، الفعل والفاعل والمحرض والمفعول به.
    أقدم لتلك المحاولة عدة ملاحظات هي:
    ☩ اننا نتحدث عن مركز ثقافي ظل خلال عمره القصير (3 سنوات) يضج بالحركة والنشاط الامر الذي أكسبه شهرة على الصعيدين الاقليمي والدولي. وتميز بانه منفتح بشكل رصين على مختلف الاتجاهات والاراء. الامر الذي كرس صدقيته واستقلاله. ولم يكن نشاطه محصورا في المحاضرات التي ذاع صيتها فحسب، ولكنه كان يتعاون مع اكثر من 120 من الباحثين الجادين العرب والاجانب. ثم انه كان ينظم بين الحين والاخر ندوات مغلقة لمناقشة القضايا الحيوية التي تهم العالم العربي.
    ☩ ان سياسة الدولة الراعية للمركز معروفة بالاتزان والاعتدال، وتلك من سمات المجتمع الاماراتي التي كفلت له الاستقرار والازدهار، الامر الذي يعني ان المناخ العام الذي عمل فيه المركز كان أبعد ما يكون عن التطرف، لم يكن بوسع المركز ـ حتى لو اراد ـ ان يشذ عن تلك الاجواء وانما كانت ممارساته تعبيرا عنها وتجسيدا لها.
    ☩ ان اغلاق مركز ثقافي محترم على هذا النحو، يعد اجراء غير مسبوق في العالم العربي.. وحين يتم ذلك الاغلاق استجابة لضغوط امريكية، فان ذلك يستدعي أبعادا أخرى للمشهد، ويضيف على مفرداته طابعا خاصا، يثير العديد من التساؤلات والمخاوف التي سنأتي على ذكرها بعد قليل.
    ☩ أن الدهشة تعتري المرء وهو يفاجأ بالقرار الذي اتخذ بصدد المركز، لكن تلك الدهشة تتضاعف حين يلاحظ المرء انه استقبل بصمت مطبق في العواصم العربية. اذ باستثناء بيان تضامن مع المركز ومناشدة للسلطات الاماراتية لكي تراجع قرار اغلاقه، اصدره بعض المثقفين العرب، فان المؤسسات والهيئات الثقافية وأجهزة الاعلام العربية تجاهلت الموضوع. علما بان ما حدث مع المركز يمكن ان يتكرر في اي عاصمة اخرى، ويؤكل الجميع «كما أكل الثور الابيض». بل انني حين كتبت تعليقا على الموضوع في الاتجاه الذي عبر عنه بيان المثقفين فان إحدى الصحف العربية التي اعتدت ان انشر فيها مقالا اسبوعيا، حجبت التعليق وامتنعت عن نشره!

    (2) الغارة على المركز لم تبدأ في أبو ظبي، ولكنها خرجت من واشنطون. والمعلومة التي سبقت الاشارة اليها عن دور معهد (ميمري) في قيادة الحملة المضادة لمركز زايد صحيحة تماما. ذلك ان المعهد كان قد أصدر في العام الماضي تقريرا عن المركز اتهمه فيه بمعاداة الولايات المتحدة والغرب، وبالعداء للسامية. وهذا العام (في 11/7 الماضي) اصدر المعهد تقريرا ثانيا كرر فيه الاتهامات وواصل حملته الشرسة ضده. وقد اكتسبت الحملة بعدا جديدا في ظل تنامي دور المتطرفين في الادارة الامريكية، الامر الذي كان له اثره في الضغوط الامريكية على دولة الامارات.
    وقبل ان نحاول تقييم هذه الحملة، من المفيد ان نتعرف اكثر على هوية المعهد الذي نظمها اذ من شأن ذلك ان يفض لغز اهتمامه وهو في واشنطون بمحاضرات ومطبوعات تصدر في ابو ظبي في الطرف الاخر من الدنيا.
    كلمة (ميمري) هي اختزال للاحرف الأولى من الاسم الحقيقي الذي هو (معهد الشرق الاوسط للبحوث والاعلام) الذي انشىء في عام 1998 اي قبل عام واحد من تأسيس مركز زايد. ومنذ ظهر الى الوجود عرف بعلاقاته الوثيقة مع اسرائيل. ذلك ان مؤسسه ومديره، والمالك المسجل لموقعه على شبكة الاتصالات الدولية (الانترنت)، شخص اسرائيلي هو ايحال كارمون، الذي كان في الاصل كولونيل امضى 22 عاما في المخابرات العسكرية الاسرائيلية وعمل في السنوات الاخيرة مستشارا لمكافحة الارهاب مع اثنين من رؤساء الحكومات الاسرائيلية، هما اسحاق شامير وبنيامين نتانياهو. ليس ذلك فحسب، وانما باستعراض اسماء العاملين بالمعهد تبين ان ثلاثة منهم كانوا يعملون مع المخابرات الاسرائيلية وهناك ثلاثة اخرون احدهم عمل بالقيادة الشمالية للجيش الاسرائيلي، واخر ذو خلفية اكاديمية والثالث كوميدي سابق.
    المهمة الرئيسية للمعهد هي تتبع ما تنشره الصحف والمطبوعات العربية بوجه اخص، وترجمته وتوزيعه على اوسع دائرة ممكنة من المثقفين والمهتمين بالشأن العام في الولايات المتحدة واوروبا. وهي عملية لقيت اقبالا شديدا بعد احداث 11 سبتمبر، وما استصحبته من مضاعفة الاهتمام والفضول الغربيين بكل ما يتعلق بالعالم العربي والاسلامي.
    لم تتسم هذه المهمة بالبراءة يوما ما، فقد وصف ابراهيم هوبر المتحدث باسم مجلس العلاقات الامريكية الاسلامية (كير) وظيفة المعهد في صحيفة واشنطون تايمز بقوله ان دوره ينحصر في البحث عن اسوأ العبارات المقتبسة عن العالم العربي والاسلامي ونشرها على اوسع نطاق ممكن.
    هذا الرأي تضامن معه واستشهد به احد كتاب الجارديان البريطانية (برايان ويتيكر ـ 12/8/2002) الذي كتب يقول انه يتلقى من المعهد عبر البريد الالكتروني، وبالمجان، ترجمات عالية المستوى لمقالات صادرة في الصحف العربية، لكنه عبر عن توجسه وعدم ارتياحه لطبيعة تلك الترجمات التي هي اما (ان تعكس صفات سيئة للعرب، او انها تقوم بتعزيز الاولويات السياسية لاسرائيل).
    ومن الملاحظات الطريفة التي أوردها كاتب المقال قوله ان المعهد يقدم نفسه باعتباره مؤسسة محايدة تشجع الاعتدال، وتسعى لتسليط الاضواء على النماذج الصارخة للتعصب والتطرف. ولكنه تشكك في صدق المقولة بعدما اكتشف ان الترجمات التي يعممها كلها تعكس نماذج لمظاهر التطرف في الجانب العربي، في حين انه لم يتلق مرة واحدة ترجمات من ذلك القبيل عن الصحافة العبرية (وهي بلا حصر كما يعلم الجميع).

    (3) لن نذهب بعيدا او نتجنى اذا قلنا ان الزوبعة التي ثارت حول مركز زايد خرجت اصلا من معهد مشبوه امريكي
    صهيوني، معنى بأمرين جوهريين في العالم العربي، هما الاصطياد والوقيعة. ولا ينسى في هذا الصدد ان معهد «ميمري» هذا هو الذي تصيد للدكتور غازي القصيبي قصيدته التي نشرها حين كان سفيرا للسعودية في لندن وحيا فيها الشهيدة الفلسطينية وفاء ادريس. اذ قام بترجمتها واعتبرها تشجيعا على الارهاب والعنف وتحريضا «للانتحاريين» لكي يواصلوا قتل المدنيين الاسرائيليين، ومن ثم فقد اقام الدنيا واقعدها ضد الدكتور القصيبي، وكان له دوره في تشويه العمل الذي قام به، وتأليب كثيرين ضده.
    في وقت لاحق اثار المعهد زوبعة مماثلة بسبب مقالة نشرتها صحيفة «الرياض» لكاتبة سعودية، كانت قد اشارت في سياقها الى القصة الشائعة التي تقول ان اليهود يستخدمون دماء الاطفال المسلمين في اعداد اطفالهم في عيد «اليوريم». وادعى ان الصحيفة مملوكة للدولة السعودية (وهذا ليس صحيحا)، ومن ثم فقد ربط بين المقالة وبين سياسة المملكة، التي نسب اليها العداء للسامية!.
    فس الاسلوب اتبع مع مركز زايد، الذي نسبت اليه ذات الاتهامات الفضفاضة التي اصبحت تنسب لكل من يجرؤ على انتقاد السياسة الاسرائيلية، او ينطلق بكلمة حق ازاء سياسة الادارة الامريكية.
    رسائل التشويه المسمومة يبعث بها «المعهد بصورة منتظمة الى 200 الف عنوان الكتروني» وتزود بها وسائل الاعلام بصفة مستمرة... ونظرا لما نعرفه من تلاق للهوى بين الطرفين بسبب نفوذ العناصر الصهيونية في تلك المؤسسات، فانها وجدت فيما يبعثه المعهد زادا اضافيا لتشديد حملات التشويه ضد العرب والمسلمين، التي تشارك فيها بحماس مفرط مختلف المؤسسات اليهودية في الولايات المتحدة.
    وقد بلغ من قوة تلك الحملات وتأثيرها على الناس انها اوصلت رسالة التشويه الى قطاعات واسعة من الامريكيين، لدرجة ان الشيخ زايد بن سلطان رئيس دولة الامارات حين تبرع بمبلغ 15 الف دولار لسد العجز المالي في ميزانية احدى المدارس الابتدائية في ولاية كاليفورنيا، (استجابة لطلب جدة احد التلاميذ كانت في زيارة للامارات)، فان اولياء الامور ترددوا في قبول المنحة التي كان من شأنها ان تبقي على مدرسي المرحلة الثالثة الذين تم الاستغناء عن خدماتهم. وكان السبب الرئيسي في هذا التردد هو ارتباط اسم الشيخ زايد بالمركز الذي اشيع عنه انه معاد للسامية!.

    (4) في احدى الندوات التي شهدتها في لندن لمناقشة الاوضاع في العالم العربي بعد 11 سبتمبر، ـ كانت بدعوة من وزارة الخارجية البريطانية ـ اثير موضوع التطرف، وفي محاولة تعريفه، فان اكاديميا بريطانيا خفيف الظل، قال ان هناك تعريفات كثيرة للتطرف، لكنه من متابعته للمناقشات والممارسات التي جرت حول الموضوع خلص الى ان التطرف اصبح حقيقة الامر «كل كلام او سلوك لا يعجبنا»!.
    هذا بالضبط ما حدث مع مركز زايد، حين قيل على منبره كلام لم يعجب الامريكيين والصهاينة فلاحقته لعنة «التطرف»، واطلقت من حوله الشائعات التي مهدت للانقضاض عليه واغتياله. ذلك ان اكثر ما اخذ على المركز انه دعا الفرنسي تيري ميسون مؤلف الكتاب الذي شكك في احداث 11 سبتمبر واعتبرها أكذوبة. وانه سمح بإلقاء محاضرات انتقدت السياسة الامريكية والاسرائيلية، والذين تحدثوا في هذه الامور لم يتجاوز عددهم عشرة اشخاص، من بين عشرات المحاضرين الذين تمت دعوتهم منذ انشاء المركز. وبالمناسبة فان الذين مارسوا علمية النقد كان بعضهم امريكيين، كما ان هناك امريكيين آخرين دافعوا عن سياسة بلادهم وحاولوا اقناع مسمعيهم بصوابها.
    ان شئت فقل ان كل جريمة المركز انه سمح للرأي الآخر بان يعبر عن نفسه بشكل حذر وفي نطاق محدود وضيق، حتى ان اصحاب ذلك الرأي الآخر لم يتجاوز عددهم اصابع اليدين، لكن ذلك لم يحتمل، ولم يغفر له انه أتاح تلك الفرجة الصغيرة. فكان هناك اصرار على قمعه واسكات صوته، وايضا لكي يكون عبرة للآخرين.
    والامر كذلك، فلم يكن من العسير ان نستنتج ان الامارات استقبلت الضغوط واحتملتها لبعض الوقت، وازاء اشتدادها واتساع نطاقها فانها ارادت ان توقف الحملة، فاختارت ان تغلق المركز عملا بالمثل القائل: الباب الذي يأتيك منه الريح، اغلقه كي تستريح.

    (5) الاستعلاء الامريكي لا حدود له فيما يبدو، والضغوط التي مورست لاغلاق مركز زايد الثقافي فريدة في بابها وغير مسبوقة حقا، حيث لا نعرف ان ثمة مؤسسة ثقافية عربية تعرضت للمصير الذي لقيه، ولكنها صفحة في سجل حافل بالممارسات العبثية المتجاوزة للاعراف التي تشهدها العواصم العربية، في ظل الادارة الامريكية الحالية الخاضعة لهيمنة المتطرفين، وهي الممارسات التي ذهبت بعيدا في الفظاظة والفجاجة خصوصا بعد احداث 11 سبتمبر.
    نكأ ذلك الجرح ما نشرته اسبوعية «المجلة» اللندنية (عدد 10/8) حيث اعدت ملفا رصد ممارسات السفراء الامريكيين في خمس دول عربية، وكان محور الملف سؤال واحد هو: سفراء هم ام اوصياء؟ وفي الاجابة على السؤال استعرض مراسلو المجلة شريطا مليئا بالوقائع والشواهد المستفزة. من رسالة السفير الامريكي في القاهرة التي نشرتها الاهرام في 30/9 الماضي وطلب فيها من مسؤولي الصحف ـ بجرأة يحسد عليها ـ منع نشر المقالات والتحليلات التي تخالف الرواية الامريكية لاحداث سبتمبر، ومحاولته التدخل في الاعمال التليفزيونية، مثل ما حدث في مسلسل «فارس بلا جواد»، الى طلب السفير الامريكي في بيروت اقصاء وزير الاعلام اللبناني غازي العريضي من منصبه (استبعد في التعديل الوزاري الاخير)، الى دعوة السفير الامريكي في البحرين للحضور في احد النوادي الاجتماعية بالمنامة ان يقفوا دقيقة حداد على الضحايا الاسرائيليين، اسوة بما فعلوه مع الضحايا الفلسطينيين، وانتهاء بالسفير الامريكي في صنعاء الذي هاجمته بشدة صحيفة «الميثاق» الناطقة باسم حزب المؤتمر الشعبي الحاكم، وقالت انه يتصرف «كمندوب سام»، «متناسيا ان اليمن بلد مستقل له سيادة، وليس الولاية الثانية والخمسين لامريكا».
    لا يخلو المشهد من مفارقة، لان الولايات المتحدة التي تفرض نفسها على الآخرين ولا تتردد في مصادرة او قمع الآراء المخالفة لها والناقدة للسياسات الاسرائيلية، هي ذاتها التي تعلن على الملأ ان العالم العربي بعد اسقاط النظام العراقي سترفرف عليه اعلام الحرية، وان نشر الديموقراطية في الشرق الاوسط هو المهمة الاخلاقية لهذا العصر.
    وقد شاء ربك ان تتزامن الضغوط الامريكية لغلق مركز زايد مع نشر تفاصيل المشروع الذي اعدته هيئة المعونة الامريكية لاصدار بعض الصحف العربية وانشاء محطات تليفزيونية فضائية، حتى تتولى تجميل الوجه الامريكي والتعبير عن سياسة واشنطن في الشرق الاوسط والعالم الخارجي، اما نكتة الموسم، واكثر المفارقات سخرية وإضحاكا فهي ذلك كله وبعضه ارهاب فكري على الاقل ـ يتم في اطار الحملة على الارهاب!.
    ترى على من سيحل الدور في المرة القادمة؟




    الارهاب الاعلامي اليهودي
     لاعادة تشكيل العقل والتفكير الجماعي

       تعقيب و تعليق على المقال أعلاه 

      بقلم : نوال السباعي

    (بداية التعقيب)
    " اطلعت على مقال الاستاذ فهمي هويدي والذي قرأته في الشرق القطرية , تحت عنوان "أنياب الديمقراطية الموعودة" , فأثار الموضوع في نفسي شجونا وهموما وآلاما, ورجوت أن أقدم للقارئ العربي شيئا عن هذه الأنياب التي أصبحنا نعيش في ظلها هاهنا في بلاد "الحرية" و"الديمقراطية" .

    صورة غريبة وشاذة وعجيبة ليس عما يجري في بلادنا من قمع للحريات وتكمميم للأفواه وزجر لكلمات الحق التي بدأت تنكمش بصورة بالغة الخطورة الى ساحات الانترنيت الداخلية , والتي لم تسلم بدورها من أنياب "الديمقراطية" اليهودية التي يجدّ بعض الحداثيين في التطبيل والتزمير لها مجالا ممتازا للارتزاق على حساب أمة تغلي وتشتعل من أقصاها الى أقصاها بحقد الغزاة الذين أتونا الى عقر دارنا لامتصاص دمائنا باسم الديمقراطية وحقوق الانسان.
    ديمقراطية تضرب في كل يوم جديد مركزا من مراكز النور والحرية والتقدم والاستقلالية في البلاد العربية والاسلامية , لقد هيأت هذه "الديمقراطية" جنودا متخصصين للاجهاز على كل ساحة للرأي المناهض لها ومهما كانت بسيطة أو صغيرة أومغمورة , فلقد تم – على سبيل المثال - ّ تدمير موقع صغير كموقع الشروق الاخباري الفلسطيني ثلاثة مرات خلال شهر واحد , كما تمّ تعطيل موقع "بوابة العرب " الكويتي الاماراتي , مرتين خلال هذا الشهر كذلك , ولم أكن أريد أن أذكر ماالذي كان قد حل ببعض الصحف العربية التي كانت قد استقطبت في فترة من الزمان مجموعة من الأقلام التي تتحدث باسم الأمة منافحة عن حقوقها المغتصبة , فاضحة أوضاعها التي صار من الخيانة السكوت عليها , فتم استخدام رئيس تحرير استطاع أن يتسبب في شهر واحد كذلك في ترك نصف هؤلاء الكتاب لمواقعهم وأعمدتهم جانبا بانتظار كوة من نور جديدة , وهو شيء لايمكن أن يفتقد طويلا , لان التاريخ علمنا ودائما أن الحق يجد وباصرار وعلى الدوام من يخدمه ويموت في سبيله!.
    أما عن اسبانية التي أعيش فيها , احدى دول الاتحاد الاوربي الديمقراطية الحداثية المتقدمة , فان عمليات الارهاب الاعلامي وكبح الحريات والرأي الآخر والهيمنة التامة على اعادة تشكيل العقل والتفكير الجماعي للأمة الاسبانية , صارت من الوضوح والفضيحة بمكان لايمكن معهما لانسان شريف أن يسكت عليها , القنوات الفضائية الستّ الرئيسية ومنذ استلام حزب الشعب حكم البلاد بأغلبية عظمى , مشغولة ليلا ونهارا في برامج الجنس ونشر الدعارة والاهتمام وفقط بأخبار الساقطين والساقطات من نجوم المجتمع القذر الذي يسمى بالمخملي , ولاتكاد تجد في هذه القنوات مجتمعة برنامجا حواريا واحدا سياسيا أو ثقافيا , حتى نسي الناس أسماء المثقفين والكتاب والشعراء الاسبان الذين ازدهر وجودهم وانتاجهم أيام الحكم الاشتراكي الى درجة صارت فيها الثقافة هما وطنيا وقوميا , الا أن العهد الأثناري- البوشي الجديد , كما يدعوه النخبة من المفكرين وصناع الرأي من الاسبان جاء اسبانية بثقافة القمامة الاعلامية , والتي لاهدف من ورائها الا شغل الجمهور عن القضايا السياسية الكبرى التي تحاك من أمام الستار كما يقول الاستاذ الخطيب الكاتب في الراية , وليس من خلف الستار كما كان هو الحال من قبل !.
    قضايا على غاية من الخطورة , كغزو العراق ومحاسبة كل من رئيس الحكومة أثنار ووزيرة خارجيته على الكم
    ّ الهائل من الكذب والمداهنة , اعتقال مجموعات من الشباب العرب المقيمين في اسبانية والحاصلين على الجنسية الاسبانية والزجّ بهم في السجون دون محاكمات ولاتهم ومن ثم الافراج عنهم بكفالات مادية كبيرة , والاعلان في الصحف الرئيسية بعد ذلك وفي خبر جانبي هامشي عن براءتهم , سقوط طائرة عسكرية ومقتل أكثر من ستين عسكريا اسبانيا أثناء عودتهم من مهمة لحفظ السلام , تسمية خلف لرئيس الحكومة أثنار وشغل البلاد والعباد خلال أكثلر من عام في حل ّ هذا اللغز الأثناري المدهش !, تنامي الاعداد الهائلة للمهاجرين في البلاد وفي زمن قياسي ومن جنسيات خاصة كمواطني دول جنوب أمريكا اللاتينية وتنامي نسبة الجريمة المرتبطة بهؤلاء المواطنين الى درجة مذهلة , غرق ناقلات نفط على شواطئ غاليثيا الشمالية متسببة في القضاء شبه التام على البيئة في هاتيك الشواطئ , ومع البيئة اقتصاد المقاطعة وتعطل عشرات الآلاف من الصيادين المساكين عن العمل والرزق والحياة , قضايا كهذه على علاقة وثيقة بأداء الحكومة الديمقراطية وبقيام السيد أثنار بواجبه في حكم البلاد دستوريا وقانونيا , قضايا مثل هذه لايكاد يتطرق أحد لذكرها في القنوات التلفزيونية الافي البرامج الاخبارية الصباحية التي لايكاد يتابعها الا المختصون على درجة عالية في السياسة والصحافة والاعلام , ولاتتم معالجتها كما يجب في دولة تدّعي الديمقلااطية وحقوق الانسان .
    الصحف الاسبانية لاتتمتع بالقدر اللازم من الحرية ولامن الديمقراطية فهي تابعة رأسا للاحزاب التي تمتلكها ناطقة باسمها, ويستحيل على المشتغل في الصحافة الذي يريد الاطلاع على مسألة ما أن يلم بالمسألة دون الرجوع الى ثلاثة من هذه الصحف على الأقل ليجد في كل منها رأيا مخالفا تماما لما تقوله الصحيفةالأخرى , وأما البرامج الاذاعية فهي على حال الصحف من الابتعاد عن النزاهة في نقل الخبر وفي تحليله , وقد سمعنا أيام الاعداد لغزو العراق العجب العجاب من الكذب والتناقض بين الاذاعات الاسبانية الموالية والمناهضة للحكومة , وقد استخدمت حرب العراق كسلاح ماض في هذه المعركة بين اليمين واليسار الاسباني الذين جانبا كلاهما الحق والنزاهة والصدق في سبيل الوصول الى مكاسب سياسية, وخاصة الحزب الحاكم الذي بدا لي وكأنه لايختلف في شيء عن الاحزاب الحاكمة في بلادنا , ولولا وعد انتخابي سبق على لسان رئيس الحكومة الاسبانية بعدم الاستمرار في الحكم لأكثر من ثمانية أعوام لحكمنا السيد أثنار الى الأبد هو وأولاده وأحفادهوصهره , ذلك أنني لاأستبعد أن يكون صهره رئيسا للحكومة الاسبانية ذات يوم وهو الحائز على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية وأحد أبرز قيادات الحزب الحاكم وان اضطر يوم زفافه الى الاستقالة من مناصبه هذه حسب التوصيات الدستورية .
    اسبانية في عهد الحكم الأثناري –البوشي انتقلت وبحركة قليلة الدهاء لتصبح دولة شبه فاشية , تستخدم حكومتها الاعلام كوسيلة ماضية للسيطرة على الجماهير التي تمّ تغييبها بشكل لم يسبق له مثيل عن الحضور في الساحات السياسية والاعلامية , الديمقراطية الاسبانية في عهد الحروب العادلة المنصفة الشريفة ومنها على سبيل المثال الحرب على العراق أصيبت بمقتل , في زمن لم يعد فيه من معنى لكلمة ديمقراطية اللهم الا اسكات الرأي الآخر وتغييبه , واعتصام الحاكم بحماية القوة العظمى الأحادية له , والضرب عرض الحائط برأي الجمهور وارادته.
    البرنامج الاعلامي التلفزيوني الوحيد الذي يبث يوميا نصف ساعة من الحوارات السياسية في ساعات الاستماع والمشاهدة القصوى-وهي ساعة تناول طعام الغداء- , لايمكن أن يمريوم عليه الا بوجود شخصية صهيونية أو يهودية , بل ان هناك موظفين ثابتين من مدّعي الثقافة والاعلام من اليهود وبعضهم مستشار لدى السفير الاسرائيلي في مدريد , من الذين يتولون اعادة صياغة الرأي العام الاسباني ضد العرب والاسلام والمسلمين يوما فيوما , والذين والحق يقال هم أشدّ احتراما للعرب والاسلام والمسلمين من بعض كتاب بعض الصحف العربية من الحداثيين المطبلين المزمرين لفرض الديمقراطية الغربية في بلادنا ولو بالدبابات الاسرائيلية أو الأمريكية !..لم يستقدم هذا البرنامج قط مثقفا عربيا واحدا للدفاع عن فكرة واحدة تخدم الحق العربي , وان كان ودائما معظم الكتاب والاعلاميين والمثقفين الاسبان الذين ييحضرون الحوارات يحسبون رغم أنف وسائل الاعلام الاسبانية من مؤيدي الحق الفلسطيني دون قيد أو شرط , وهس حالة غالبة في اسبانية لم تستطع كل القوى الصهيونية مجتمعة تغييرها.
    التغيرات الهائلة في طبيعة الديمقراطية الاسبانية وفهم أبعادها ودورها ووسائلها , لم تؤثر على الشرفاء حتى من الاسبان , وان كانت قد أثرت على غير الشرفاء من أبناء جلدتنا .
    الأصوات تتعالى في كل مكان من اسبانية لحماية الديمقراطية التي اغتُصبت من قبل مجموعات اقتصادية هائلة من خارج البلاد استطاعت شراء قنوات تلفزيونية وصحف بأكملها تدير من خلالها الرأي العام في ظل حكم الحزب الواحد بالأغلبية المطلقة التي أصبحت تساوي هاهنا حكم الفرد في البلاد العربية .
    لقد ظهرت أنياب الديمقراطية التي تحمي نفسها بنص دساتير بدت عاجزة عن حماية الناس من ديكتاتورية الديمقراطيات الغربية التي لايمكن تسميتها اليوم الا بالفاشية وخاصة في كل من اسبانية وايطالية حيث يمكن شراء كل شيء وبيع كل شيء .
    المؤلم بالنسبة للمقيم في هذه البلاد هو مايجري فعلا في بلادنا من قهر واستعباد واستيطان واحتلال , أو تمثيل وتهريج وكذب وكفر وانسلاخ عن هذه الامة ...وكل ذلك باسم الرغبة في نشر الديمقراطية , أيها القوم انها اسطوانة مشروخة هذه التي تدندن بها أمريكا تارة وطابورها العاشر في أجهزة اعلامنا وصحافتنا تارة أخرى بينما يتم اغلاق كل مركز للحوار واخراس كل صوت مخالف وتوجيه صاروخ الى كل صدر يتنفس حرية وعزة وكرامة , انها أغنية قديمة هذه التي تتحدث عن الحب في زمن الكراهية , وعن الحداثة في زمن الغزو والحرب , وعن تحرير العراق في زمن امتصاص الخيرات والثروات واقتسام القصعات , وتتحدث عن الديمقراطية في زمن الأنياب المكشرة في الغرب والشرق والتي تستخدم حتى أقدس الكلمات والشعارات للقضاء على أمن العالم وقدرة الشعوب على التعايش  والاخاء.
    "
    (بهاية التعقيب)



     


      بعد مطالبة السود بتعويضات عن تجارة العبيد
    - كيف نطالب باحترام تاريخنا
     بينما لانعبر نحن عن ذلك الاحترام‏؟

     في المؤتمر الدولي لمكافحة العنصرية، الذي اختتم أعماله في ديربان بجنوب إفريقية في الأسبوع الأول من الشهر الحالي طالب السود بتعويضات عن تجارة العبيد والرق، طيلة 400 سنة عانى خلالها الإنسان الأسود من عذابات لا حصر لها، حيث ألقي مئات الألوف منهم في عرض المحيط حينا، وبيعت ملايين في أسواق العبيد بأبخس الأثمان، وعانت أجيالهم طويلاً من الرق والذل، جنبا إلى جنب مع عذابات الاقتلاع بطبيعة الحال‏.‏

    كان المنطق الذي استخدمه ممثلو السود في المؤتمر بسيطاً للغاية، إذ كما طولب العراق بدفع تعويضات بملايين الدولارات عن احتلاله للكويت، فلماذا لايطالب الرجل الأبيض بالمثل، بحيث تدفع الولايات المتحدة والدول الأوروبية تعويضات مماثلة عن سنوات الاستعمار والاستعباد، التي عاشت في ظلها القارة الإفريقية‏.‏ ولتيسير الأمر، فإن بعض الزعماء الأفارقة، الذين تحدثوا أمام المؤتمر، أشاروا إلى أن تقديم معونات إضافية لمشروعات التنمية بالدول الإفريقية، أو تخفيف عبء الديون على تلك الدول، قد يكون سبيلاً للخروج من أزمة التعويضات‏.‏

    لقد اعتبروا الرق من قبيل الجرائم المستمرة، التي ارتكبت ضد الإنسانية في قرون خلت، لكنها ستظل لعنة تطارد الذين قاموا بها، وتلاحق سلالاتهم، إلى الأبد، وما لم يفعلوا شيئاً لإزالة تلك الوصمة، فإن تاريخهم سيظل ملطخاً بالسواد، وظل السؤال هو‏:‏ كيف يعوض السود عما لحق بأبائهم وأجدادهم من عذابات‏؟‏

    لم يعتذر لنا الذين أهانونا من خارج بلادنا، ولم يعتذر لنا الذين أهانونا وأذلونا من قيادات بلادنا بل لايزال متعذراً على الأجيال الجديدة في العالم العربي أن تتعرف على التاريخ الحقيقي لأوطانها، التي عايشت أحداثاً جساماً خلال نصف القرن الأخير مثلاً، وهي الفترة التي شهدت ثلاثة حروب ضد إسرائيل، وحروباً عربية عربية، وأخرى داخل الوطن الواحد، قامت خلالها بعض الأنظمة بقصف شعوبها بالطائرات حينا وبالغاز السام في حين آخر، وبالسحق والاستئصال المادي والمعنوي في حين ثالث‏.‏

    لقد أصبح لدينا تاريخ مكتوب أملته السياسة وكيفته حسب هواها، وتاريخ شفهي يهمس به في الأذن وتتداوله المجالس الخاصة، وكان من الطبيعي إزاء ذلك أن تخرج الأجيال الجديدة مشتتة ومشوهة، ومسكونة بالهواجس والشكوك‏.‏ ومن ثم فاقدة الثقة في الحاضر والمستقبل‏.‏

    إننا لانستطيع أن نطالب الآخرين باحترام ذاكرتنا وتاريخنا، ما لم نبادر نحن إلى التعبير عن ذلك الاحترام، ولأن احترام تاريخ أي مجتمع جزء من احترام إنسانيته، فيبدو أننا لن نستطيع أن نتحصل على ذلك الاحترام ما لم يتوفر لنا حظ من الحرية والديمقراطية يسترد في ظلهما المواطن قيمته وكرامته‏.‏‏.‏ والله أعلم‏.


    ‏‏


    أوروبا تتحرك لإقامة الأمة
     والقطرية تعصف بالعالم العربي

     

    إن القواسم المشتركة بين العرب بعضهم البعض، وبين العرب والمسلمين بالعامة والإمكانيات التي توفرت لهؤلاء وهؤلاء، لو أنها اجتمعت لأمة أخرى على الأرض لصنعت العجب العجاب، ولكن ذلك كله لم يستثمر على وجه صحيح، لأن الخلل لايزال شديداً في الأبنية القطرية‏.‏

    ويوم تستقيم تلك الأمة وتنهض أقطارها على دعائم ديموقراطية حقيقية سيصبح الطريق مفتوحاً أمامها لكي تتقدم على طريق إحياء الأمة يوماً ما، حيث لم يعد في الأمر سر، وإنما للوحدة كما للتقدم، قوانينها وأصولها، ومن سار على الدرب وصل‏.‏

    إن الأوروبي أصبح مواطناً رسمياً في 15 دولة‏.‏ وغداً وبعد غد سيصبح كذلك في 30 دولة، وهو لم يعد شعر بالغربة في قارته كلها، أما العرب فأكثرهم يعيش غريباً في وطنه للأسف، ويوم يزول شعوره بالغربة في بلده ستكون تلك بداية تبديد غربته في وطنه الكبير‏.‏





    هل ينجح مخطط استئصال
     
    120 مليون مسلم في الهند‏‏؟‏‏

     

    ثمة خطر يلوح في أفق الهند، يهدد مسلميها ويستهدفهم، فغلاة الهندوس يبذلون جهوداً حثيثة لتعبئة قطاعات واسعة من البشر ضد المسلمين، ولاتقتصر التعبئة على غرس بذور بغضهم وتشويه سجلهم هناك، ولكنهاتجاوزت ذلك إلى الإعداد العسكري، وتهيئة الشباب لكي يخوض المعركة الفاصلة التي تخلص البلاد من بقايا ‏‏(‏‏‏‏(‏‏الغزاة المسلمين‏‏)‏‏‏‏)‏‏‏‏.‏‏

    الفكرة ليست جديدة، ولكن الأجواء المواتية التي حلت مع تولي حزب ‏‏(‏‏‏‏(‏‏بهارتيا جاناتا‏‏)‏‏‏‏)‏‏ اليميني للسلطة في الهند منذ عام 98، أفرزت شواهد ينبغي أن ترصد جيداً، في ذاتها وفي دلالاتها‏‏.‏‏

    فالحركة الهندوسية ‏‏هندوتثا أو الهندوية‏‏ الداعية إلى الإحياء الهندوسي‏‏.‏‏ رغم أنه ليس هناك من ماض ذهبي يمكن إحياؤه‏‏.‏‏ حلم قديم راود نفراً من الهندوس القوميين المتعصبين الذين عبرت عنهم العصبة الهندوسية ‏‏هندوسانغتان‏‏‏‏ منذ قرن من الزمان تقريباً‏‏.‏‏ وقد اعتبر هؤلاء في البداية أن معاداة الاستعمار البريطاني تعبير عن الهندوسية الناهضة، ومن بين الشعارات التي رفعتها الحركة آنذاك قبل ظهور المهاتما غاندي على المسرح السياسي ‏‏شووهي‏‏‏‏‏‏‏‏ أي التطهير، والمقصود به حمل المسلمين على العودة الهندوسية، والتخلص من المساجد التي أقاموها، والتي اعتبروها عدوانا على الهوية الهندوسية، وفي ذات الوقت فإنهم طالبوا بحظر ذبح البقر من جانب المسلمين، وإحياء احتفال ‏‏غاناباتي‏‏‏‏‏‏ الهندوسي‏‏.‏‏

    وحينما جاء غاندي وأسس حزب المؤتمر، فإنه استخدم الرموز الهندوسية في كفاحه السياسي، الأمر الذي غذى بصورة أو أخرى تيار الحركة القومية‏‏.‏‏

    ومما ساهم في إثارة الحساسية إزاء المسلمين، إن التاريخ الرسمي للهند، فضلاً عن خطاب الحركة الهندوسية، يحملان المسلمين المسؤولية عن تقسيم البلاد عام 1947م، بينما الحقيقة إن المطالبة بإنشاء الدولة الهندوسية ‏‏هندو راشترا‏‏‏‏ ونظرية العرق الآري، كانتا معروفتين منذ بداية القرن كما بينا، أي قبل عقود من اتخاذ الرابطة الإسلامية قرارها ‏‏‏‏في عام 1940م‏‏‏‏ بإنشاء دولة باكستان‏‏.‏‏‏‏‏




    يريدون هزيمة مستقبلنا
      بتغريب الأجيال الجديدة

    يصر الغربيون على إلحاق الهزيمة بنا على كل الجبهات، حتى قيمة أطفالنا لايريدون لها أن تفلت من هيمنتهم، ويعدون أعداداً لحوحاً لكي تتم إعادة تشكيل الأجيال الجديدة بحيث تتطبع بطبائعهم وتنصاع لمنظومة قيمهم وسلوكياتهم، وهو تدبير خطير يدهشنا من زاويتين‏:‏ من أنه حاصل أولاً ثم لأننا ساكتون عليه أو لاهون عنه ثانياً‏‏‏إنها إحدى حلقات مسلسل إعادة صياغة العالم لكي يدور في فلك المنظومة الغربية، في تحد غريب من نوعه لثقافات الآخرين وخصوصياتهم، وهي جرأة غير مسبوقة في اتساعها وشمولها، صحيح أن الدول الاستعمارية خلال القرنين الثامن والتاسع عشر زحفت على العالم الفقير في آسيا وإفريقية، وبسطت هيمنتها على دوله سياسياً وثقافياً، زاعمة في ذلك أنها قصدت ‏(‏‏(‏تحضير‏)‏‏)‏ ذلك العالم المتخلف، لكن ذلك كان احتلالاً صريحاً من ناحية، ثم إنه سعى إلى تغيير سلوك شرائح معينة في تلك المجتمعات، لكي تكون عوناً وامتداداً لها، لكننا لم نعرف ذلك الاجتياح الحاصل الآن، المراد به إعادة صياغة العالم بحيث يتشكل وفقاً للهوى الغربي، من خلال المنظمات والمواثيق الدولية، ودونما لجوء إلى الاحتلال والقوة العسكرية، وهي الظاهرة التي برزت إلى الوجود بعد انتهاء الحرب الباردة، وفي ظل الانتصار الكاسح للنموذج الغربي الذي أعقب سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار المنظومة الاشتراكية، وسواء كان ذلك الانتصار راجعاً لقوة في النموذج الغربي، أو نتيجة لضعف وتفكك منظومة الدول الاشتراكية، فالشاهد أن الغرب بزعامة الولايات المتحدة استفرد بالساحة في النهاية، وقرر أن يبسط هيمنته على كل الميادين، من السياسة إلى الأخلاق‏.‏

    أقول هذا الكلام بمناسبة اقتراب موعد اجتماع المؤتمر العالمي للطفل، الذي سيعقد في التاسع عشر من شهر سبتمبر ‏(‏أيلول‏)‏ المقبل، وقد تم إعداد وثيقة دولية لحقوق الطفل، خلال ثلاثة مؤتمرات تحضيرية تمت لهذا الغرض، حملت اسم ‏(‏‏(‏عالم جدير بالأطفال‏)‏‏)‏، وهذه الوثيقة تعكس إلى حد كبير الرؤية الغربية للموضوع، وتسعى إلى وضع إطار لحقوق الطفل من وجهة نظر منظومة القيم الغربية، شأنها في ذلك شأن الوثائق السابقة للمرأة والسكان، مما بدا شاهداً على المحاولة الدؤوبة لعولمة ‏(‏لتغريب إن شئت الدقة‏)‏ النظم الاجتماعية والأخلاقية للدول المختلفة، وهي المحاولة التي قلنا أنها تتحدى الخصوصيات الثقافية لشعوب العالم‏.




     الحسن الثاني باع القضية لليهود

     

    في الأسبوع الماضي أزاح أحد الكتاب البريطانيين الستار عن وجه مسكوت عليه في قصة اغتصاب فلسطين، وقال صراحة أن الصهاينة دفعوا رشاوى لبعض المسؤولين المغاربة لتيسير  تهجير يهود  المغرب إلى إسرائيل، وحدد المبالغ والأسماء، كما سنرى حالاً، وهو بهذه المعلومات فتح الباب لمناقشة دور المنظمات الصهيونية في دفع يهود العالم العربي إلى الهجرة، الأمر الذي يكذب الإدعاء الإسرائيلي الذي يصر على أن أولئك اليهود عانوا من الاضطهاد وأجبروا أو اضطروا إلى الهجرة، وهو إدعاء لاتكتفي إسرائيل فيه بالكذب وطمس الحقيقة، ولكن تبني عليه مطالب أخرى بتعويضات عن أموال وممتلكات اليهود التي ‏(‏‏(‏اضطروا‏)‏‏)‏ إلى تركها في البلدان التي هاجروا منها، وهي الأموال التي تقدرها بمئات الملايين من الدولارات‏.‏
     

    أثار اهتمامي الكتاب الجديد من زاويتين، الأولى لما تضمنه من معلومات دقيقة في هذه المسألة، ثم لأنه يتيح لنا أن نروي بقية القصة، التي يجري التعليم عليها بشدة، وفي مكتبتي كتاب بالغ الأهمية في الموضوع ألفه يهودي عراقي هاجر إلى إسرائيل مع أسرته، وسجل بدقة متناهية حقائق وخلفيات وضع اليهود العرب، الذين تم تهجيرهم إلى إسرائيل، ولكن الكتاب حوصر ودفن، ولم يلتفت أحد إلى خطورة المعلومات التي تضمنها‏.‏
     

    الكتاب الأول ألفه صحافي بريطاني هو ستيفن هيوز، كان في السابق مراسلاً لوكالة أنباء ‏(‏‏(‏رويترز‏)‏‏)‏ في المغرب، أما عنوانه فهو‏:‏ ‏(‏‏(‏المغرب في عهد الملك الحسن‏)‏‏)‏، ولم تكن هجرة اليهود موضوعه الأساسي، ولكنها كانت ضمن أحد فصوله باعتبار أن الكتاب كان عبارة عن سرد لتجربة المؤلف في المملكة المغربية، وظروف وخلفيات الأحداث التي كان قريباً منها بحكم عمله هناك‏.‏

    في ما خص هجرة اليهود قال الكاتب‏:‏ إنه بعد استقلال المغرب في عام 1956 أجرى عملاء المخابرات الإسرائيلية اتصالات مع أحد مسؤولي المغرب لترتيب استمرار هجرة اليهود بصورة سرية، وفي هذا السياق ذكر أن وزيراً مغربياً سابقاً للتعليم من رجال الحرس القديم في حزب الاستقلال هو الذي عقد الصفقة فإن الوزير حصل على نصف مليون دولار نقداً في فندق بمدينة جنيف في خريف 1961، كما أدعى الكتاب أنه تم تحصيل رسوم بمقدار 250دولاراً عن كل يهودي يغادر المغرب‏.


    ‏‏


     قراءة في11 نصاً قرآنياً متهمة يهوديا بتشجيع "الإرهاب"

    في 12/1 الماضي، نشرت صحيفة (أرولاندو سينتينال) ما نصه: للأسف فإن تعاليم الإسلام قد فسرت على نحو يدعم الإرهاب، فضلاً عن ذلك فإن أي نقد للقرآن محظور تماماً، بل يؤدي إلى تعريض صاحبه للقتل، كما حدث بالنسبة للفتاوى، التي صدرت بحق الكاتبين سلمان رشدي وتسليمة نسرين.

    هذا الكلام ليس تعبيراً عن رأي في الجريدة فحسب، ولكنه نموذج للخطاب الإعلامي الناقد للإسلام، الذي تردده الأبواق بصياغات مختلفة، ولكي تعزز ادعاءها، فإنها غالباً ما تستشهد بإحدى عشرة آية قرآنية أوردها تقرير مجلس العلاقات الإسلامية الأميركية هي:
     

    - {وَأَعِدُّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 8/60].
     

    -{وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 2/190].
     

    - {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ} [البقرة: 2/191].
     

    - {وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاّ عَلَى الظّالِمِينَ} [البقرة: 2/193].
     

    - {فَإِذا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 9/5].
     

    - {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [التوبة: 9/12].
     

    - {قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 9/14].
     

    - {يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 9/123].
     

    - {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 22/39].
     

    - {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 61/4].
     

    - {إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 5/33].
     

    حين أطلعت على الآيات خيل لي أن شخصاً ما جاء بمعجم ألفاظ القرآن الكريم، وفتش عن كلمة قتل أو قتال أو ترهيب، ثم انتقى بعضاً من الآيات التي وردت فيها الكلمة، وراح يستشهد بها متهماً المسلمين بأنهم قتلة وإرهابيون، لأن كتابهم ذكر القتل في مواضع عدة، وحين فعل ذلك فإنه لم يحاول أن يقرأ ما قبل الآيات وما بعدها، ناهيك من أنه لم تكن لديه فكرة عن الإسلام أصلاً.

    وإذا افترضت الجهل بالموضوع، فإنني لا أستطيع أن أستبعد سوء القصد، خصوصاً من جانب أهل العلم الذين شاركوا في حملة التشويه، وفي  المقدمة منهم المستشرق المعروف اليهودي برنارد لويس.


     


           لماذا؟؟   
    حين يغيب الهم المشترك
     تبرزالعصبيات والفتن والفوضى

    من بين التحليلات والاجتهادات التي نشرتها الصحف المصرية في أعقاب وقوع مذبحة الثأر في الصعيد، استلفت نظري تحليل عميق لأحد الباحثين حاول فيه أن يجيب على ذلك السؤال الغائب أو المغيب: لماذا؟ ولأنه انصب على دراسة الواقع وظواهره السلبية التي أدت إلى بروز الظاهرة على ذلك النحو المأساوي، فلم تحتمله سوى إحدى صحف المعارضة، وهي صحيفة (العربي) الناطقة باسم الحزب الناصري في مصر (عدد 24/8).

    صاحب التحليل المتميز هو ضياء رضوان، الباحث بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في مؤسسة (الأهرام) وهو في الوقت ذاته من أبناء أقاصي الصعيد، الذي كان مسرحاً للجريمة المروعة، استعاد الباحث وضع الصعيد قبل ثورة 52 في مصر. وذكرنا بأنه كان يتقلب في الفقر والبؤس، شأنه في ذلك شأن كل (جنوب) في دول العالم الثالث خاصة، لكن قيام الثورة احيا بين الناس أملهم في حياة أفضل، وأشار في هذا الصدد إلى أنه رغم ما صادف مسيرة الثورة من صعوبات وانتكاسات، إلا أن سنواتها ((كانت صاعدة ومفعمة بالأمل)). وعلى حد تعبيره: فإنه في تلك السنوات الصعبة ((كانت الدولة حاضرة هناك في كل أرجاء الصعيد، توزع الوظائف والكهرباء والطرق والمياه النقية والمدارس، وقبل ذلك الولاء لبنية حديثة أكبر من العائلة والقبيلة والبدنة والبيت، التي راحت كلها تتفكك، لتذوب تدريجياً في ذلك الوعاء الحديث الأكبر، أي دولة التوافق الوطني العادلة)).

    وأضاف أنه في تلك السنوات الصعبة الصاعدة المفعمة بالأمل، وبحضور الدولة وتزايد الولاء لها ولرموزها، وبتراجع البنى الاجتماعية والتقليدية الأخرى لصالحها، تراجعت معها ممارسات العنف التي يعرفها الصعيد، وتدفعه إليها بنيته الاجتماعية والجغرافية والتقليدية، وتراجع معها الثأر الذي ليس سوى عنف مضاد لعنف أول، وفي تلك السنوات بدا الصعيد، كما مثلته مدن مثل أسوان والسد العالي ونجع حمادي ومجمع الألمونيوم، وكأنه على وشك الأفلات من أزماته المركبة بما فيها العنف والثأر، وعلى وشك الدخول إلى مرحلة جديدة تخطط فيها أفضل قيمه ومؤسساته التقليدية مع قيم ومؤسسات الحداثة الوطنية التي آتت بها الثورة.

    في منتصف السبعينيات، ومع الدخول في رحلة (الانفتاح) التي ارتفعت فيها حظوظ وأسهم الأغنياء وتراجع دور الفقراء، بدأت الدولة تسحب يدها من الصعيد، ومن المجتمع كله، وترتب على ذلك أنها تركت وراءها فيه فجوات واسعة، كان لابد من أن تتقدم هياكل وانتماءات أخرى لكي تملأها، وفي الصعيد، ليس هنا أقرب ولا أقدر من العائلة والقبيلة والبدنة والقيم المرتبطة بها على ملء تلك الفجوات التي راحت تتسع يوماً بعد يوم.

    كانت النتيجة أن عاد الانتماء لتلك الكيانات في الصعيد خلال السنوات الأخيرة ليضحي بالنسبة لأبنائها الأكثر أهمية وأولوية على ما أبداه من انتماءات، حيث يجدون فيها الحماية النفسية والمعنوية بعدما غابت عنهم حماية الدولة العادلة المادية والمعنوية، وقد بدت مشاهد تلك العودة واضحة في أرجاء الصعيد، خاصة من أبنائه المتعلمين الذين اجتاحتهم البطالة فلم يعد أمامهم غير استرجاع الماضي ((العريق)) لعائلاتهم، سواء كان حقيقياً أو متخيلاً، في (ديوان العائلة) أو مقرها العام، الذي أصبح الملجأ الوحيد لهم الذي يتجمعون فيه ليلاً ونهاراً بعد أن فقدوا الطريق إلى دواوين الحكومة أو مقار الشركات الخاصة، حيث كان يمكن أن يجدوا عملاً وانتماء آخر يرتبطون به وبقيمه.

    عادت تلك الكيانات العائلية والقبلية لكي تهيمن على الصعيد من جديد ولتنشب بينها الصراعات المختلفة على الموارد الاقتصادية والسياسية والمعنوية القليلة بطبيعتها في تلك البيئة القاحلة الفقيرة، وفي ظل ذلك الوضع الجديد الآخذ في التدهور عادت مختلف صور العنف لكي تهيمن على مصر كلها، وفي مقدمتها ذلك الصعيد الذي اجتمعت فيه أسباب إضافية لكي تزيد من معدلاته، مثل وجود قبائل أو عائلات ذات أصول عربية في مناطق عديدة منه تؤمن بقيم وممارسات العنف والثأر، أو مثل تركز معظم تلك المناطق المشتعلة بالثأر والعنف في مناطق بعيدة عن وادي النيل تقترب من الجبال أو الصحارى، حيث تندر مصادر الثروة ويزداد تطبع سكانها بطابع أكثر بدوية وعنفاً من سكان الوادي. بعودة العنف بعد تراجع الدولة الوطنية العادلة في الصعيد كان لابد من أن يعود الثأر أيضاً باعتباره العنف المضاد. بعودة العائلة والقبيلة، عاد الثأر ليمثل آلية التوازن الاجتماعي الرئيسية بين مختلف عائلات وقبائل الصعيد المتفاوتة القدرات المالية والعددية والسياسية والمتنافسة فيما بينها حول الموارد النادرة، حيث بدا أن غيابه، كقيمة شائعة متوافق عليها وليس كممارسة منفلتة، يمكن له أن يؤدي إلى نقاط استعمال وتجاوز عديدة من الأقوى في حق الأضعف من العائلات والقبائل من دون حساب لأي ردود أفعال، بهذا المعنى فإن شيوع واستقرار قيمة الثأر بداخل البنية الاجتماعية في الصعيد أضحى يلعب دور الرادع لتلك التجاوزات والاعتداءات التي قد ترتكبها العائلات والقبائل الأقوى مادياً وتسليحاً والأكثر عدداً في حق العائلات الأقل منها، أي إن تلك القيمة بالضوابط الموضوعة على ممارستها أضحت تلعب دوراً مهماً في حفظ التوازن والاستقرار بداخل بنية الصعيد الاجتماعية، على الرغم من العنف الذي يشوب ممارستها واقعياً، ولم يكن للأثر كقيمة اجتماعية أو كممارسة عنفيه أن يعود بهذه الحدة والانتشار سوى بسبب انسحاب الدولة وغياب حضورها العادل في مختلف مستويات الحياة






    هل كراهية الغرب من
     مستلزمات
    إيمان المسلم؟

    إن الكلام عن كراهية المسلمين للغرب حق يراد به باطل، فضلاً عن أن الصيغة التي يعرض بها هذا الموقف لا تخلو من تدليس، لماذا وكيف؟

    هو حق لأن شعور الكراهية موجود بالفعل، ولكن ذلك الشعور ليس موجهاً ضد الغرب الجغرافي، ولا إلى الناس في الغرب، ولا العلم أو الديمقراطية أو الرخاء النسبي أو غير ذلك، ولكنه موجه بالدرجة الأولى ضد السياسة الظالمة التي تتبعها حكومات وساسة أهم الدول الغربية إزاء العرب والمسلمين وقضاياهم، وفي المقدمة منها الولايات المتحدة، ووجه التدليس هنا يكمن في أن الذين يتحدثون عن عداء المسلمين للغربيين يخدعون الجمهور المتلقي، ويخفون عنه أن مشاعر الكراهية والرفض منصبة على السياسة والساسة في الغرب، وهم من وجهة نظر العرب والمسلمين ظالمون ومنكرون لحقوقهم ومتواطنون مع أعدائهم.

    نعم في عالمنا العربي أناس يكرهون الغرب ((الكافر)) على إطلاقه، بسياساته ونظمه وناسه وملته، وهؤلاء هم الذين يقولون أن العلاقة مع الغرب لا يمكن أن تقوم على أساس من التعايش والتصالح، ولكنها علاقة مع عدو يجب إعلان الحرب ضده، حتى يدخل أهله في الإسلام، أو ((يعطوا الجزية وهم صاغرون))، كما يقول النص القرآني الذي اساؤوا تأويله، وتجاهلوا أن الآية تتحدث عن مواجهة تعرض فيها المسلمون لعدوان الآخرين وظلمهم، كما تجاهلوا الأمر القرآني الذي ينهي المسلمين عن البدء بالعدوان على غيرهم، ويقرر أن الله لا يحب المعتدين. وتلك الإشارات العديدة التي تقرر أن الأصل في العلاقة مع من يسالم المسلمين هو المودة والإحسان.

    أمثال هؤلاء يشكلون شذوذاً واستثناء في العالم العربي، ولا أظن أن نسبتهم تتجاوز نسبة أهل الشذوذ الفكري والتشوه العقلي الموجودين في أي مجتمع آخر، من ثم، فلا يجوز تعميم موقفهم على الآخرين، ولا ينبغي أن يؤخذ موقفهم على محمل الجد، من الناحية الفكرية على الأقل، وقد كان الشيخ محمد الغزالي رحمه الله من أعلى الأصوات التي نددت بأفكار هؤلاء ومواقفهم، وقد سمعته ذات يوم يقول متندراً أن من غريب أمر هؤلاء الذين يريدون إعلان الحرب على الغرب أنهم لا يملكون شيئاً يحاربونه به، وإنما عليهم في هذه الحال أن يستوردوا تلك الأسلحة من الغرب لكي يحاربوه بها



     الحرية قبل الديموقراطية
     وليس بعدها

    2005-01-25

    من أغرب مفارقات زماننا ان شعوبا عدة فى عالمنا العربى باتت تساق الى انتخابات «حرة تماما»، فى حين ان تلك الشعوب فاقدة الحرية من الاساس. الامر الذى يجسد الفصل بين الديموقراطية والحرية، فيستدعى الاولى ويؤجل الثانية، على نحو لا يختلف عن وضع العربة أمام الحصان.

    بين ايدينا نموذجان طازجان يجسدان تلك المفارقة : الانتخابات الفلسطينية التى تابعنا احداثها قبل ايام قليلة (فى التاسع من شهر يناير الحالى)، والانتخابات العراقية التى يفترض ان تجرى بعد خمسة أيام. فى كلتا الحالتين يرزح الشعب تحت احتلال من العيار الثقيل. كما ان الانتخابات تعد مطلبا للمحتل، مضمراً اسرائيليا فى الحالة الفلسطينية، لكنه معلن ومشهور امريكيا فى الحالة العراقية، لدرجة ان الرئيس بوش شخصيا يقف على رأس المطالبين باجرائها فى موعدها. فضلا عن ذلك فهى «مفصلة» بحيث تحقق المصالح المرجوة. آية ذلك ان اللاجئين المقيمين بالخارج حرموا من التصويت فى الحالة الفلسطينية رغم ان عددهم يتراوح بين 4 و5 ملايين شخص، فى حين أنهم فى الحالة العراقية (عددهم مليونان) استدعوا للتصويت حيثما كانوا، فى مشارق الارض ومغاربها. وحين يكون الامر كذلك فلابد أن يبعث على الشك والارتياب، حيث لا يخطر على بال احد أن يكون الدافع اليه هو الحرص على صدق تمثيل الارادة الشعبية للفلسطينيين والعراقيين. وهو ما لا نتوقعه فى أرييل شارون، ولم نعرفه فى ممارسات الرئيس بوش. ثم اننا لم نقرأ فى أى تحليل امريكى محترم ان احدا منهما مشغول بالمسألة من هذه الزاوية، الامر الذى يعنى ان لهما «مآرب اخرى» تخدم مصالحهما فى نهاية المطاف. فاسرائيل التى سعت الى التخلص من الرئيس ياسر عرفات، ومازال اتهامها بتسميمه معلقا فى رقبتها، رحبت بالانتخابات التى اتت بقيادة فلسطينية جديدة املا فى تحقيق هدفين، اولهما وقف الانتفاضة وشل حركة المقاومة المسلحة، وثانيهما التوصل الى تسوية تنتهى باقامة دولة فلسطينية (فى غزه على الارجح) مع تأجيل كافة القضايا الجوهرية الاخرى فى الملف : القدس والاستيطان واللاجئون والحدود.
    فى العراق المصلحة واضحة. فالانتخابات التشريعية التى تصر الولايات المتحدة على اجرائها فى موعدها (30 يناير) لا تختلف فى مقاصدها عن الاستفتاء الصورى الذى اجرته سلطة الاحتلال البريطانى هناك عام 1919 (عقب انتفاضة النجف عام 1917). اذ أرادت به اضفاء الشرعيه على استمرار الاحتلال والادارة البريطانية، الامر الذى اعتبره مجلس الحلفاء مسوغا لفرض الانتداب على العراق فى عام .1920 غير ان الحيلة لم تنطل على العراقيين الذين تزايدت نقمتهم، فانفجر غضبهم فى ثورة العشرين. الامر الذى اضطر الانجليز الى دعوة الامير فيصل بن الحسين والمناداة به ملكا على العراق على رأس نظام دستورى نيابى ديموقراطى، ايدته الجماهير فى استفتاء اجرى عام .1921 وكان اول انجاز قام به الملك الجديد بعد تنصيبه ـ بناء على الارادة الشعبية ـ انه وقع فى العام التالى مباشرة المعاهدة التى قننت الانتداب وابقت على النفوذ البريطانى فى العراق. ومن الطريف ان المعاهدة نصت فى مادتها الثالثة على ضرورة تشكيل مجلس تأسيسي، كي يضع دستورا للمملكة ويصدر قانونا للانتخابات لضمان تمثيل الارادة الشعبية. هذا الذى فعله البريطانيون فى عشرينيات القرن الماضى، هو بالضبط ما يريده الامريكيون فى آخر يناير الحالى. ان بتشكيل مجلس نيابى عراقى منتخب، يضفى شرعية على الوضع المستجد، خصوصا التواجد العسكرى الامريكى، ويؤمن مختلف المصالح الامريكية التى كانت دافعا الى الغزو.
    فى الحالتين انفصلت الاجراءات الديموقراطية عن قضية السيادة الوطنية، وبالتالى انفصلت حرية الوطن عن حرية المواطنين. واصبحت الانتخابات او الاستفتاءات غاية بحد ذاتها، بمقتضاها وظفت لتحقيق مصالح الاحتلال، ومن ثم لأغراض لا علاقة لها بحرية الوطن او بحرية المواطنين. رغم أن المواطنين صوتوا فيها ـ أو يفترض ان يصوتوا فيها ـ بمنتهى الحرية!

    تلك حالة قصوى للمفاصلة بين الديموقراطية والحرية، دونها حالات اخرى كثيرة شائعة فى العالم الثالث والعربى ضمنا، تكررت فيها المفاصلة ذاتها، ولكنها وظفت لصالح استمرار احتكار السلطة وتكريس الاوضاع غيرالديموقراطية. فقد تابعنا خلال العقود الثلاثة الاخيرة جهودا حثيثة لاستخدام قيم الديموقراطية وعناوينها فى ذلك الاتجاه. وشهدنا تنافسا على رفع اللافتات ونصب الهياكل الديموقراطية دون ان يكون لذلك كله اى ترجمة او ممارسة على صعيد الواقع. وحين تواترت تلك المحاولات فان العناوين الديموقراطية فرغت من مضمونها وجرى ابتذالها.
    قبل سنوات حين تولى ميخائيل جورباتشوف زعامة الاتحاد السوفيتى ورفع شعار (البريسترويكا) او اعادة البناء، وكان للشعار صداه الذى تردد فى العالم الخارجى، خرجت الابواق الاعلامية الرسمية فى احدى دول المغرب العربى معلنة على الملأ ان زعيمها كان سباقا الى الدعوة لاعادة البناء، منذ قام بحركتة التصحيحية، التى قومت ماكان معوجا واخرجت الامة من ظلمات البؤس والاحباط الى نورالامل والرجاء. وحين اختبرت التجربة واحتل النموذج مكانا دائما ومتميزا فى التقارير السنوية التى تسجل انتهاكات حقوق الانسان، جرى تكثيف الحملة الدعائية، التي زفت الى الجميع اخبارتقرير مادة حقوق الانسان فى كل مراحل التعليم، وانشاء مكتب لحقوق الانسان فى كل وزارة وكل محافظة. ومن ثم امتدت اللافتة بطول البلاد وعرضها، دون ان يكون لها اى تنزيل على الارض! وفى وقت لاحق حين انتخب تونى بلير رئيسا للوزارء في بريطانيا، وتبنى انذاك شعار «الطريق الثالث» بين الاشتراكية والرأسمالية، فان اعلام قطر عربى اخر قال انه اخذها عن شعار «النظرية الثالثة» الذى اطلقته قيادة ذلك البلد. وبعدما صارت لافتة «التعددية» عنوانا للمرحلة التى اعقبت سقوط جدار برلين، سمعت خطيبا للجمعة فى احدى دول الخليج وهو يشيد بالفكرة ويعتبرها انجازا اسلاميا سبقنا به الجميع، تجلى فى سماحه بتعدد الزوجات. واخيرا حين رفع فى الافق العربى شعار «الاصلاح السياسى»، وشاع الحديث عنه فى مختلف الاوساط السياسية وغير السياسية، فان اكثر من قيادة عربية ذكرت ان الامر ليس جديدا عليها. وان الاصلاح هو هدف كل ماتتخذه من اجراءات، باعتبار انها ما جاءت الا لتصلح. وظل ذلك ديدنها طول الوقت. بالتالى فهى ليست معنية بتلك الدعوة ولا هى مطالبة باكثر مما تؤديه فعلا.

    طالما ظل الجدل محصورا فى اجراءات الديموقراطية واشكالها وليس فى وظيفتها و غاياتها، فان قضية الحرية ستكون هى الضحية فى نهاية المطاف. فالانتخابات مهمة لا ريب، ولكن ما لم تكن سبيلا الى المشاركة في القرار السياسي والى الحساب والمساءلة. وما لم تكن صيغة تكفل التداول السلمي للسلطة، فأنها تغدو عبئا على الديموقراطية وليست عونا أو رافعة لها. إذ حين لا ترتب الانتخابات أيا من تلك الوظائف، ولا تكون وسيلة لتحقيق تلك المقاصد، فإنها تصبح غاية في ذاتها تخدم الحاكمين فتحسن صورتهم، وتنقطع صلتها بالمحكومين الذين لاتتحقق مصالحهم إلا من خلال المشاركة والمساءلة والتداول.
    ان شئت فقل ان الانتخابات الحرة ليست فقط تلك التي تتوفر لها حرية التصويت أمام صناديق الاقتراع، ولكنها أيضا تلك التي يتمتع فيها المواطنون بحرية الارادة والاختيار. أعني أنها ليست فقط تلك التي يمكن فيها الناس من التصويت بغير ضغط ولا إكراه أو ارهاب، أو تلك التي يتم فيها فرز الأصوات دون تلاعب أو تزوير. إذ الأهم من ذلك أن تتم في جو ترفرف عليه رايات الحرية، حرية التعبير وحرية إصدار الصحف وحرية تشكيل الأحزاب السياسية... ألخ. وهي الظروف التي من شأنها تحرير إرادة المواطن وتعزيز قوة المجتمع وتحصينه، من خلال ما تفرزه من مؤسسات مدنية ومنابر مستقلة تسهم في تشكيل الرأي العام، وتكبح جماح السلطة وتحول دون تغولها أو طغيانها.
    إن الانتخابات حين تصبح غاية فإنها في أحسن فروضها توفر «لحظة حرية». وحين تظل وسيلة فإنها تصنع مجتمعا حرا. ومن أسف أن لحظة الحرية هي التي يجري تسويقها الآن. ويتضاعف الاسف حين نجد أن النخبة مشغولة بترقب تلك اللحظة بأكثر من تركيزها على استحقاقات وشرائط اقامة المجتمع الحر المشارك والفعال.
    ما يسري على الانتخابات ينطبق بذات القدر على غيرها من عناوين ومفردات الممارسة الديموقراطية ، من قبيل تشكيل الأحزاب وتأسيس مجالس ومنظمات حقوق الانسان والدعوة لاقامة مؤسسات المجتمع المدني وتمكين النساء من شغل الوظائف القيادية والعامة.... الخ. ذلك أن تلك الجهود كلها إذا تحولت الى غايات ولم تصب في وعاء المشاركة الحقيقية وتعزيز الحرية في المجتمع، فانها تصبح من قبيل محاولات الإلهاء التي تؤدي الى تزييف الديموقراطية وتفريغها من مضمونها.

    لا بديل عن وضع الحصان أمام العربة لكي تتقدم المسيرة صوب بر الامان. ولذلك فلا مفر من تقديم الحرية على الديموقراطية واعتبارها مقاسا لها. إذ بالاولى نصل الى الثانية بصورة تلقائية، في حين أن التجربة علمتنا أن العكس غير صحيح. بمعنى أن الديموقراطية الشكلية يمكن توظيفها لأجهاض قيمة الحرية وأحداث قطيعة معها.
    ليس في الأمر مغامرة من أي نوع. هذا ما تؤكده خبرة بلد كالهند وصل عدد سكانه الى مليار نسمة، وتعايشت في ظله تمايزات وتناقضات عرقية ودينية واقتصادية لا حصر لها، جعلته أصعب بلد يمكن أن تمارس فيه الديموقراطية. لكنه بالحرية امتص تلك التناقضات، وحقق في ظلها إنجازات اقتصادية كبيرة. وقدم نموذجا للاستقرار النسبي القائم على التسامح وتداول السلطة، الأمر الذي أضاف الى رصيد الهند انجازا سياسيا جديرا بالاحترام والاحتذاء.
    ما حدث في الهند حصل مع أندونيسيا (250 مليون نسمة) التي بدورها بلد صعب للغاية، يحفل بالتناقضات والمشاكل التي تراوحت بين الصراعات الدينية (بين المسيحيين والمسلمين) وبين دعوات الانفصال في (مقاطعة آتشيه مثلا). ومع ذلك فإن البلد خاض التجربة الديموقراطية الى نهايتها، وتم فيه تداول السلطة ثلاث مرات خلال السنوات التي أعقبت سقوط نظام الرئيس سوهارتو في عام 1998، بعدما ظل محتكرا لها طيلة 32 عاما، احتمى فيها الفساد بالاستبداد.
    لم يكن في النجاح السياسي الذي حققه البلدان وكفل لهما الاستقرار سر. وانما الذي حدث لهما انهما اتبعا ذلك النهج البسيط الذي بمقتضاه تم وضع الحصان أمام العربة. فتجاوزا ديموقراطية اللحظة والمناسبة وتعاملا مع الانتخابات بحسبانها وسيلة لاغناء المشاركة، لا غاية استهدفت تثبيت ما هو قائم. لذلك فإنها كفلت في يسر شديد تداول السلطة، فأضفت حيوية على الحياة السياسية، وازالت كل اسباب الانسداد ومن ثم الاحتقان السياسي. في الوقت ذاته فانها رسخت اقتناع الناس بإمكانية تحقيق التغيير السلمي، الامر الذي قطع الطريق تلقائيا على دعاة التغيير بالعنف. حتى المتطرفون السيخ الذين يمثلهم حزب «بهارتيا جاناتا» حينما جاءوا الى السلطة في الهند (عام 99) فأنهم تقلدوا موقعهم برضى الناس واختيارهم - بأصوات الأغلبية أعني ـ لكنهم أضطروا للتخلي عنها في أول انتخابات لاحقة (عام 2004) حين فاز حزب المؤتمر بأصوات الأغلبية. ومن ثم حق له أن يرأس الحكومة لمدة 5 سنوات على الأقل.

    لماذا الحرية والديموقراطية الحقيقية ولادة عسيرة في العالم العربي دون غيره من بقية أقاليم واقطار العالم؟
    من السخف أن يرد على السؤال بإحالة الأجابة الى «جينات» الانسان العربي، بدعوى أن تركيبته العضوية والنفسية لا تستجيب لقيم من ذلك القبيل. وأسخف من ذلك أن تتهم في ذلك عقيدة الأغلبية المسلمة في العالم العربي، بدعوى أن ثمة شيئا غلطا في العقيدة، يفضي الى تلك النتيجة البائسة. وهو الكلام الذي يردده نفر من الباحثين الغلاة، الذين يكرهون الاسلام والمسلمين (بعضهم عرب للأسف) ومنهم المستشرق اليهودي برنارد لويس، الذي ما برح يسوق الفكرة خصوصا في كتابه «أين الخطأ»، متصدرا قائمة المنظرين لتشويه كل ما له صلة بالعرب أو المسلمين. وهم المنظرون الذين يلوون التاريخ، ولا يترددون في «حرق» مراحله، وتجاهل حقيقة الحضارة العظيمة التي أقامها العرب والمسلمون يوما ما، وكانت ومازالت بمثابة صفحة مضيئة ومشرقة في سجل المسيرة الانسانية.
    لكنني لا أتردد على الاجابة بأمرين، أولهما أن عسر ولادة الحرية والديموقراطية في العالم العربي راجع الى فشل النخب العربية في الدفاع عن استحقاقاتهما. ولهذا الفشل اسباب يطول شرحها، بعضها يتعلق بالبيئة السياسية والبعض الأخر يتعلق بالصراع الفكري الذي غيب الاجماع الوطني، خصوصا بين النخب العلمانية والاسلامية.. الأمر الثاني أن مصالح القوى المهيمنة في الخارج والداخل التقت على ضرورة اجهاض أي جهد من شأنه التوافق على أقامة مجتمع الحرية والديموقراطية، الذي سيكون بالضرورة رافضا للهيمنة الغربية. وتحضرني هنا الشهادة المهمة والمثيرة التي أوردها الدبلوماسي البريطاني المخضرم جون كاي في كتابه الذي أصدره بعنوان «زرع الريح» وعالج فيه جذور الصراع في الشرق الاوسط. في ذلك الكتاب، الذي أشرت الى مضمونه في مقال سابق، قال صاحبنا صراحة ان العالم العربي ضحية موقعه الفريد في قلب العالم. وهو الموقع الذي جعل قوى الهيمنة تتنافس في السيطرة عليه. وأضاف أن الدول الغربية هي التي رسمت الخريطة السياسية للمنطقة (في سايكس بيكو عام 1916)، وهي حريصة على الابقاء على تلك الخريطة كما هي حتى الآن. ومنذئذ فان تلك الدول المهيمنة لم تتوقف عن التدخل في مسيرة المنطقة وفي صياغتها وفقا لمصالحها الاستراتيجية.
    خلاصة هذا الرأي أن تغييب الحرية والابقاء على الديموقراطية الشكلية هو الوضع الامثل الذي يطمئن قوى الهيمنة إلى استمرار مصالحها الاستراتيجية، التي أصبحت مختزلة في الثروة النفطية والوجود الاسرائيلي. ورغم أن ذلك الاعتبار يضاعف من عسر الولادة المنشودة، ويرفع من درجة التحدي المطروح على دعاة الحرية والديموقراطية الحقيقية، إلا أن سنة الحياة وعبرة التاريخ تطمئننا الى أن الارادة الوطنية اذا تحركت، وكان عزمها أكيدا فلن يحول دون تحقيق مرادها شيء. ذلك أن الله ينصر من ينصره. وما الانحياز الى الحرية إلا انتصار لحق من حقوق الله. ثم لا تنس أننا منذ كنا صغارا في المدارس كنا ننشد دائما بيت الشعر الذي يقول : إذا الشعب يوما أراد الحياة، فلابد أن يستجيب القدر.
    إن سنن الكون في انتصار الشعوب وظفرها بحريتها قد تتأخر لسبب أو آخر، لكنها لا تخيب أبدا. وليس مطلوبا منا سوى أن «نعقلها»، ثم نتوكل



     


    المسار الديمقراطي أصبح إجبارياً بعدما كان محظوراً ومشبوهاً‏!

     انتهى عصر الوصاية على الناس

    ما معنى ذلك‏؟‏

    معناه أن الخيار الدر الديمقراطي الذي يعلي من صوت المجتمع ويجعل الأمة مصدر السلطات ‏(‏وهو مضمون الإصلاحات‏)‏ كان آنذاك، عام 1997، خياراً متهماً ترفضه رموز المؤسسة التقليدية القابضة على السلطة والمهيمنة على مقدرات البلاد، وهي المؤسسة التي تعاملت مع المجتمع من منطلق الوصاية، معتبرة أن السلطة من مقتضيات الولاية المطلقة للفقيه، ولأنها بهذه الصفة فلافضل ولادور فيها للشعب، باعتبار أن ‏(‏‏(‏الناس يتامى والعلماء أولياء لهم‏)‏‏)‏‏.‏

    بكلام آخر فإن فكرة الإصلاحات انبنت على أن ولاية الفقيه مستمدة من ولاية الأمة، باعتبار أن الولي الفقيه ينتخبه ‏(‏‏(‏مجلس الخبراء‏)‏‏)‏ حسب الدستور الإيراني، وهذا المجلس منتخب أصلاً من الناس، الأمر الذي يعني أن الولي الفقيه منتخب من الأمة بطريق غير مباشر، ويغير ذلك الانتخاب فإنه لايستطيع أن يتبوأ منصبه‏.‏ أما معارضوا الإصلاحات فقد رفضوا ذلك الطرح، وأصروا على أن الولي الفقيه هو الذي يضفي الشرعية على المؤسسات الأخرى في المجتمع، بل وعلى الدستور ذاته، لأنه نائب عن الإمام الغائب، ونيابته مطلقة لايجوز إخضاعها إلا للمشيئة الإلهية‏.‏

    في عام 1997 كان الصراع محتدماً حول فكرة الديمقراطية ودور المجتمع، أما في انتخابات عام 2001 فقد سلمت الأغلبية بضرورة تبني المسار الديمقراطي برضاها أو رغماً عنها، وأدركت أن من يريد أن يخاطب المجتمع الإيراني ويكسب تأييده وثقته، فعليه أن يتبنى مفردات الخطاب الديمقراطي، حتى إذا لم يكن مقتنعاً به، وكان من أهم ما قيل في هذا الصدد، الخطاب الذي ألقاه آية الله علي خامنئي، مرشد الثورة قبل أربعة أيام من موعد التصويت في الانتخابات الرئاسية، ‏(‏‏(‏كان ذلك في مناسبة ذكرى وفاة الإمام الخميني في 4‏/‏6‏/‏الماضي‏)‏‏)‏‏.‏ وقال فيه أن الشعب هو مصدر الشرعية في الجمهورية الإسلامية‏.‏ وهي المقولة التي تلقفتها الصحف الإسلامية، وأبرزتها في عناوين صفحاتها الأولى، في إشارة ضمنية إلى أن المرشد التحق أخيراً بالموقف الإصلاحي، وتبنى دعوته الأساسية‏.‏

    هذه المرة اختلفت تماماً لغة الخطاب فالمنافسون التسعة للسيد خاتمي سكتوا عن كل تلك العناوين التي تركز على القيم، وتكلموا بلغة أخرى مغايرة اهتمت بمصالح الناس وهمومهم الحياتية، من الغلاء والتضخم والبطالة ومكافحة الفساد الإداري والاهتمام بالشباب والنساء وغير ذلك‏.


     الحديث عن الإصلاح دون ممارسته

    أخشى ما أخشاه أن يكتفي العالم العربي بالحديث عن الإصلاح دون أن يمارسه، وأن ينتهز البعض فرصة محاولة فرضه من الخارج لمصادرة وقمع اي محاولة للاصلاح تصدر من الداخل، بزعم انها «مشبوهة». وتلك كارثة مضاعفة، أولا لأنها تحوّل الاصلاح الى حلم غير قابل للتحقيق،وثانيا لأن الدنيا حولنا تتحرك بسرعة حتى سبقنا من كانوا في مثل حالنا او دونه، وصرنا مهددين بالبقاء وحدنا خارج التاريخ.

    «1»

    تستفز المرء وتملؤه بالإحباط تلك الطنطنة التي أصبحت تلوك مفردات الإصلاح في مختلف عواصم العرب، حتى يبدو وكأن تلك العواصم دخلت سباقا في عقد مؤتمرات الديمقراطية وحقوق الانسان وتمكين المرأة، مماثلا للسباق المشهود بينها حول عقد مهرجانات التسوق والسياحة والأغانى. واذا جاز لي ان اقارن فقد اجد في المهرجانات الأخيرة ضجيجا لا يخلو من طحن، على الأقل فيما يتعلق بالرواج الذى يحدثه التسوق، في حين ان المؤتمرات الاولى بمثابة ضجيج بلا طحن.

     

    مع ذلك فانني اعترف بان ذلك لم يكن حافزى الوحيد للتطرق الى الموضوع، لان هناك حافزا آخر كان له عندى وقع الغيظ والحسد. ذلك اننى في الآونة الاخيرة وقعت على تقارير عدة تحدثت عن القفزات الاقتصادية والعلمية الكبيرة التي حققتها الهند خلال السنوات الاخيرة. وكان ما نشرته خلال الاسبوعين الماضيين مجلة"نيوزويك" حول الموضوع، وما كتبه توماس فريدمان فى"نيويورك تايمز"، وسلامة احمد سلامة في "الاهرام" من احدث التقارير والتحليلات التي أثارت انتباهى في هذا الصدد.

     

    لقد قدر لجيلنا ان يكون شاهدا على مجتمعات رأيناها قرى فقيرة واشفقنا على اهلها قبل عقدين او ثلاثة، ثم عرفناها بلادا مزدهرة، مليئة بالحيوية ومفعمة بالأمل، حتى صرنا نحن الى جوارها من يستحق الشفقة والرثاء. وهو ما ينطبق على بلاد مثل ماليزيا واندونيسيا وكوريا الجنوبية والصين وسنغافورة وتايوان. (لا تسأل عن اليابان)، لكنى ازعم ان تجربة كل هؤلاء في كفة، وتجربة الهند في كفة اخرى ولماذا؟

     

    لان الصورة النمطية التي استقرت في اذهاننا عن الهند انها بلد مكدود يكتظ بالسكان، اجتمعت فيه اعظم الكوارث والبلايا. من الفقر والمجاعات والتخلف الى الاوبئة والفساد والتطرف، وليس له من فضيلة سوى التاريخ العريق والديمقراطية الراسخة. وقد ادهشنى ان بلدا مثقلا بكل تلك الهموم اقام احتفالا بمناسبة بلوغ عدد سكانه مليار نسمة، معتبرا ان الطاقات البشرية رصيدا او ثروة، وقد نجح في تصديرها الى الخارج. حتى بلغت جملة التحويلات السنوية للهنود العاملين بمنطقة الخليج 14 مليار دولار. ليس ذلك فحسب، وانما نجحت الهند في ان تحقق لنفسها اكتفاء ذاتيا في المحاصيل الزراعية الأساسية مثل القمح والذرة والأرز، في حين ان اقطارا زراعية اخرى لم تبلغ عشر معشارها من السكان، ما برحت تؤنب وتقرع بسبب الزيادة السكانية، وفشلت في ان توفر لشعوبها تلك المحاصيل.

     

    واستغربت كيف ان ذلك البلد المعقد الملئ بعوامل الفقر والأمية والاضطراب، استطاع ان يفزر طبقة متوسطة متعلمة قوية، تراوحت بين 300و400 مليون نسمة، اصبحوا يشكلون العمود الفقرى للمجتمع وقاطرة النهوض والتقدم فيه. وبجهود هؤلاء اصبحت الهند دولة نووية، ووصل معدل النمو الاقتصادى فيها الى ما بين 5و7%، وارتفعت صادراتها السنوية للولايات المتحدة الى 10 مليارات دولار.

    اما المفاجأة الكبيرة التي رفعت عندى وتيرة الغيط والحسد، فهى ان ذلك البلد الذى خاض اربعة حروب ضد باكستان والصين، وتعددت فيه جماعات ومنظمات الارهاب والتطرف ودعوات الانفصال التي عانت منها البلاد الكثير خلال نصف القرن الفائت، حتى قتلت ثلاثة من قادتها من المهاتما غاندى الى انديرا غاندى وابنها راجيف، هذا البلد الذى ما زالت تعشش فيها بؤر التطرف والارهاب حتى الآن، لم تعلن فيه الطوارئ مرة وما خضع للأحكام العرفية منذ الاستقلال.

     

    فى مقابل هذه الصورة، اضع بين يديك دون تعليق طائفة من أخبار العالم العربي الذى ترفع في فضائه رايات الإصلاح والتحديث.

     

    قبل اسابيع قليلة قدم الى المحاكمة العسكرية نفر من الناشطين المدافعين عن الديمقراطية في احدى الدول المشرقية بتهمة الانضمام الى تنظيم غير شرعي اسمه"المجتمع المدنى". وقد حاول احد المحامين ان يشرح لهيئة المحكمة ان المجتمع المدنى ليس تنظيما غير شرعى، وانما هي فكرة او دعوة تتردد في مختلف انحاء العالم، لاحياء دور المجتمعات واشراكها في صياغة مصيرها من خلال المؤسسات والمنظمات الاهلية. ولكن الضابط رئيس المحكمة قاطعه قائلا ان تلك ثرثرة مثقفين تحاول ان تتستر على عملية اثارة الفوضى واشاعة الفتنة في المجتمع. وما فعله هؤلاء لا يمكن تبريره، وهو جريمة يعاقب عليها القانون. وكان الرجل محقا في الشق الاخير من كلامه، لان البلد المعنى خاضع لقانون الطوارئ منذ41 عاما!

    فى بلد عربي آخر عولجت مسألة المجتمع المدنى على نحو آخر. فبعد ان خضعت السلطة للاحتكار طيلة ثلاثة عقود، حدث التحول الذى طرأ على الأجواء العامة، حيث هبت الرياح التي حملت معها شعارات الحرية والتحديث وغير ذلك. ولضمان الاستمرار كان لابد من المواءمة والميل مع الريح، فتغيرت اللافتات المرفوعة ومعها لغة الخطاب وانعكس ذلك على المواقف التي انقلبت مؤشراتها بمعدل180 درجة. واذ حدث ذلك فيما يخص السلطة، فان موقع المجتمع المدنى ظل غائبا .عندئذ تقرر تأميم النشاط الاهلى بطريقة بسيطة. فقد تولى قسم من الجماعة (العائلة ان شئت الدقة) مباشرة السلطة، وانصرف نفر من اعضائها الى قيادة العمل الاهلى، وكتب واحد من الاخيرين مقالا خاطب القراء فيه قائلا : نحن المجتمع المدنى نريد كذا وكذا..(!)

    هذه حكاية ثالثة وقعت في الاسبوع الماضى. ففى احد الاقطار سيئة السمعة، على الاقل في مجالى الحريات وحقوق الانسان، تطوع المنافقون في اتحاد الصحفيين وقرروا اهداء الرجل الاول"الريشة الذهبية"، تقديرا لدوره في تكريس حرية الصحافة (المكممة والخاضعة للرقابة)، مما كان له وقع الصدمة في الدوائر المدافعة عن الحريات. فما كان من الاتحاد الدولى للصحفيين الا ان قرر تعليق عضوية اتحاد الدولة المذكورة حتى اشعار آخر.

    لدي حكاية رابعة طازجة نسبيا. في احدى الدول المغاربية فتح باب الترشيح للانتخابات الرئاسية، التي اريد لها ان تكون تجديدا للوضع القائم، ولكن "الإخراج الديمقراطي" اقتضى اتاحة الفرصة لمشاركة اكثر من مرشح. ولكى يتحقق المراد لجأت الاجهزة المعنية الى حيلة بسيطة يمكن تلخيصها على النحو التالي: وجدوا ان القانون يشترط في المرشح ان يحصل على75 الف توقيع من مواطنين يؤيدونه. ولابعاد المنافسين الاقوياء فان البلديات التي تتلقى التوقيعات اشاعت بين الناس ان الذين يوقعون لصالح غير المرغوب فيهم ترسل يوميا الى أجهزة الأمن.

     

    ورغم ان هذه الحملة خوفت كثيرين، الا ان اقوى المنافسين نجح في الحصول على اكثر من90 الف توقيع، مما اثار قلق الجهات المعنية،فماذا حدث؟ قامت أجهزة الأمن ذات ليل باقتحام الغرفة المخصصة لايداع استمارات التوقيع، التي كانت مغلقة بالشمع، واستولت في هدوء على ألوف الاستمارات المؤيدة له. وحين جاء دور الفرز والتدقيق لتحديد مواقف المرشحين، وجدت اللجنة المختصة ان بعض المتقدمين لم يستوفوا شرط الـ 75 الف توقيع. وبطبيعة الحال، فقد كان اقوى المنافسين على رأس هؤلاء. ومن ثم جرى استبعاده لتتحقق النتيجة المطلوبة. واعلن بعد ذلك ان الانتخابات ستجرى بمنتهى الحرية والشفافية.

    عندى حكايات اخرى كثيرة، بمعدل حكاية او اكثر من كل بلد، لكننى مضطر للتوقف لضيق المقام. وانهى هذه النقطة بحكاية اخيرة على سبيل الترويح من بلد خامس. فقد نشرت صحف القطر الشقيق انه مع هبوب رياح التحديث والعصرنة، بدأ البعض في تغيير اسمائهم للتكيف مع المرحلة الجديدة ، فهذا مدغر اصبح عبدالعزيز وعجل صار عبدالرحمن وزنعاف غير اسمه الى بندر ومشوط صار "نواف" ومنوخ غير اسمه الى محمد. اما في المسميات النسائية فقد لحقها التحديث على النحو التالى :شينه تحولت الى عبير وغبيشة الى غادة، وهليلة الى ليلى، وضامرة الى سعيدة، وبنات الى رغد وادنه الى دانه .

    لماذا يبدو الاستعصاء الديمقراطى وكأنه احد سمات الواقع العربي؟

    - نوقش الموضوع في اجتماع اخير عقد ببيروت، للجنة الاستشارية لتقرير التنمية في العالم العربي، الذى تصدره الأمم المتحدة، وهو المخصص لتعزيز الحرية (يفترض صدوره هذا الصيف). وخلال المناقشة جرى الحديث موسعا حول مظاهر واسباب أزمة الديمقراطية في العالم العربي، التي من تجلياتها احتكار السلطة وغياب الحريات العامة وغير ذلك من الأمور التي يعرفها الجميع.

    فى تشخيص الحالة دعت الاغلبية الى ضرورة العناية الى جانب رصد الاسباب الداخلية، بدور العوامل الخارجية التي اعتبرها احد المتحدثين اهم معطل للديمقراطية في العالم العربي، وطالب آخر بتتبع العلاقة بين الاستعمار والاستبداد في المنطقة - وذلك عنصر مهم ازعم انه مغيب في كثير من الادبيات التي تعالج الاوضاع السياسية في العالم العربي. وهو مهم لانه ثابت من الناحية التاريخية، والتنبيه اليه هذه الايام لا يقل اهمية لان قوى الهيمنة الغربية ذات الباع الطويل في مساندة الاستبداد هي ذاتها التي تتبنى الآن الدعوة الى الاصلاح السياسى في المنطقة، وهى ذاتها التي يحاول البعض اقناعنا بانها تحولت الى جبهة تحرير العراق!

    اكرر اننا لا نريد ان نعفى الداخل من المسئولية، إلا اننا لا نريد ايضا ان نغض الطرف او نتستر على دور الخارج. فقد كانت قوى الهيمنة في القرن التاسع عشر هي التي تولت ضرب مشروع النهضة الذى تبناه محمد على باشا، وهى التي ازعجها كثيرا بزوغ احتمال اقامة دولة عصرية قوية في مصر والشام، فأجبر الاسطولان البريطانى والنمساوى قوات محمد علي على الخروج من سوريا، كما حاصر الاسطول البريطانى الاسكندرية، لكى تضطره الى قبول شروط معاهدة لندن عام 1840م، ومن ثم تقويض مشروعه التحديثى الذى بدأه في عام 1805، الامر الذى انتهى بتقليص الجيش المصرى الى 18 الف جندى، ضمن تراجعات اخرى شملت الصناعة والتجارة والتعليم.

    لا نستطيع ان ننسى ايضا ان قوى الهيمنة هي التي اقتسمت فيما بينها العالم العربي في "سايكس بيكو" عام 1916، وهى التي فتحت الباب لاغتصاب فلسطين باطلاقها وعد بلفور عام 1917، وهى التي صوتت لصالح اقامة دولة اسرائيل في عام 1948، وقد تحدث الامريكى"مايلز كوبلاند" في كتابه "لعبة الأمم" عن الدور الامريكى في انقلاب حسنى الزعيم بسوريا عام 1949، وانقلاب عبدالكريم قاسم في العراق عام 1958، وهناك انقلابات اخرى حدثت في الستينيات لم تكن الاصابع الامريكية بعيدة عنها. في الوقت ذاته فان ظهور النفط في العالم العربي اضاف سببا جديدا لمضاعفة دور قوى الهيمنة في المنطقة، وهى التي ادركت ان من يسيطر على منابع النفط يسيطر على العالم الصناعى بأسره. وهو ما لفت الانتباه اليه الاستاذ محمد حسنين هيكل اثناء غزو العراق حين قال ان المعركة ليست ضد العراق، ولكنه ميدان لضرب النار في التنافس على المستقبل بين الولايات المتحدة واوروبا.

    الخلاصة ان حجم المصالح الغربية في العالم العربي، المتمثل اساسا في النفط واسرائيل، لا مثيل له في اي منطقة اخرى من العالم. ولذلك فان الاصابع الغربية ظلت حاضرة بقوة وراء الكثير من ازمات المنطقة وتراجعاتها، خصوصا على صعيدى الديمقراطية والتنمية. وهو ما يدعونا الى القول بأن ما تحتاجه المنطقة حقا لتحقيق الديمقراطية والتنمية ان ترفع قوى الهيمنة يدها عنها، لا ان تتبنى تلك اليد عملية الإصلاح على النحو الذى يلوح في الأفق الآن.

     هل يتعلم العرب من اوروبا؟

    - السؤال طرحه باتريك سيل الكاتب البريطانى المتخصص في الشئون العربية في مقال ابدى فيه تشككه في ادراك العرب لحاجتهم الى توحيد صفوفهم لمواجهة الاخطار الداخلية والخارجية التي تتهددهم . وخص بالذكر ثلاثة تحديات فورية في العراق وفلسطين ومشروع الشرق الاوسط الكبير. (الحياة اللندنية - 5/3/2004 ). واقترح لمواجهة هذه التحديات ان يقتدى العرب بالدول الاوروبية في لملمة صفوفهم، باعتبار ذلك خيارا وحيدا امامهم للنجاة من الغرق. فذكر ان لكل منظمة انسانية قادة، وهناك اقران لهم يتبعونهم. وبدون القادة الذين يحددون المسار، فلن تتقدم السفينة في الاتجاه الصحيح .وفيما يتعلق باوروبا فقد تم الاتفاق بين الدول الثلاث الكبرى، المانيا وفرنسا وبريطانيا، على تولى مهمة القيادة، وهو ما قد لا يقابل بالارتياح من جانب الدول الاخرى. ورغم ان الدول الثلاث ليست متفقة في كل شيء الا ان الاحداث وحدت فيما بينها، وهناك قائمة من المهام التي لا يمكن القيام بها، بدون اتفاق تلك الدول. خصوصا بعد توسيع عضوية الاتحاد الاوروبى في اول شهر مايو المقبل، حيث سيرتفع عدد دول الاتحاد من15 الى25 دولة.

    وهو اذ يذكر بان التجانس بين الدول العربية افضل منه بكثير في الحالة الاوروبية، ويشدد على ضرورة القيام بعمل عربي مشترك لمواجهة التحديات التي تواجه الأمة، فانه تحدث عن تشكيل قيادة ثلاثية للعالم العربي تضم مصر والسعودية وسوريا"تكون بمثابة محور تنضم اليه بقية الدول، وتكون مهمته اتخاذ القرارات السياسية وتطبيق الاصلاحات". واشار الى انه في ظروف العجز العربي الراهن فان وجود تلك القيادة يكتسب اهمية خاصة. لكنه شكك في امكانية تنفيذ الاقتراح "لان العرب غير مستعدين لاحتذاء النموذج الاوروبى".

    من جانبى اشاركه الشك في امكانية تنفيذ الاقتراح لسبب اهم من الذى ذكره. ذلك ان العرب حتى اذا كانوا مستعدين للقبول بفكرة القيادة الثلاثية. فان الولايات المتحدة لن تسمح بها بسهولة، باعتبار ان التشتت والتشرذم العربيين هو اكثر ما يخدم مصالحها هي واسرائيل. واى مشتغل بالشأن السياسى يعرف جيدا ان ثمة اصرارا امريكيا على عدم التعامل مع العرب كأمة واحدة. آية ذلك انه في المحادثات التي دارت حول القضية الفلسطينية جرى استبعاد الجامعة العربية، كما نقل الامريكيون الى العرب رسالة صريحة تقول إنهم غير مستعدين لان يسمعوا كلاما باسم الدول العربية، ولكن على كل دولة ان تتحدث عن نفسها فقط. ولن نذهب بعيدا، فقد رأينا ان الامريكيين دخلوا الى العراق وشكلوا مجلس الحكم فيه من باب التفتيت العرقى والمذهبى، ووجدنا في القانون الاساسى المعلن ان هوية العراق العربية تراجعت بصورة نسبية.كما لا تفوتك ملاحظة ان موضوع الهوية هذا تراجع في ثنايا مشروع الشرق الاوسط الكبير، الذى كان لابد ان تنزع عنه الهوية العربية والاسلامية، لكى تحتل اسرائيل موقعها في قلبه ان لم يكن في قيادته.

    إن الولايات المتحدة خصوصا بعد انهيار الاتحاد السوفيتى لا يسعدها توحد اوروبا، وقد حاول وزير دفاعها في العام الماضى ان يشق صفها اثناء الاعداد لغزو العراق، فتحدث عن اوروبا القديمة وتلك الجديدة. وثمة تعارض مكتوم يظهر بين الحين والآخر بين مصالح الجانبين على الصعيد الاقتصادى بوجه اخص. ومع ذلك فانها قد تحصل بعض الفوائد من اوروبا، على الاقل في الشق المتعلق بدور حلف الاطلنطى. ولئن حدث ذلك مع اوروبا فما بالك به مع العالم العربي، حيث تدرك واشنطون وتل ابيب ان اي تنسيق او توحد في العالم العربي يضر بمصالحهما المباشرة.

    هذا التحليل إذا صح فانه يطرح على الجميع سؤالا كبيرا هو : لماذا يتعين علينا ان نسلم بان الموقف الامريكى هو الحاسم في تحديد المصير العربي؟

    - ذلك أن مثل هذا التسليم هو من تجليات الهزيمة التي ينبغى ان ترفض وتقاوم بكل السبل.

    إن عالمنا العربي يواجه مأزقا حادا لا يحسد عليه . اذ هو "محشور" بين ضغوط امريكية متزايدة من الخارج، والتفاف حول الديمقراطية وتخل عن اسباب العافية والمقاومة في الداخل. والمشكلة انه في سباق البقاء في مجرى التاريخ، لم يعد هناك وقت للمماحكة او التسويف ،كما انه لم يعد هناك خيار. واذا جاز لى ان استعير ما قاله في هذا الصدد الرئيس اليمنى على عبدالله صالح، من اننا اذا لم نبادر الى حلق رؤوسنا بأيدينا فاننا نسوغ للآخرين ان يتقدموا هم لكى يحلقوها. ومن جانبي أضيف اننا اذا حلقناها ونحن واقفون، فانهم لن يفعلوها معنا الا ونحن منبطحون.




     


    تطورات خليجية تطرق أبواب التاريخ


    التطورات التي تحدث في منطقة الخليج يبعث أكثرها على التفاؤل بالمستقبل، على العكس من مناطق أخرى في العالم العربي ما زال بعضها متردداً في ولوج المستقبل والانخراط في مسار التاريخ، إذ فضلا عن التجربة الديمقراطية الحية واللافتة للنظر في الكويت، فان ما جرى في البحرين مؤخراً يعد قفزة كبيرة الى الأمام بكل المقاييس، وأكثر ما يعنيني في ذلك الذي جرى هو الشق المتعلق بالحريات، التي أزعم ان غيابها عن أقطار عديدة في العالم العربي يعد وصمة، لا سبيل الى النهوض بغير إزالتها.
    لم يستوقفني كثيراً انتقال البحرين من نظام الامارة الى النظام الملكي، فقد علمتنا خبرات السنين ان العبرة في أي نظام سياسي ليست باسمه ولا شعاراته، وإنما هي بقيمه ومواقفه، فالملكيات فيها الصالح والطالح، والجمهوريات تبين أنها أسوأ حالاً منها، خصوصاً تلك التي احتكرت الثورية والتقدمية، فكتمت أنفاس الناس، وأذلت العباد وأشاعت في الأرض الفساد، أما الجمهوريات التي أرادت أن تذهب الى أبعد، فوصفت بأنها «عظمى»، فانها لم تقدم شيئاً يذكر خارج إطار اللافتات، ولم يشعر أحد بأن فرقاً بينها حين كانت جمهورية فقط، وبين حالها بعد صدور قرار الترفيع وتحويلها الى عظمى.
    لقد تحولت البحرين الى ملكية دستورية، الأمر الذي جعل للقول معنى، رغم ان تجربة الكويت أثبتت انه من الممكن أعمال الدستور والالتزام به، والانخراط في المسار الديمقراطي دون حاجة الى تغيير شكل النظام السياسي، مع ذلك فقد وجدت ان ما جرى كان بمثابة نقلة مهمة على طريق إرساء أسس الديمقراطية وضمانات الحريات.
    لقد أيَّد 98.4 في المائة من السكان الاصلاحات السياسية الهامة التي تبناها أمير البحرين الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة، والتي أدت الى اطلاق كافة المسجونين السياسيين، الأمر الذي ترتب عليه خلو السجون البحرينية من أولئك المسجونين، لأول مرة في تاريخها، واستصحب ذلك عودة المبعدين والمعارضين من الخارج، كما ألغى قانون أمن الدولة ومحاكم أمن الدولة، وكان ذلك القانون البائس يخول السلطات اعتقال المشتبه فيهم من المواطنين، والزج بهم في السجون لمدة 3 سنوات بغير محاكمة.
    بعد اطلاق الحريات على ذلك النحو، يفترض ان تجري في البلاد انتخابات عامة قبل نهاية عام 2003، سمح للنساء فيها بحق التصويت والترشيح، ومعلوم ان التجربة الديمقراطية الكويتية لم تنجح بعد في تحقيق مشاركة النساء في الانتخابات، رغم الشوط البعيد الذي قطعته.
    لقد أشاعت تلك الاصلاحات الجريئة مناخاً جديداً في البحرين، أعاد الحيوية الى المجتمع بقدر ما أعاد الدماء الى الحوار السياسي الذي انقطع حيناً من الدهر، ولك ان تتصور تأثير عودة المعارضين واطلاق المسجونين السياس
    يين، على مستوى الجرأة التي اصبح يتسم بها ذلك الحوار، خصوصاً ان بعض المشاركين في حلقاته ومنتدياته لم يكن مسموحاً ذكر اسمائهم في الصحف، إلا كمتهمين صدرت بحقهم أحكام محاكم أمن الدولة.
    النقلة مهمة للغاية، واذا قدر لخطى الاصلاح السياسي ان تستمر على النحو الذي رسمه الميثاق الوطني، فليس من شك في ان البحرين ستقدم نموذجاً ديمقراطياً جديراً بالتشجيع والاحترام، فضلا عن الاحتذاء بطبيعة الحال، صحيح ان المرء لا يتوقع ان يتم التحول على صعيد الواقع بنسبة 180 درجة خلال أمد قصير، وان طموحات من ذلك القبيل الذي أقره الميثاق تحتاج الى وقت طويل، لان الواقع لا تغيره النصوص، وإنما هي فقط تفتح الطريق لاحداث ذلك التغيير وتوفر الضمانات لامكانية تحقيقه، مع ذلك، فبوسعنا أن نقول باطمئنان ان الميثاق كان بمثابة الاشارة الخضراء التي فتحت طريق التحول، وان الاجراءات التي تلاحقت بعد اقراره أضفت قدراً غير قليل من الصدقية علي التوجه السياسي المستجد.
    خذ أيضاً تلك الحملة المشهودة في دبي الآن ضد الفساد المالي، التي لا تقل أهمية عن حملة تقويم الفساد السياسي في البحرين، ذلك ان ولي عهد دبي الشيخ محمد بن راشد المكتوم، كان قد أنشأ قبل ثلاثة أشهر شعبة لمكافحة الفساد في البلاد، بعدما تلقى معلومات عن ضلوع بعض المسؤولين الحكوميين في عمليات الاختلاس والكسب غير المشروع، وقد وضعت تلك المعلومات تحت تصرف الشعبة الجديدة التي ظلت تعمل في صمت الى ان اعلن في التاسع من الشهر الحالي ما سمي بالبيان رقم واحد، الذي اذاع نبأ إلقاء القبض على ستة أشخاص، ثلاثة منهم مواطنون وثلاثة وافدون باكستانيون، ولم تكن هذه هي المفاجأة الوحيدة، لان المفاجأة التي لم يتوقعها كثيرون كانت في كون القائمة تضمنت مدير عام الجمارك والموانئ، وهو أحد المقربين من الشيخ محمد، ويقال انه كان يلازمه في رحلاته الى الخارج، الأمر الذي طمأنه الى ان قربه من ولي العهد سوف يبعد عنه الشبهات، وقبل أيام قليلة من اعلان نبأ القبض على مدير الجمارك، كان الرجل في رحلة مع الشيخ محمد، بينما كانت التحريات والأدلة قد اكتملت، ويبدو ان المدير أراد أن يحتمي بالشيخ، بينما أراد الشيخ أن يطمئن الى انه لن يهرب الى الخارج، وما ان وصل ولي العهد الى المطار وهبط من طائرته، حتى أصدر أوامره بإلقاء القبض على الرجل، وأودع السجن على الفور، حيث بدأت التحقيقات معه، هو وشركائه.
    بعد اسبوعين أعلن البيان الثاني الذي فهم من صيغته انه أريد له أن يكون أقرب الى البيانات العسكرية، باعتبار ان الشيخ أراد أن يعطي انطباعاً للكافة انه بصدد حرب حقيقية، تتابع فيها البيانات الكاشفة عن الحقيقة، فقد اعلن البيان عن توقيف ستة من موظفي ادارة الهجرة بالمطار، ونسب إليهم انهم: خانوا الأمانة، وأساءوا استخدام الثقة التي أولتها الحكومة لهم في توليهم أعمالا تستوجب أن يكونوا أمينين عليها، بمقتضى ما يفرضه الدين وكرامة الضمير.
    وقد حمل البيان رقم 2 كما البيان الأول صور المتهمين مع اسمائهم الثلاثية، فيما وصف بأنه جزء من مهمة الشعبة في كافة اشكال مكافحة الفساد الاداري في الدوائر والمؤسسات الحكومية وكشف جميع التفصيلات والملابسات المتعلقة بهذا النوع من الجرائم، دون محاباة أو مجاملة لأحد مهما كان على حساب الصالح العام ليكون المجتمع على بينة من أمر هؤلاء الموظفين الفاسدين.
    كان واضحاً من البيانين ان ولي عهد دبي أراد أن يبلغ الرأي العام في الامارات بأمرين، الأول ان الدولة متربصة بالمرتشين وفاسدي الذمم، والثاني انه لا أحد فوق القانون، وان كل عنصر فاسد، مهما علت مكانته لن يفضح أمره وتكشف حقيقته امام الناس فحسب، وإنما أيضاً سيطالب برد كل الأموال التي اختلسها أو ضيعها على خزينة الدولة، وقد رد المتهمون الأموال التي اختلسوها وهي تقدر بحوالي ثلاثة ملايين دولار اميركي (أكثر من عشرة ملايين درهم اماراتي)، لكن مساءلتهم القانونية استمرت بعد ذلك.
    وبينما الحملة مستمرة، وأصداؤها تتردد في مختلف أرجاء دواوين الحكومة، وصل الى دبي وفد، يضم مجموعة من ممثلي منظمة العمل الدولية الذين قدموا بهدف استكمال عملية تقييم حالة دولة الامارات في مجال غسيل الأموال، وكانت هذه المسألة محل دراسة موسعة خلال السنتين الماضيتين، لم يثبت منها وجود حالات غسيل أموال في دولة الامارات، رغم ان اللجنة التي درست الموضوع ذكرت ان هناك مبالغ صغيرة ربما كانت ناتجة عن نشاطات مهربي أو موزعي المخدرات، وهذه ربما يكون قد تم غسلها من خلال القطاع المالي.
    الأجواء السائدة في دبي شجعت صحيفة «البيان» التي تصدر في الامارة ذاتها على اصدار ملحق ضمن عددها الصادر يوم الجمعة الماضي حول الفساد في العالم، عالج الظاهرة من مختلف جوانبها، لكن ما لفت النظر فيه ان اساتذة جامعة الامارات اشتركوا في مناقشة الموضوع وتحليل أسبابه، ومما قاله بعضهم ان الفساد يستشري في غياب الشفافية التي توفرها الديمقراطية، باعتبار ان مثل ذلك الغياب بما يستصحبه من غياب رقابة المجتمع، من شأنه ان يهيىء التربة لنمو مختلف مظاهر الفساد المالي والاداري فضلا عن السياسي بطبيعة الحال.
    على صعيد آخر، فرغم ان القرار الذي صدر بمنع 16 من المثقفين الاماراتيين من الكتابة في الصحف أو اعداد البرامج التلفزيونية، أحدث صدمة في أوساط النخبة، وكان بمثابة سير في الاتجاه المعاكس لدعوات الاصلاح الاقتصادي والسياسي، إلا ان الأمر لم يخل من إيجابية، وهي التي تمثلت في استنفار عناصر النخبة الذين تحركوا على مستويات متعددة للاستنجاد بوزارة الاعلام من أجل التراجع عن هذا الموقف، الذي مازالت أسبابه محاطة بقدر كبير من الغموض.
    لا يستطيع المرء وهو يتابع التحولات المهمة الحاصلة في منطقة الخليج ان يمنع نفسه من مقارنتها بما يجري في بعض الدول العربية الأخرى، مثل سوريا وتونس، إذ يبدو ان الطموحات التي تعلق بها كثيرون وراهنوا في الآونة لأخيرة علي امكانية تحقيقها في سوريا، تراجع مداها إذ يبدو ان القوى الرافضة لتفعيل المجتمع المدني وتنشيط خلاياه، نجحت في وقف الاندفاعة التي شهدتها سوريا باتجاه تخفيف القيود على حرية العمل السياسي وحرية التعبير، رغم الانفراج النسبي الذي شهدته البلاد عقب تولي الرئيس بشار الأسد للسلطة، وأدى الى اطلاق اعداد كبيرة من المعتقلين.
    الأمر في تونس أشد وطأة، ففضلا عن سيادة الخطاب الأمني، التي أدت الى مصادرة الحريات السياسية والتوسع في المحاكمات الاستثنائية ومعاناة أكثر من ألف سجين سياسي، فقد تم خلال الأسابيع الأخيرة إلغاء المؤتمر الخامس للرابطة التونسية لحقوق الانسان، التي تعد أقدم منظمة لحقوق الانسان في العالم العربي، وهو ما يعد حكماً بالاعدام على آخر المعاقل المدافعة عن الحريات العامة في تونس، الأمر الذي استصحب ملاحقة للعديد من القيادات الوطنية الممثلة في السيد محمد موادة والدكتور المنصف المرزوقي.
    طوبى للسائرين علي درب الاصلاح من صانعي التاريخ، أما الذين يقاومون التاريخ أو يقنعون بالابقاء على بلادهم خارجه، فقد ينجحون في مسعاهم بعض الوقت، لكنهم لايستطيعون وقف مسيرته أو اعادة عقارب ساعته الى الوراء.

     



    جماعة طالبان:
     ظالمون أم مظلمون‏؟

     

    طالبان قدموا نموذجاً لكل ما يجب تجنبه في التطبيق الإسلامي

    صحيح أن أهم ما أنجزته طالبان أنها أعادت الأمن والاستقرار إلى البلاد‏،‏ وهي مقولة لايشك فيها أحد أو يجادل‏،‏ غير أن ذلك الإنجاز لايجوز التباهي به طويلاً‏،‏ لسبب جوهري هو أن القبور هي أكثر الأماكن أماناً واستقراراً في العالم‏،‏ والفرق بينها وبين مجتمع الأحياء‏،‏ أن الأمان والاستقرار في القبور هو وضع نهائي يشكل كل الصورة‏،‏ بينما هو في المجتمعات البشرية العادية أحد شروط النمو والتقدم‏،‏ بمعنى أنه جزء من الصورة أو هو خلفية الصورة‏.‏

    بعد خمس سنوات من توفى حركة طالبان للسلطة لم يعد كافياً أن يقال‏،‏ أنها حققت الأمان فحسب‏،‏ حيث ذلك يحسب رصيداً للسنة الأولى وربما الثانية أو حتى الثالثة‏،‏ أما بعد ذلك‏،‏ فثمة سؤال كبير يفرض نفسه هو‏:‏ ما الذي بنته الحركة على أرضية الأمان والاستقرار التي أقامتها‏؟‏

    في الوقت ذاته فإن أخطر ما فعلته الحركة‏،‏ من وجهة نظري‏،‏ إنها أقامت نظاماً اعتبرته نموذجاً إسلامياً‏،‏ وصور للعالم بأنه النموذج الذي يسعى المسلمون إلى تحقيقه‏،‏ وذلك أكثر ما يعنيني في هذه اللحظة‏،‏ أدري أنها ليست الوحيدة في ذلك الباب‏،‏ فثمة نماذج إسلامية أخرى‏،‏ يشوبها النقصان بدرجة أو أخرى‏،‏ لكني أزعم أن أياً منها لم يعتره ذلك القدر من النقصان الذي تبدى في النموذج الطالباني‏.‏

    لاتحدثني عن إخلاص أغلبهم وحسن نيتهم‏،‏ وغيرتهم على الإسلام‏،‏ فذلك كله يشفع لهم يوم القيامة بإذن الله‏،‏ حسابه يوم الحساب‏،‏ أما في ميزان الدنيا فلايشفع لهم ذلك بحال‏،‏ لقد كان الخوارج من أشد الناس إخلاصاً وتفائياً في الدفاع عما في العقيدة‏،‏ ومع ذلك لم يرحمهم التاريخ‏،‏ وكل ما ارتكبوه من أفعال وخطايا حسب عليهم وسحب من رصيدهم في ذاكرة الأمة‏،‏ حتى أصبح المصطلح مسبَّة وتهمة‏.‏

    إن الدَّبة التي ألقت بالحجر على وجه صاحبها‏،‏ في القصة الشهيرة‏،‏ كي تهش عنه ذبابة عاكسته‏،‏ كانت بريئة القصد وحسنة النية لاريب‏،‏ لكن البراءة حين اقترتب بالغباء وسوء التقدير‏،‏ انعدامه في الواقع‏،‏ أدت إلى هلاك الرجل وقتله‏،‏ وقد دفعت أمتنا ثمناً باهظاً وأريقت فيها دماء كثيرة‏،‏ كما أهدرت فيها قيم جليلة‏،‏ على أيدي أولئك النفر من الطيبين المخلصين الذين ‏(‏‏(‏لايفقهون‏)‏‏)‏ ممن لم يدركوا مقاصد الدين وعجزوا عن فهم حقائق الدنيا‏.‏

    لايخطر على بالي أن أقارن تجربة طالبان بسابقيهم من الشيوعيين ومن لف لفهم‏،‏ فهؤلاء الأخيرون لم يقيموا عدلاً ولا سلاماً‏،‏ ولكنهم كانوا صنائع وذيولاً لسادتهم في موسكو‏،‏ ولكن أريد أن أدلل على أن إيمان حركة طالبان محسوب لهم وربما أضيف إلى ميزان حسناتهم‏،‏ ولكن فشلهم في السياسة والإدارة يدفع ثمنه الناس في نهاية المطاف ولاينبغي التلويح بحكاية الإيمان والغيرة على الدين للدفاع عنهم أو قبول ممارساتهم وتبريرها‏.‏

    لقد احتكرت جماعة طالبان السلطة‏،‏ وهي في محاولة استنساخها لشكل الدولة الإسلامية الأولى‏،‏ أهدرت الشروط الواجب توافرها في الحاكم‏،‏ وأهدرت قيمة الشورى كما بينا‏،‏ وأسقطت التعددية الثقافية والسياسية في الحسبان‏،‏ وأخذت من النموذج فكرة استمرار الخليفة في منصبه مدى الحياة‏،‏ وقررت أن تبقى في السلطة لغير أجل محدود‏،‏ وبغير شريك أو أي ‏(‏‏(‏آخر‏)‏‏)‏ يمثل التوجهات المغايرة الأخرى في المجتمع‏،‏ وفي غياب الحريات العامة‏،‏ مثل حرية التعبير والنشر والاجتماع‏.‏‏.‏ إلخ‏،‏ فإنها في حقيقة الأمر أسست نظاماً لايختلف عن الديكتاتوريات الشيوعية‏،‏ التي استولى فيها الشيوعيون على السلطة واحتكروها‏،‏ وفرضوا على المجتمع عقيدة معينة‏،‏ وألغوا‏،‏ سحقوا في الحقيقة‏،‏ كل ما عداها‏.‏

    ليس هذا فحسب‏،‏ وإنما هم تصدوا للفتوى بغير علم وألقوا بأنفسهم في غمار السياسة من دون أي خبرة أو خلفية‏،‏ وكانت النتيجة أن المجتمع أصيب بالشلل التام ولم يتقدم فيه أي شيء بعد مضي خمس سنوات‏،‏ الأمر الذي يثير العديد من الأسئلة عن شرعية توليهم السلطة‏،‏ بينما هم يفتقدون إلى المقومات الأساسية لإدارة أي مجتمع‏،‏ ناهيك بكونه مجتمعاً إسلامياً له مرجعيته الثقافية وخبرته الحضارية‏،‏ لقد عرضوا أنفسهم على المجتمع‏،‏ من دون أن يتيحوا للناس أي أمل في إمكانية تغييرهم بطريقة سلمية إذا ما رغبوا في ذلك‏،‏ وإغلاق باب الأمل على ذلك النحو له خطورته البالغة‏،‏ من حيث أنه يقنع الناس بصورة تدريجية بأنه طالما أغلق باب التغيير السلمي‏،‏ فلا يبقى أمامهم سوى محاولة إحداث ذلك التغيير بوسائل أخرى‏،‏ العنف في مقدمتها‏.




    طالبان:
     نموذج الخلل في الأولويات

     

     أسوأ أنواع العداء، عداء المرء لنفسه، تحضرني هذه الفكرة كلما تلقيت خبراً من أفغانستان من ذلك النوع الذي تورط به حركة طالبان نفسها في مشكلة جديدة، تضاف إلى كم المشكلات الجسيمة التي تعاني منها البلاد، الأمر الذي يصيب المرء بالدهشة ويدفعه إلى التساؤل عن سر ذلك الإصرار على إيذاء الذات والتمسك بالمضي في طريق الندامة‏.‏

    هذا الكلام أقوله بعدما قرأت مع غيري أخبار القرار الذي أصدرته قيادة طالبان مؤخراً، ويقضي بإلزام أبناء الأقلية الهندوسية بارتداء شارة صفراء على جيب الثوب، لتمييزهم عن المسلمين، كما يقضي بإلزام الهندوسيات بارتـداء ‏(‏‏(‏البرقع‏)‏‏)‏ الأفغاني، وتغطية الوجه والرأس، أسوة بالمسلمات في أفغانستان، وهو القرار الذي صدر بعد أيام قليلة من قرار إلزام الطلاب بارتداء العمامة التزاماً بما اعتبروه آداب الإسلام، وتعريض المخالفين للعقوبة، وهو أيضاً يأتي بعد أشهر قليلة من قرار آخر أثار ضجة في العالم بأسره، قامت حركة طالبان بمقتضاه بتدمير تمثالي بوذا الشهيرين في مقاطعة باميان، ضمن تماثيل أخرى اعتبرتها الحركة أصناماً وقررت تدميرها والتخلص منها‏.‏

     

     

    اجتهادات في الدين والسياسة

    قبيل في تبرير القرار الأول أن الهدف منه تمييز الهندوس وحمايتهم من المساءلة خلال تنقلاتهم لعدم التزامهم بالصلاة، التي يفترض أن يلتحق الناس في مواعيدها بالمساجد، أي أنه اجتهاد في تقدير المصلحة، إذا صح التبرير الذي نقل عنهم‏.‏ أما القراران الآخران فقد نسب الأول إلى أدب الإسلام، بينما اعتبر الثاني التزاماً بتعاليم الإسلام، الأمر الذي يعني أن الأول كان اجتهاداً في السياسة، بينما القراران الآخران أقرب إلى الاجتهاد في الدين‏.‏

    لقد علمنا فقهاؤنا أن النافلة لايجوز تقديمها على الفريضة، وأن فرض العين مقدم على فرض الكفاية، وأن فرض الكفاية الذي لم يقم به أحد أو عدد يكفي، مقدم على فرض الكفاية الذي قام به من يكفي ويسد الثغرة، وأن فرض العين المتعلق بالجماعة والأمة، مقدم على فرض العين المتعلق بحقوق الأفراد‏.‏ وأن الواجب محدد الوقت، والذي جاء وقته بالفعل، مقدم على الواجب الموسع في وقته‏.‏

    اختم بما قرأته ذات يوم للشيخ محمد الغزالي في كتابه ‏(‏مشكلات في طريق الحياة الإسلامية‏)‏ وقوله أنه‏:‏ ‏(‏‏(‏من المستحيل إقامة مجتمع ناجح للرسالة، إذا كان أصحابه جهالاً بالدنيا عجزة في الحياة‏)‏‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏‏(‏أن دين الله لايقدر على حمله ولا على حمايته، الفاشلون في مجالات الحضارة الإنسانية الذكية، الثرثارون في عالم الغيب، الخرس في عالم الشهادة‏.‏‏.‏ ثم قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏إنني اعتقد أن انتشار الكفر في العالم يقع نصف أوزاره على متدينين بغضوا الله إلى خلقه بسوء كلامهم أو سوء صنيعهم‏)‏‏)‏‏.‏

    لقد صدر كتاب الشيخ الغزالي منذ عشرين عاماً تقريباً، قبل أن تظهر حركة طالبان في الأفق، وقبل أن يولد أغلب شبابها، لكني كلما تصفحت الكتاب وقفت أمام تلك العبارات، وتذكرت جماعات عدة في زماننا، وحركة طالبان في المقدمة منهم‏.‏

    مجلة المجلة العدد 1113 - 10-16‏/‏6‏/‏2001م


     

     


    عبدة الشيطان
     ضحايا أم مجرمين؟

     بعدما ألقي القبض هذا الشهر في مصر للمرة الثانية خلال 4سنوات على   55شاباً وفتاة من مجموعة عرفت باسم ‏(‏‏(‏عبدة الشيطان‏)‏‏)‏‏،‏ ثم حين تشير التقارير الصحافية إلى وجود مجموعات مماثلة في بعض الدول العربية الأخرى‏،‏ حين يحدث ذلك فالأمر ينبغي أن يؤخذ على محمل الجد‏،‏

     بحيث نتساءل عما جرى لشبابنا‏،‏ ولماذا انزلق نفر منهم في ذلك الاتجاه‏،‏ وما الذي علينا أن نفعله لكي نعالج ذلك الجنوح‏؟‏

    المجموعة التي ألقي القبض عليها في مصر لايزال أفرادها تحت التحقيق‏،‏ لكن الصحف نشرت أنه تم إلقاء القبض عليهم أثناء وجودهم في إحدى السفن النيلية العائمة في مدينة القاهرة‏،‏ أثناء انخراطهم في حفلة ماجنة‏،‏ وصودرت معهم بعض الرموز والقلائد وكتب وأشرطة مما تروج لها جماعة عبدة الشيطان‏،‏ وفي المرة السابقة‏،‏ عام 1997‏،‏ تم إلقاء القبض على مجموعة مماثلة كانت تنظم حفلات ماجنة في الأماكن المهجورة‏،‏ ويرتدي أفردها ثياباً سوداء رسمت عليها صورة رمزية للشيطان وإلى جوارها صلبان مقلوبة ونموذج لنجمة خماسية‏،‏ وقيل وقتذاك أن المجموعة كانت تمارس طقوساً غريبة‏،‏ تبدأ بموسيقة معينة يرقصون عليها إلى حد الإنهاك‏،‏ تنتهي بتعاطي المخدرات والممارسات الجنسية الشاذة‏،‏ بينما ترم بذبح خنزير أو دجاج‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏

    معالم المنظومة الشريرة

    هذه الطقوس والممارسات ليست من ابتداع أولئك الشبان‏،‏ لكنها جزء من منظومة شريرة دعا إليها شخص أميركي في الستينات‏،‏ أطلق عليها اسم ‏(‏‏(‏الديانة الإبليسية‏)‏‏)‏ ومخترع هذه الديانة اسمه أنطون سي‏.‏ لافيه‏،‏ من سان فرانسيسكو ويشك في أنه من أسرة يهودية‏،‏ لأن كلمة لافيه في العبرية تعني الكاهن‏،‏ أطلق الرجل دعوته في عام 1966‏،‏ حين كان عمره آنذاك 36عاماً‏،‏ حيث أسس ما أسماه ‏(‏‏(‏كنيسة إبليس‏)‏‏)‏ وكلمة كنيسة هنا ليس لها مدلول ديني أو روحاني‏،‏ ولكنها مجرد حيلة للاستفادة من الإعفاءات الضريبية التي يقررها القانون الأميركي‏،‏ فضلاً عن أن كلمة كنيسة لها إيقاعها الجذاب والمقبول في المجتمع الأميركي‏.‏

    لا مفر من الاعتراف بأن التقصير في تحصين الشباب بالثقافة الدينية الرشيدة يمثل عاملاً أساسياً في إضعاف مقاومتهم لجاذبية السلوك الغربي والانزلاق في محاكاة نمط الحياة الغربية النظر الغربي من صور الحرية التي يحكمها القانون فقط‏،‏ ولا شأن للدين بها‏.‏

    ولسنا نبالغ إذ قلنا أنه مع اشتداد حملة التغريب فإنه جرى إضعاف التدين بصورة شتى في مجتمعاتنا‏،‏ مرة باسم تشجيع حرية الإبداع التي اختارها كثيرون في هتك المقدسات وتجريح الالتزام الديني‏.‏




     


    لماذا مخاطبة أحفاد
     المجاهدين بالفرنسية‏؟

    ما أراده الاستعمار للجزائر تم إنجازه في عهد الاستقلال

    من أسف أنني تلقيت تلك الشهادة‏،‏ وسط أنباء نشرتها بعض الصحف الجزائرية عن كارثة جديدة توشك أن تحل بالنظام التعليمي في البلاد‏.‏ ذلك أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة كان قد شكل قبل حين بعضاً من لجان الإصلاح‏،‏ التي عني بعضها بالقضاء وعني البعض الآخر بالنظام التعليمي‏،‏ وفوجئ المتابعون للشأن الداخلي بأن رئاسة اللجنة والصوت الأعلى فيها من نصيب التيار الفرانكفوني المعادي بطبيعته للعروبة والإسلام‏،‏ وقد ظلت الشائعات والتكهنات تلاحق عمل اللجنة ومقاصدها إلى أن انتهت من التقرير الذي أعدته لتحقيق الإصلاح المنشود‏،‏ لم يعلن التقرير بعد‏،‏ ولكن بعض توجهاته رصدتها الصحف على نحو متواتر يوحي بصدقيتها‏،‏ ومن هذه التوجهات أمران غاية في الخطورة هما‏:‏

    ‏-‏ توصية بتعميم اللغة الفرنسية وتدريس مختلف المناهج بها ابتداء من السنة الثانية الابتدائية‏،‏ ‏(‏في النظام الحالي يخير الطالب في السنة الرابعة بين مواصلة التعليم بالعربية أو الفرنسية‏)‏‏،‏ أن أن الفرنسية هنا لن تكون لغة أجنبية يتمكن منها الطلاب والطالبات‏،‏ مثل الإنجليزية التي ستدرس بهذه الصفة في المرحلة الثانوية‏،‏ ولكنها ستصبح لغة تعليم وتفكير وكتابة وتعبير‏،‏ الأمر الذي يعد نكوصاً خطيراً عن سياسة التعريب التي اتبعت من قبل‏،‏ وكانت من متقضيات تمام الاستقلال والانعتاق من الهيمنة الثقافية الفرنسية فضلاً في الحضارة‏.‏

    ومعروف أن إعادة التمكين للفرنسية في الجزائر كانت وما زالت هدفاً للمعسكر الفرانكفوني‏،‏ الذي ما برح يلح أن اللغة العربية لم تعد لغة علم ولا تصلح لمواكبة العالم المعاصر‏،‏ ثم إنها تحمل بالمسؤولية عن التخلف الذي أصاب الجزائر‏،‏ من حيث أن الخريجين الذين درسوها في السنوات الماضية أصبحوا عاجزين عن أداء أي عمل في البلاد ‏(‏لغة الإدارة مازالت فرنسية‏)‏‏،‏ وانضموا إلى طوابير العاطلين الذين تعج بهم البلاد‏،‏ من ثم فإن دراستهم للعربية جعلتهم عبئا على الدولة‏،‏ وعنصراً مساهماً في مفاقمة أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية‏.‏ تجاهل هؤلاء أن اللغة العربية كانت لغة الحضارة العظيمة التي أقامها المسلمون وأنها كانت لغة العلم يوماً ما‏.‏ وأن ثراءها المعرفي العريض والمشهور لايزال يوفر لها عطاء لم يستثمر أصلها بعد‏.‏

    ‏-‏ الأمر الثاني الذي لايل خطراً هو أن اللجنة أوصت بتدريس الأمازيغية إجبارياً على الطلاب في مناطق البربر‏،‏ وتتبدى تلك الخطورة في أن الأمازيغية ليست لغة بالمعنى الشائع‏،‏ ولكنها لهجات ثلاث‏،‏ منطوقة وليست مكتوبة‏،‏ وحين رعى الفرنسيون بعضاً من مثقفي البربر‏،‏ وأقاموا لهم ‏(‏‏(‏أكاديمية‏)‏‏)‏ في فرنسا‏،‏ فإنهم لم يجدوا سبيلاً لكتابتها إلا بالحروف اللاتينية‏،‏ وبدت كتابة الأمازيغية على هذا النحو حيلة للتفلت من العربية التي هي لغة القرآن ومن ثم لغة البربر الذين عرب الإسلام ألسنتهم‏،‏ ثم أنها بدت أيضاً بابا لوصول الأمازيغية بالفرنسية‏،‏ باعتبار أن البربر حين يهجرون العربية إلى لغتهم المكتوبة باللاتينية‏،‏ فإنهم عملياً سوف ينقطعون تماماً عن الثقافة العربية‏،‏ وسيصبح الطريق ممهداً أمامهم للالتحاق باللغة الفرنسية كمرجعية ثقافية‏،‏ بل سيقى هذا خياراً وحيداً متاحاً لهم‏.‏

    هكذا فإن ما سمي بإصلاح التعليم سيكون بمثابة زلزال ثقافي يطعن العربية في مجمل المحيط الجزائري‏،‏ وسيؤدي إلى الإجهاز عليها واقتلاعها من مناطق البربر‏.‏





     من وصايا وفتاوى المجلس الأوربي للإفتاء

    نداء إلى مسلمي الغرب باحترام القوانين وفاء بعهد الأمان

     

     اختلف الأمر في أوربا منذ أربع سنوات‏،‏ أعني منذ تأسيس المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث‏،‏ الذي رأسه الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي‏،‏ وضم بعض العلماء المسلمين الموجودين في أوربا‏،‏ فضلاً عن عدد آخر من الفقهاء العرب‏.‏

    حيث تكفل المجلس بوضع أسس مشروع التعايش والتفاعل الذي أشرنا إليه‏،‏ سواء من خلال التوصيات والتوجيهات التي يصدرها في ختام كل دورة يعقدها ‏(‏المجلس يجتمع مرتين كل عام‏)‏‏،‏ أو من خلال الفتاوى التي يصدرها رداً على تساؤلات واستفسارات المسلمين الأوربيين‏.‏

    فمن التوصيات التي أصدرها المجلس في إحدى دوراته التي عقدها بمدينة دبلن‏.‏ العاصمة الأيرلندية‏.‏ وأكدها في ختام دورة أخرى في كولون بألمانيا‏،‏ دعوة المسلمين إلى الحفاظ على هويتهم الإسلامية‏،‏ وحثهم على مطالبة الحكومات الأوروبية بالاعتراف بالإسلام ديناً‏،‏ وبهم كأقلية دينية‏،‏ شأنهم في ذلك شأن غيرهم‏،‏ أسوة بما فعله المسلمون في بلجيكا وأسبانيا والنمسا والمجر‏.‏

    ثمة توجيه آخر مهم أؤثر نقل نصه كما صدر بكلماته التي جاءت على النحو التالي‏:‏ ‏(‏‏(‏يوصي المجلس‏،‏ ويشدد في الوصية بالالتزام بما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة‏،‏ وبما أجمع عليه فقهاء الإسلام من وجوب الوفاء بمقتضيات عهد الأمان‏.‏ وشروط الإقامة والمواطنة في البلاد الأوروبية‏،‏ التي يعيشون فيها‏.‏ ومن أهم ما يجب عليهم مايلي‏:‏

    ‏-‏ أن يعتقدوا أن أرواح غير المسلمين وأموالهم وأعراضهم معصومة بمقتضى ذلك العهد الذي دخلوا به هذه البلاد‏،‏ والذي لولاه لما سمح لهم بدخولها أو استمرار الإقامة بها‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُولا‏}‏‏.‏

    ‏-‏ أن يحترموا قوانين هذه البلاد التي أوتهم وحمتهم‏،‏ ومكنتهم من التمتع بضمانات العيش الكريم‏،‏ وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ جَزاءُ الإِحْسانِ إِلاّ الإِحْسانِ‏}‏‏.‏

    ‏-‏ أن يجتنبوا كل أساليب الكسب الحرام على اختلاف أنواعها‏،‏ منها سعي بعض المسلمين للحصول على معونة الضمان الاجتماعي‏،‏ مع أنهم يعملون أو يتاجرون‏.‏

    من وصايا المجلس أيضاً إلى المسلمين عامة والمقيمين في ديار الغرب خاصة‏،‏ بالاعتصام بحبل الله والإخوة والسماحة والاعتدال‏،‏ والتعاون على البر والتقوى والتزام الحوار الهادئ والأساليب السلمية في معالجة قضايا الخلاف‏،‏ بعيداً عن مناهج التشدد ومسالك التطرف التي تشوه صورة الإسلام‏،‏ وتسيء أبلغ الإساءة إلى المسلمين عامة والأقليات خاصة‏.‏



     


     انفجار الغضب أمر طبيعي

    رغم أنني أحد الذين يعارضون من حيث المبدأ استقلال المجتمعات الإسلامية وانفصالها عن محيطها غير المسلم‏،‏ طالم أن ناسها ممكنون من ممارسة حرياتهم وأداء شعائرهم‏،‏ إلا أنني أقدر موقف الذين يعانون من الكبت والقمع‏،‏ ولاتسمع صيحاتهم ونداءاتهم الداعية إلى 

    الإصلاح‏،‏ وأجد أن لجوءهم إلى الدفاع عن حقوقهم بأيديهم وسواعدهم‏،‏ أمر مفهوم‏،‏ باعتبار أن ‏(‏‏(‏آخر الدواء الكي‏)‏‏)‏ وأن ذلك الكي صار المنفذ الوحيد الذي ترك لهم لكي يعبروا في إطاره عن حقيقة أشواقهم ومشاعرهم‏.‏

    منذ بداية التسعينات ومسلمو تركستان الشرقية يتحركون ويتململون‏،‏ ويحاولون أن يستردوا بعضاً من حريتهم وهويتهم‏.‏ وهو ما تجلى في التظاهرات التي قاموا بها في عدة مدن‏،‏ في مقدمتها كاشغر ‏(‏أو قشغر‏)‏ وأورموشى وينينج‏.‏ وكان طبيعياً أن تقابل تلك التظاهرات بالأسلوب البوليسي المعروف‏،‏ الأمر الذي عادة ما كان ينتهي بالاشتباكات تم المحاكمات وبعدها الإعدامات‏.‏

    طيلة العقد الأخير والصحف ووكالات الأنباء تنشر أخبار الإعدامات بين المسلمين‏،‏ ويبدو أن عملية الإعدام أصبحت سهلة لدرجة أن حكومة بكين ضغطت على الحكومة الباكستانية قبل أكثر من عام لتسليمها بعض المسلمين من أبناء إقليم سينكيانج‏،‏ الذين اتهمتهم بإثارة الشغب هناك‏،‏ وكان هؤلاء ‏(‏عددهم 13شخصاً‏)‏ قد نجحوا في الهروب من ملاحقة الشرطة الصينية‏،‏ وعبور الحدود إلى باكستان‏،‏ وإزاء استمرار الضغوط‏،‏ فإن حكومة إسلام آباد التي تربطها علاقات وثيقة مع الحكومة الصينية‏،‏ وألقت القبض على أولئك الشبان اللاجئين إليها‏،‏ وقررت تسليمهم إلى السلطات الصينية‏.‏ وقد رتبت عملية التسليم في أحد مواقع منطقة الحدود المشتركة بين البلدين‏.‏ وحسبما سمعت في العاصمة الباكستانية‏،‏ فإنه جيء بالمسلمين الصينيين الهاربين‏،‏ وتم تسليمهم إلى مجموعة من العسكريين الصينيين الذين تم إيفادهم من قبل الحكومة لهذا الغرض‏.‏ غير أن القوة الصينية ما أن تسلمتهم عند الشريط الحدودي حتى طلبت منهم الوقوف صفاً‏،‏ ثم أطلقت عليهم النار واحداً تلو الآخر‏.‏ وتم قتل الـ13شخصاً في موقع التسلم ذاته‏،‏ على مرأى من العسكريين الباكستانيين الذين فوجئوا بما حدث‏،‏ ولم يكن بمقدورهم فعل أي شيء‏.‏



    عن "الإرهاب" والديمقراطية

     

    مجرد التساؤل عن علاقة الإرهاب بالديمقراطية في الأجواء الراهنة يمثل تطوراً نوعياً مهماً في لغة الخطاب، جدير بالتنويه والحفاوة ـ أولاً لأنه يعني أن هناك مَن يحاول التفكير في المسألة، بديلاً عن التصييح والتبكيت. وثانياً لأنه يوحي بأن بعضنا تخلى عن موقف المحاكمة وصار مهياً للفهم والتفاهم، بحثاً عن إجابة للسؤال: لماذا؟ ـ وثالثاً وأخيراً لأنه يلفت النظر إلى بديهية مهمة للغاية أسقطها الخطاب الغوغائي، وهي أن الإرهاب مرتبط أصلاً بالظروف الاجتماعية، وليس عيباً «خلقياً» في فئة بذاتها من دون كل الناس!
    وما كان لنا أن نسارع إلى إثبات الحفاوة بالسؤال، بصرف النظر عن اتجاه إجابته، إلا لأننا صرنا نتشوق لحد كبير إلى موضوعية الحوار، الذي يحترم فيه العقل والحقيقة، ويتنزه عن الهوى والغرض. من هذه الزاوية ـ وبالمناسبة ـ فإن الإنصاف يقتضينا أن نسجل نقطة لصالح السينما في مواجهة الصحافة حيث جاء فيلم «الإرهاب والكباب» مستجيباً لتلك الموضوعية، بدرجة عالية من الأمانة والكفاءة، الأمر الذي عجزت الصحافة أن تثبته حتى هذه اللحظة.
    ولئن بدا فيلم «الإرهاب والكبال» تعبيراً عن موضوعية التناول من جانب السينما، فأملنا كبير في أن يكون الحوار حول «الإرهاب والديمقراطية» بداية لانعطافة مماثلة في الخطاب الإعلامي.
    الذي أثار المسألة، واستدعى تلك المقدمة، مقال لافت للنظر نشره «الأهرام» يوم الجمعة (23/ 4/ 93) بعنوان «الإرهاب والديمقراطية»، للدكتور أسامة الغزالي حرب، رئيس تحرير مجلة السياسة الدولية، هو لافت للنظر لأنه أثار السؤال، كما بينا توا، ثم لأنه تبنى خطابين في حقيقة الأمر. إذ ابتدأ معتبراً الربط بين الإرهاب وبين ضيق الممارسة الديمقراطية هو «من أخطر وأسوأ صور الخلط والتشويش»، ثم وجدناه قد انتهى إلى أن «الديمقراطية بالفعل هي السلاح الحاسم في مواجهة الإرهاب»! ثم فإنه بعد أن أقنعنا بانعدام الرابطة في مستهل المقال، كفانا عناء الرد والمنازعة في الختام، حين قرر قيام تلك الرابطة، معتبراً أن «الديمقراطية هي الحل»!
    إزاء ذلك، فإننا لا نكاد نجد مجالاً للحديث في المنطوق الأخير، لكننا مع ذلك نعتبر أن الحيثيات التي أوردها لا تخلو من تخطيط وتغليط، الأمر الذي يستوجب التصويب والمراجعة.
    رب قائل يقول إن الحيثيات تفقد أهميتها ما دمنا قد «كسبنا القضية»، وهو رأي لا يخلو من وجاهة، غير أنني اعتبرت أن الحيثيات تعرضت لموضوعات مهمة جديرة بالتحقيق والتحرير، والتعليق أيضاً. فضلاً عن ذلك، فلربما كانت مواصلة مناقشة القضية بمثابة تعبير عن الحضارة بموضوعيتها، وحافز لآخرين لكي ينتبهوا إلى أن الأمر أعمق وأعقد مما يظنون ويذهبون.
    في خطاب النفي ذكر الباحث أنه «ليس هناك تلازم بين وجود الديمقراطية واختفاء الظاهرة الإرهابية». وبعدما استشهد بما هو حاصل في العديد من الديمقراطيات، من الولايات المتحدة إلى الهند واليابان، مروراً بالدول الأوربية، خلص إلى أن: «المناخ الديمقراطي ربما يساعد على إبراز الأعمال الإرهابية أكثر من أي مناخ سياسي آخر. فلم يعرف مثلاً عن الاتحاد السوفيتي ولا عن دول شرق أوربا سابقاً، أنها كانت تعاني من الإرهاب، وهي التي كانت ترزح تحت أنظمة شمولية قاسية».
    لا محل للاستشهاد ابتداء بأن الاتحاد السوفيتي ودول أوربا الشرقية لم تكن تعاني من الإرهاب. لسبب بسيط للغاية هو أن الإرهاب كان «مؤمما» ضمن التأميمات الأخرى التي شملت مختلف المصالح والمرافق. ومن ثم فإن السلطة ظلت هي الإرهابي الأكبر، وكان الزعيم هو «أمير» الجماعة الإرهابية الحاكمة. وفي هذا الصدد فربما جاز لنا أن نقول بأن أحد الفروق المهمة بين النظم الشيوعية والديمقراطية، إن الإرهاب في الأولى «قطاع عام»، بينما هو في الثانية تمارسه بعض «دكاكين» القطاع الخاص!
    أيضاً فإن القول بعدم التلازم بين وجود الديمقراطية واختفاء الإرهاب، يحتاج إلى ضبط وتدقيق، لأن ظاهره يعطي انطباعاً هو من الخطورة بمكان.
    فكون الدول الديمقراطية تعاني من ظاهرة الإرهاب، لا ينهض دليلاً كافياً على عدم التلازم بين المسألتين. وإنما هو دليل على أننا بصدد ظاهرة مركبة، تتداخل في إفرازها عوامل عدة، ولا نستطيع التعويل في تفسيرها على سبب واحد. ومن ثم فإن أحداً لم يقل بأن غياب المشاركة الديمقراطية وحده المسئول عن ظهور الإرهاب. وإنما قلنا، وقال غيرنا، بأنه أحد الأسباب التي أسهمت في صناعته. وأن هناك أسباباً أخرى لابد من الانتباه إلى دورها. وهي تتمثل في استحكام الأزمة الاقتصادية وشيوع الإحباط على المستوى الاجتماعي، الأمر الذي يفرز حالة من اليأس والسخط، يعد الإرهاب أحد تعبيراتها.
    على صعيد آخر، فالقدر المتيقن أنه إذا لم تفلح الديمقراطية في أن تمثل دواء ناجعاً لمكافحة الإربها، فإنها في أدنى درجاتها تجفف من بعض ينابيعه وتقلص من مساحته واحتمالاته. الأمر الذي نستند إليه في القول بأنه إذا كان حضور الديمقراطية يسمح ببروز النشاط الإرهابي، نتيجة لما توفره أجواؤها من حريات، فإن غياب الديمقراطية يؤدي إلى شيوع الإرهاب وتقنينه. بحيث أنه إذا ما صار استثناء في الحالة الأولى، فإنه يصبح قاعدة في الحالة الثانية. ولا مقارنة بين نصف العمى والعمى كله، كما يقول المثل الشائع.
    أشار الكاتب إلى هذا المعنى في خطابه الثاني الذي أثبته في ذات مقاله، حين حدثنا عن إفرازات الديمقراطية التي تسهم في امتصاص عوامل الإرهاب، وفي «تقليص البؤر التي يمكن أن تنمو فيها أعمال العنف»، على حد تعبيره. وقد ركز في عرضه لتلك الإفرازات على أمور ثلاثة هي: المشاركة الفعالة من جانب المجتمع في الحياة العامة ـ الكفاءة في أداء النظام السياسي التي تمكنه من مراجعة السياسات والقيادات أولاً بأول ـ توفير المزيد من أسباب الازدهار والنمو، ومن ثم القضاء على أهم مصادر «تفريخ» العناصر الإرهابية.
    غير أننا نضيف عنصرين آخرين لصالح الديمقراطية في مواجهة الإرهاب، غفل عنهما الباحث. وربما اشار إليهما بغموض وتعميم شديدين، طمسا دورهما إلى حد الإغماط والظلم.
    ذلك أن من شأن الممارسة الديمقراطية الحقيقية أن تشيع الأمل في إمكانية التغيير السلمي للأوضاع السياسية والاقتصادية، الأمر الذي يشجع المعنيين بالعمل العام على تنشيط مشاركتهم السياسية، إدراكاً منهم بأنهم إذا ما جدوا على ذلك الطريق، فإنهم واصلون إلى هدفهم يوماً ما. في حين أن انعدام الأمل في إحداث التغيير بالوسائل السلمية والديمقراطية، يدفع الناس دفعاً إلى محاولة التغيير بالعنف ويفتح الباب واسعاً لممارسة الإرهاب، باعتباره الخيار الوحيد المتاح.
    على صعيد آخر فإن الديمقراطية هي الكابح الوحيد الذي يحول دون الإرهاب الذي قد تمارسه السلطة. حيث يلفت النظر هنا أن كثيرين عندما يتحدثون عن الإرهاب يركزون على الإرهاب الأهلي دون الحكومي. وكأن الأول وحده هو المحظور بينما الثاني هو المباح الذي يمكن غض البصر عنه. في حين أننا نحسب أن إرهاب المؤسسات السياسية هو الأخطر، بطبيعة ما يتوفر لديها من إمكانيات للقهر، فضلاً عن أنه في حالات لا تخطئها عين يظل الإرهاب الحكومي هو الأصل الذي أنتج الإرهابي الأهلي.
    ما توفره الديمقراطية من آليات في الممارسة تسمح بالمساءلة فضلاً عن المشاركة، من خلال المجالس النيابية المنتخبة، وما تقتضيه من احترام للقانون والدستور والحريات العامة، ذلك كله يحول دون إرهاب السلطة، وذلك كسب كبير لا يقدر بثمن.
    * * *
    ـ إن هناك خطراً دستورياً وقانونياً على قيام أحزاب على أسس دينية في مصر.
    ـ مع ذلك فإن القوى السياسية الإسلامية، هي أكثر القوى السياسية تمتعاً بمنابر ومنافذ التعبير، بما لا يمكن أن يقاس به على الإطلاق أي تيار سياسي آخر.
    ـ إن قوى التطرف والإرهاب رافضة للشرعية من الأساس، ومن ثم فهي لا تشكو من عدم الحوار معها لأنها ترفضه أصلاً!
    وهو كلام غلط في معلوماته، وخطر في إيحاءاته ..
    فليس صحيحاً أن هناك خطراً دستورياً من أي نوع على قيام أحزاب إسلامية في مصر. إذ ليس في الدستور المصري أي نص حول هذا الموضوع، بل إن روحه تعطي انطباعاً معاكساً تماماً. فإذا نص الدستور على أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي، وإن مبادئ الشريعة هي المصدر الأساسي للتشريع. فإن هذا الموقف يحمّل ضمناً بمفهوم الإباحة وليس الحظر. إذ كيف يتصور أن يحظر الدستور مباشرة نشاط ينبني على مادة أساسية فيه؟!
    الالتباس في الموضوع مصدره قانون نظام الأحزاب السياسية وليس الدستور. إذ ينص القانون (في المادة 4 ثالثاً) على عدم جواز قيام أحزاب سياسية على أساس طائفي أو فئوي أو جغرافي، ولم يذكر الأساس الديني. لكن المشرع أضاف «أو على أساس التفرقة بين الجنس أو الأصل أو الدين أو العقيدة».
    والفارق ظاهر هنا بين قيام الحزب على أساس ديني، وبين التفرقة بين المنضمين إليه أو المتعاملين معه على أساس الدين. إذ الخطر ينطبق على الحالة الثانية دون الأولى. والقول بخلاف ذلك يتعارض مع نص الدستور، ويجعل القانون مطعوناً فيه بعدم الدستورية، انطلاقاً من المادتين السابق الإشارة إليهما.
    المسألة الثانية المتعلقة بما تتمتع به القوى السياسية الإسلامية من منابر في التعبير مردودة بدورها. ناهيك عن إننا نتحفظ ابتداء على اختزال الديمقراطية في مجرد حرية التعبير ـ وهو ما انتقده الباحث ذاته ـ الأمر الذي يحصرها في حرية الثرثرة والصياح.
    ولا أعرف على أي أساس أمكن الإدعاء بأن القوى السياسية الإسلامية «أكثر القوى تمتعاً بمنافذ التعبير»، إذا كانت هي القوى الوحيدة المحجوبة عن الشرعية (مع الشيوعيين) ـ وإذا كانت المساجد أكثر مؤمم، والباقي في الطريق؟
    إن الحالة الوحيدة التي يمكن أن ينهض بها معيار الكثرة، هي اعتبار جمعيات رعاية الأيتام ودفن الموتى ومراكز تحفيظ القرآن، هي قاعدة القوى السياسية الإسلامية!
    وإذا ما افترضنا جدلاً أن الادعاء صحيح، رغم بطلانه يقيناً، فمن قال إن وسائل الاتصال والتأثير في مجتمعات زماننا تقاس فاعليتها بمعيار الكثرة؟ ذلك إن ما يبثه التليفزيون ونحده في عقول الناس ليل نهار، لا يقارن في أثره بما يتردد في آلاف المساجد كل يوم جمعة على مدار العام.
    إن أهمية إضفاء الشرعية على العمل السياسي الاسلامي لا تكمن فقط في توفير فرصة أو حق المشاركة لتيار له حضوره المعتبر في الساحة، وإنما أيضاً لأن تلك الشرعية تتيح لعناصر ذلك التيار أن تتمثل قيم الديمقراطية وتتربى عليها من خلال الممارسة. فمن المفارقات المثيرة أن يطالب الشباب الاسلامي مثلاً باحترام التعددية والقبول بالآخر، وبغير ذلك من قيم الديمقراطية، بينما يجد نفسه ملفوظاً من التعددية. ويجد الآخر رافضاً له، ومنكراً عليه وجوده!
    إن النفي من الخرائط السياسية الشرعية هو بحد ذاته نوع من التطرف السياسي من جانب الطرف الفاعل. أما المنفيون ـ المفعول بهم ـ فإنهم يوضعون بذلك الموقف على أولى مدارج الانحراف الفكري. الذي لا يستغرب أن ينتهي بالعنف والإرهاب. خصوصاً إذا اجتمع اليأس من المشاركة السياسية، مع اليأس والإحباط الاجتماعي والاقتصادي!
    من هذه الزاوية يبدو الحديث عن منابر التعبير متهافتاً وفي غير محله. إذ التعبير ليس هدفاً في ذاته، ولكنه أحد أوجه المشاركة. والمشاركة جزء من الممارسة، وما لم تتم تلك الممارسة في النور وفي إطار الشرعية، فإنها تصبح طريقاً محفوفاً بالمخاطر التي لم نعد بحاجة إلى سردها. فأنباؤها صارت مادة ثابتة في صحف كل صباح.
    نأتي إلى النقطة الثالثة والأخيرة، التي بدا فيها الباحث وكأنه يقلل من أهمية الشرعية، محتجاً بأن فصائل العنف والإرهاب رافضة لها أصلاً. وهو كلام يوحى بأن المنتمين إلى تلك الفصائل ولدوا أصلاً رافضين للشرعية ومخاصمين للمجتمع. في حين أن الأمر ليس كذلك بكل تأكيد، حيث رفض الشرعية هو موقف لاحق تنتجه «ظروف» عدة، تحتاج إلى دراسة وتحقيق.
    من ناحية ثانية فإن هذا المنطق يتجاهل أن العجلة تدور، وأن ثمة أجيالاً جديدة تضاف إلى الساحة كل يوم، وإذا لم تجد مكاناً لها في ظل الشرعية. فالبديل هو العمل السري واللاشرعية، وبقية المسلسل معروفة.
    لم يسأل الكاتب نفسه. ولا هو حاول أن يسألنا: لماذا يرفض أولئك الشرعية؟ أيضاً لم يخطر له أن يسأل: ما هو الجهد الذي بذل، أو الذي يتعين بذله لاستيعاب هؤلاء في إطار الشرعية؟ وإذا كان قد جرى ما جرى، فما هو الدرس الذي ينبغي أن نستخلصه حتى ننقذ الأجيال القادمة من الوقوع في براثن العنف الفكري أو المادي، لكي يكون الغد أفضل من اليوم أو الأمس؟
    تلك أسئلة تثير قضايا جوهرية، وثيقة الصلة بالديمقراطية وبالإرهاب في الوقت ذاته. ولا يستطيع حديث مستقيم عن أي منها أن يتجاهلها. وإذا عجزت الديمقراطية عن أن تقدم إجابة مقنعة على هذه الأسئلة، فإجابة خطاب الإرهاب حاضرة!.
    في الأخير. لا يسع المرء إلا أن يثبت حفاوته بالخلاصة التي أبرزها الكاتب في خطابه الثاني، والتي قرر فيها: إن الديمقراطية سوف تظل هي الإطار الأشمل والأوسع للقضاء الحقيقي على الظاهرة (الإرهاب)، واستئصال جذورها. ولكن الديمقراطية ليست فقط حرية التعبير. وهي أيضاً ليست فقط مجموعة من الإجراءات والقواعد الشكلية ولكنها منظومة متكاملة من القيم والمبادئ العليا الملزمة للدولة وللمجتمع، وللغالبية والأقلية. وبهذا المعنى العام، فإن الديمقراطية بالفعل هي الحل في مواجهة الإرهاب.
    --------------------------
    * احقاق الحق



     


     

     الحل
     يبدأ من من مصر

    الشعوب العربية لم يحدث لها انتكاسة ولم تهزم، ولكن الذي انتكس وهزم هي الأنظمة العربية والنظام العراقي. إن لدينا شعوبا حية، بدليل المظاهرات التي خرجت في الدول العربية بأسرها رافضة العدوان الأمريكي علي العراق والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.. فهي ما زالت محتفظة بحيويتها. والمشكلة الحقيقية هي دائما غياب الديمقراطية وقهر السلطات للشعوب لكبح مشاعرها.. ومن سلطات هذا القهر تطويع كل شيء لصالح النظام السياسي.

    إنه في وقت غياب الديمقراطية الحقيقية تعمدت الأنظمة العربية شيوع الديمقراطيات المزيفة.. وبعدما وقعت الواقعة بالعراق، خرج الجميع يؤكد أنه لا علاقة بين ديمقراطيته وديمقراطية العراق، وأنه يطبق الديمقراطية الكاملة بدولته أو مملكته..!!
    والحقيقة المؤكدة أن هناك أكثر من صدام حسين مستنسخ بالدول العربية وأنظمة قاهرة وضعيفة ومستسلمة للضغوط الأجنبية وبالتالي لابد أن تكون النتيجة أن الأمة العربية هي التي تبدو مكسورة.

    نقطة البدء تكون من الحديث عن ديمقراطية حقيقية تترجم علي أرض الواقع.. لأنه بالرغم من مرور كل هذا الوقت علي تجربة العراق وما حدث بها إلا أنه يبدو أننا لم نتعلم شيئا سوي الكلام فقط!! فلم يعلن حتي الآن عن حل برلمان جاء بتزوير الانتخابات.. ولم يتقدم وزير علي مستوي الوطن العربي باستقالة لفساد ارتكبه في وزارته أو أهمل في مسئولية ولم يتم تشكيل وزارات تعبر عن شعوبها بحق. ولم يتخذ خطوة واحدة حقيقية نحو إصلاح سياسي اقتصادي اجتماعي ثقافي في أي دولة بالوطن العربي.
    كما أن التجارب الموجودة والكائنة في العالم الإسلامي لم تنجح هي الأخري.. لأنها تعتبر تجارب غيبت موضوع الديمقراطية. ومن هذه الدول: السودان وأفغانستان وإيران، وإن كانت نصف ديمقراطية.
    ومن هنا نؤكد أن الانتكاسة التي حدثت كانت من نصيب الديمقراطية في الوطن العربي.. بسبب الأنظمة المتوالية والمتعاقبة لأنها لم تبدأ أو تتبع الديمقراطية.
    والحل يبدأ من هنا من مصر، بحكم دورها المحوري بالوطن العربي. ولا ننكر أنها لم تحقق ما كان معلقا عليها من آمال وطموحات لدي المصريين خاصة والشعوب العربية عامة.


      الذين يبدأون بالانحناء
     ينتهي بهم الحال إلى الانبطاح

    ما تمنينا أن يكون انسحاب سوريا من لبنان استجابة لضغوط امريكية وأوروبية، لأن مختلف الشواهد تدل على أن الانصياع لرغبات الدول الكبرى هو الخطوة الأولى على طريق الندامة، وأن الذين يبدأون بالانحناء ينتهي بهم الحال إلى الانبطاح، إن لم يكن الانتحار.

     

    ليس عندي أي دفاع عن الوجود السوري في لبنان، ولا أجد تبريراً يسوغ الممارسات السورية هناك، التي أقر الرئيس بشار الأسد بأنها وقعت في أخطاء اساءت إلى لبنان وسوريا معاً، وهي الأخطاء التي استخدمت ضد دمشق في نهاية المطاف، إذ بها جرى ابتزازها ولي ذراعها، الأمر الذي عرضها لما تمنينا ألا تتعرض له. فتجرأ عليها الجميع، واستقوى عليها كل من هب ودب. ووجدنا الرئيس الأمريكي يحدد موعداً ينبغي أن يتم الانسحاب قبله (أول مايو). كما تابعنا رحلة مبعوث الأمم المتحدة الذي طلب اطلاع المنظمة الدولية على الجدول الزمني للانسحاب، وأدركنا أن ثمة ملاحقة للسوريين في لبنان، كانت وراء الإعلان عن أن القوات التي انسحبت خلفت وراءها ستة مراكز للمخابرات السورية، موزعة على بعض المدن اللبنانية.

    وكما أن الأخطاء السورية لا مجال للدفاع عنها، فإن المطالبة برفع الوصاية السورية على لبنان تعد أمراً مشروعاً لا ريب. في الوقت ذاته فإن إذلال سوريا وتنافس الزعماء الغربيين في اصدار التعليمات لدمشق، واصرارهم على ضرورة امتثالها للإرادة الغربية تستفز الضمير العربي وتسرب اليه مشاعر الحزن والغضب. بكلام آخر، فإن سوريا كان ينبغي أن تخرج، واللبنانيون لهم الحق في العيش بعيداً عن الهيمنة السورية، إلا أن إخراج المشهد كان له أن يتم تنفيذاً لأوامر صادرة عن العواصم الغربية.

    أجد الإجابة صعبة عن السؤال: هل كان يمكن للسوريين أن يخرجوا بغير هذه الطريقة؟ والصعوبة ليست في عدم العثور على الاجابة، ولكنها تكمن في أن الاجابة موجودة، ولكنها بعيدة المنال ومتعذرة التنفيذ. ذلك أنني أزعم أن النظام العربي لو توافر له حد أدنى من العافية والصدقية في تمثيل الأمة العربية وإدارة خلافاتها، لما وقعت أمور كثيرة: من غزو العراق للكويت إلى غزو الأمريكيين للعراق، إلى الدعوة إلى تأديب وتهذيب وإصلاح الأمة العربية بأسرها، من خلال ما يسمى الشرق الأوسط الكبير، الى طرد سوريا من لبنان.. الخ.

    بسبب انهيار النظام العربي فإن وفود المعارضة اللبنانية لم تخاطب أحداً من العرب حين استحكمت الأزمة، ولكنها توجهت إلى موسكو وبروكسل وفرنسا وألمانيا. لم تجد تلك الوفود “كبيراً” في العائلة العربية تحتكم اليه، ولم تجد إطاراً مؤسسياً عربياً تلجأ اليه. وهي ذاتها الخلفية التي شجعت قوى الهيمنة على الاستفراد بسوريا، وراحت تملي عليها شروطها وتتفنن في اذلالها.

    أيدني الدكتور أحمد يوسف استاذ العلوم السياسية ومدير معهد الدراسات العربية فيما ذهبت اليه، واسترسل مذكراً بأن النظام العربي هو من وضع أساس حل المشكلة اللبنانية من خلال اتفاق “الطائف”، الذي أصبح مرجعية وافق عليها الجميع. وقال إن اتفاق الطائف كان عنواناً لعافية النظام العربي، في حين أن قرار 1559 الذي مررته الولايات المتحدة بالتواطؤ مع فرنسا في مجلس الأمن، أصبح أحد عناوين مرحلة انهيار ذلك النظام، إذ في الطائف كانت الأمة حاضرة، وفي قرار 1559 كان السيناريو الأمريكي هو المفروض على الأمة.

    لئن كان الانسحاب من لبنان هدفاً رحب به البعض ودعت إليه المعارضة اللبنانية، فإن ذلك لا يشبع رغبة واضعي “السيناريو”، إذ الانسحاب هو بداية الانصياع الذي يراد له أن يشمل أشياء أخرى بعضها نص عليه قرار مجلس الأمن (نزع سلاح حزب الله) وبعضها وارد في “الأجندة” ضمناً، والبعض الآخر لا يزال في علم الغيب. فهي مطالبة الآن بالمساهمة في تثبيت الهيمنة الأمريكية على العراق، وتأييد التسوية السياسية الجائرة للقضية الفلسطينية، وإغلاق مقار المقاومة الفلسطينية (حماس والجهاد أساساً) وطرد قادتها من دمشق، وقطع علاقاتها مع حزب الله في لبنان، وفك الارتباط مع إيران. وإذ قطعت دمشق شوطاً في الاستجابة لبعض تلك الطلبات، فإن هناك أموراً أخرى مدرجة على القائمة، تتعلق بالأوضاع الداخلية السورية، كان منها على سبيل المثال إلغاء التدريب العسكري في المدارس، وتغيير الزي العسكري للطلاب. وكانت تلك ضمن قائمة الطلبات (قيل إنها عشرة) التي قدمها وزير الخارجية السابق كولن باول للمسؤولين في دمشق، اثناء الزيارة التي قام بها للعاصمة السورية في اعقاب سقوط بغداد.

    إن السؤال الكبير الذي يلح على المرء حين يتابع تلك المؤشرات هو: ما الذي يبقى من سوريا إن هي استمرت في الامتثال، واستجابت لكل ما يطلب منها؟

    لا مجال للمقارنة بين الضغوط الهائلة التي مارستها الولايات المتحدة والمجتمع الدولي - بما في ذلك بعض الدول العربية - على دمشق للامتثال لما يطلب منها، بموقف تلك الدول من انسحاب “اسرائيل” من الأراضي الفلسطينية التي احتلتها في عام 67. وهي مقارنة تكرس شعور الواحد منا بالمهانة والخزي، من حيث إنها تبين المدى الذي بلغته عملية استباحة العالم العربي والازدراء به، كما أنها تبين في الوقت ذاته أن القرار الدولي إذا كان يطالب أي طرف عربي بشيء، فإن القرار يكتسب حصانة وقدسية تفرضان ضرورة الالتزام به حرفياً، والا ظهرت العصا والعين الحمراء. أما إذا كان القرار خاصاً ب “إسرائيل”، ويطالبها بأي شيء، فإنه يغدو مجرد ورقة لا قيمة لها، وتستطيع “إسرائيل” أن تتجاهلها، وأن تدوس عليها دون أن يكلفها ذلك شيئاً. وذلك موقفها التقليدي إزاء مختلف مؤسسات الشرعية الدولية، بدءاً من قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود عام ،1947 إلى قرار محكمة العدل الدولية في عام 2004 ببطلان إقامة الجدار وكل ما أقيم فوق الأراضي الفلسطينية المحتلة.

    في ظل انهيار النظام العربي، وانعطاف الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات صوب طريق التسوية والانصياع، طلب من الرجل أن يعلن على الملأ ان المقاومة “ارهاب”، (في ما رددت الأوساط الدبلوماسية ان الخارجية الأمريكية أصرت على تضمين خطابه عبارات محددة وردت نصاً)، فوقف أبو عمار في عام 1988 وردد ما طلب منه أمام اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في جنيف. وأعلن نبذ الكفاح المسلح باعتباره “إرهاباً”، وهو الذي كان قد تمسك أمام المجلس الوطني الفلسطيني في عام 63 - حين كان للنظام العربي حضوره - بأن الكفاح المسلح هو “الطريق الوحيد لتحرير فلسطين”!

    وقتذاك بدا أبو عمار وقد لبى ما أراده الأمريكيون، (ومن ورائهم “الاسرائيليون” بطبيعة الحال)، إلا أن أحد الصحافيين الأمريكيين تساءل في تعليق له على المشهد، لماذا لا يحلق الرجل لحيته ويغير هيئته، حتى يبدو مظهره أكثر قبولاً لدى العالم المتحضر؟! وهو التعليق الذي حين قرأه أحمد بهاء الدين رحمه الله، سمعته يقول بصوت تملؤه الحسرة، إنهم لن يتركوا أبو عمار إلا إذا نزعوا عنه ملابسه قطعة قطعة، وتركوه عارياً في نهاية المطاف!

    ثمة رواية قريبة من تلك سمعتها من السياسي الفلسطيني المخضرم عبدالقادر ياسين، حيث ذكر أن المبعوث الأمريكي فيليب حبيب أوصل رسالة إلى ياسر عرفات في عام 82 أثناء حصار بيروت خلاصتها أنه من الأفضل له أن يلجأ إلى تونس بدلاً من سوريا، وأغراه بأنه إذا فعل ذلك فإن الأمريكيين سيقدمون للفلسطينيين حلاً مرضياً، ففعلها أبو عمار وذهب إلى تونس وهاجم دمشق من هناك، لكنه لم يتلق “الجزرة” الموعودة! - في أعقاب ذلك - والكلام لا يزال لعبد القادر ياسين - ذهب وفد يمثل القمة العربية إلى واشنطن لعرض الملف الفلسطيني - في ضوء ما قيل عن استعداد الولايات المتحدة لتقديم حل مرض لهم - وكان الملك الحسن الثاني عاهل المغرب على رأس الوفد، ثم حين عاد إلى الرباط زاره أبو عمار وسأله بلهفة: ماذا قال لكم الرئيس ريجان؟ فرد الملك الحسن قائلاً إنه سأل وفد القمة العربية بتأفف: لماذا يتمسك هذا الرجل (عرفات) بتلك الهيئة، ما هذه الخرقة (الحطّة) التي يضعها فوق رأسه، ويلفها بحبل؟!

    حينذاك سأل ابو عمار الملك الحسن، ماذا قلتم له، فكان رد الملك إننا سكتنا ولم نرد، فقال له: ليتكم قلتم له أعطوه حلاً وهو مستعد لأن يرتدي سترة (بدلة) “سموكنج”!

     

    ما يحدث في السودان يقدم نموذجاً آخر، فاضحاً وفجاً، للنتائج والآثار التي تترتب على السير على درب الانصياع، إذ لأسباب يطول شرحها فإن حكومة الخرطوم لم تقو على أن تقول لا، في مواجهة الضغوط التي مورست عليها، خصوصاً من الولايات المتحدة في صدد التوصل إلى اتفاق لإنهاء ملف الانفصاليين في الجنوب، الذين يقودهم جون قرنق. وهو الرجل الذي ساندته كل القوى التي لا تكن وداً او تتمنى خيراً للعرب والمسلمين، ولا للسودان بوصفه جزءاً من تلك الدائرة ماذا كانت النتيجة؟

    في كل مكان ذهب اليه، وفي كل مناسبة تحدث فيها، ما برح جون قرنق يتحدث عن ميلاد “سودان جديد” منزوع العروبة والاسلام، بل إنه في خطبة الاحتفال بتوقيع اتفاق السلام في نيروبي لم ينس ان يهاجم “التسلط العربي الاسلامي طوال مسيرة الحكم الوطني”. وقد تحفظت حركته على مشاركة الدول العربية والاسلامية في قوات حفظ السلام بحجة أن بعضها - الاردن مثلاً - كانت تعالج معوقي الحرب من الجنود الشماليين، في ما لم تعترض على مشاركة الاوغنديين والكينيين، رغم أن البلدين كانا يعالجان جنود قرنق ويحتضنان حركته طول الوقت. بل إن قرنق يصر على تغيير اسم العملة السودانية (الدينار) واستبداله بالجنيه، بدعوى أن كلمة “دينار” عربية واسلامية، ومن ثم فهي مسكونة بإشارة لا تناسب “السودان الجديد”، رغم أن ذلك يكلف خزينة الدولة حوالي 80 مليون دولار، وهو مبلغ لا يستهان به في بلد ارهقته الحرب وشاع فيه الفقر. أكثر من ذلك فإن أحد أركان حركة قرنق احتج على شعار “الخرطوم عاصمة للثقافة العربية” للعام الحالي (2005)، وهو التقليد الذي اتبع بصورة دورية مع دول الجامعة العربية منذ سنوات، إلا أنه بسبب ذلك الاعتراض جرى تغيير الشعار بسرعة، ورفعت اللافتات ووزعت ملصقات جديدة في العاصمة، تحدثت عن الخرطوم عاصمة للثقافة، فقط!

    من تلك الممارسات أيضاً ان حركة قرنق، بالتعاون مع اريتريا وإحدى المنظمات الأمريكية، شرعت في استخدام لهجة “البداويت” في التعليم بمنطقة “همشكوريب” شرقي السودان، التي يدعون أنها “منطقة محررة”، من خلال كتابتها بالأحرف اللاتينية وليست العربية، في جهد آخر يطارد العربية في منطقة عرفت تاريخياً بأنها محضن القرآن الكريم، الأمر الذي يصب في طمس وجه السودان الحقيقي.

    وإذ يحدث ذلك من جراء حالة عدم الممانعة من جانب حكومة الخرطوم، واستجابة للضغوط التي يمارسها جون قرنق المستقوي بالدعم الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة، فإن مجلس الأمن يتجه من الناحية العملية إلى فرض الوصاية على السودان، بحيث تمثل المجلس لجنة تجعل أي تحرك للطائرات السودانية في دارفور - مثلاً - مشروطاً بموافقة تلك اللجنة. ليس ذلك فحسب، وإنما بلغت الملهاة ذروتها في ما نشر عن أن معهداً المانيا يتولى هذه الأيام إعداد مسودة الدستور الانتقالي للسودان(!!).

    في وصف المشهد ذكر الكاتب السوداني الطيب مصطفى في مقالة نشرتها له يوم 28/2 ثلاث صحف بالخرطوم: “لقد هُنا فسهل الهوان علينا. فبعد أن وعدنا من قبل أمريكا بالمن والسلوى، إن نحن وقعنا على الاتفاق مع قرنق بكل ما فيه من تنازلات.. ها هي أمريكا تضيق الخناق علينا أكثر، وتعدل قانون سلام السودان لتجعله أكثر قسوة، وتسخر صنيعتها الأمم المتحدة لتجعل منا أضحوكة بين العالمين، ويصبح مندوب كوفي انان مفوضاً سامياً يحكم السودان، ويصدر التعليمات الوقحة بأصبعه السبابة، دون أن يجد رجلاً واحداً يزجره أو يقول له كفى.. إن الحكومة مطلوب منها أكثر من غيرها الحفاظ على كرامة الإنسان السوداني، التي مرغت في التراب، ولا يمكن ولا يجوز لها أن تمضي في مسيرة التنازلات إلى ما لا نهاية”.

    مستقوياً بقوى الهيمنة حصل جون قرنق على كل الجنوب، دون غيره من الزعماء الجنوبيين المعارضين له. واستأثر بنصف ثروة البلاد من النفط، كما حصل على ثلث السلطة في الشمال، ووضعت قواته في قلب الخرطوم بكل ما يحمله ذلك من خطر، واحتل موقع النائب الأول لرئيس الجمهورية بسلطات استثنائية تجيز له الاعتراض على قرارات الرئيس، وهو وحركته يفعلون بالسودان ما يشاؤون، ويطالبون الشماليين بقبول ما يجري، باعتبار ذلك من متطلبات “بناء الثقة”، الأمر الذي ضاق به الكاتب السوداني المرموق الدكتور محمد إبراهيم الشوش، فكتب في صحيفة “الرأي العام” يقول عن بناء الثقة انه: “تُقدم تحت قدميها هذه الأيام القرابين ويطلق البخور وتتبدد الاحتجاجات، لا تحتج إذا صفعك أحد في عرض الطريق أو بصق في وجهك أو خلع قميصك أو سلبك مالك أو سحب غطاءك، فذلك كله يهون في سبيل بناء الثقة! حذار أن تعبس أو تغضب أو تضجر وإذا انفجر في رأسك شريان فاستسلم لقدرك. وإذا باعك أحد كوبري النيل الأبيض على علاته وليس في جيبك غير مرتبك وهو بالكاد يكفي لعيالك، فلا تتردد في شرائه، أو نسب اليك أحد جريمة لم ترتكبها فلا تنكرها، اعترف بها وزد عليها واطلب الصفح والغفران لك ولآبائك وأجدادك، فقد سرقوا وإن ماتوا جوعى وعراة، فأنت في عصر “بناء الثقة” كما يجد بعض التعساء أنفسهم بعد حرج شديد أمام الكاميرا الخفية، وفي سبيل الثقة يهون كل شيء: اسمك وبلدك وهويتك وتراثك وكل ما ملكت يداك أو ورثته عن أجدادك”.

     

    في المنطقة من حولنا نموذجان للممانعة جديران بالاهتمام. إيران التي تقاوم بصلابة وعناد الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي لوقف تخصيب اليورانيوم، الذي من خلاله تستكمل مشروعها الذي تواصل بناؤه منذ ربع قرن لاستخدام الطاقة النووية في خدمة مشروعاتها التنموية والصناعية (يقول الايرانيون ان من شأن ذلك اطلاق وانعاش 500 صناعة في بلادهم). وما برحت تلك الضغوط تزداد شراسة، حتى بلغت حد التهديد بإحالة الملف إلى مجلس الأمن، الذي صار ألعوبة بيد واشنطن، لتقرير العقوبات التي يمكن أن توقع على إيران إذا ما أصرت على المضي في مخططاتها. وهو ما يلوح به الآن رغم قبول إيران إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية على مفاعلاتها وأنشطتها، ورغم أن روسيا تقدم المساعدة إلى طهران في بناء مشروعها النووي، اطمئناناً إلى أهدافه السلمية. وهو ما يحدث بمنتهى الجرأة و”البجاحة”، في ظل إغفال تام وتجاهل متعمد للمشروع النووي “الاسرائيلي”، الذي يمثل تهديداً حقيقياً لكل دول منطقة الشرق الأوسط.

    أما النموذج الثاني فهو تركيا التي رفضت السماح للقوات الأمريكية بعبور أراضيها في غزو العراق (عام 2003)، رغم ما بين البلدين من تحالف وثيق طيلة خمسين عاماً، معتبرة أن ذلك التحالف لا يبرر استخدام الأراضي التركية في ما يهدد مصالح البلد مع جيرانه ويؤثر في أمنه القومي. وهو ما تجلى أيضاً في رفض أنقرة قبل اسبوعين مبلغ مليار دولار كانت قد قررتها الإدارة الأمريكية لتعويض تركيا عن خسائرها بسبب احتلال العراق. وكان السبب الرئيسي للرفض أن التعويض قدم بصيغة اعتبرتها القيادة التركية ماسة بسيادتها واستقلال قرارها. وحسبما فهمت من المسؤولين في أنقرة فإن التعويض كان يدعو حكومة أنقرة إلى التعاون في استقرار الأمور في العراق. وهو أمر وجدت القيادة التركية انه ينبغي أن يترك لتقديرها.

    إن الممانعة المرجوة تعتمد على أمرين يكمل بعضهما بعضاً، أولهما توافر الإرادة المستقلة، وثانيهما الظهير الذي يستند إليه النظام الذي يتعرض للضغوط. ولا ظهير أقوى من جماهير تلتف حول النظام ويكتسب منها شرعيته، يعززه ويقوي من عوده محيط أو حليف له بأسه، يشكل قطباً مقابلاً، ولو بصورة نسبية. وهو ما توافر لأمتنا يوماً ما، حين توافر لهم النظام العربي الذي كان بمقدوره أن يقف على قدميه على الأقل، والحليف السوفييتي الذي وازن الكفة في مواجهة القطب الأمريكي.

    من أسف أننا في هذه الأيام نواجه مأزقاً على المستويين، سواء في ما يخص الإرادة المستقلة أو الظهير الداخلي والخارجي. وفي غيبة هاتين الدعامتين فلن يبقى أمامنا سوى الهرولة على طريق الندامة.


     شكوك وراء تفجير
     فتنة دارفور وتدويلها


    الاستنفار العالمي لأجل قضية دارفور يثير العديد من الاسئلة المهمة، المتعلقة بحقيقة وأصل المشكلة، أو في طبيعة ومقاصد القوى التي تحركها، ولا أتردد في القول ابتداء بأن افتراض البراءة في ذلك الاستنفار الحاصل الآن أمر من السذاجة بمكان.

    وقبل ان أشرح حيثيات ذلك الزعم ارجو الا يظن انني أهون من شأن ما يجري هناك ففي دارفور مأساة انسانية عاجلة واجتماعية عميقة، يتعين التعامل معها بأقصى درجة من المسؤولية وفي اسرع وقت، ولو ان الاستنفار العالمي حاصل لنصرة واغاثة كل المضطهدين والمسحوقين من ضحايا الصراعات في انحاء العالم، لما كان هناك مبرر للشك أو القلق، ولكن أن تتعدد الصراعات في أماكن شتى ويتساقط في ثناياها ومن جرائها مئات بل ألوف الضحايا، الذين هم في أمس الحاجة الى العودة والاغاثة والحماية، ثم يتم تجاهل ذلك كله، ويجري التركيز على دارفور بوجه أخص، فإن ذلك يثير أكثر من علامة استفهام وتعجب، من ثم فليس السؤال هو لماذا الاستنفار العالمي من اجل دارفور، بقدر ما انه لماذا الاستنفار لاجل دارفور وإهمال غيرها، لهذا فلسنا ندعو الى تقليل الاهتمام بالحاصل هناك، ولكننا ندعو الى توجيه اهتمام مماثل لملفات وقضايا مماثلة، ان لم تكن اشد تعقيدا واكثر جسامة من قضية دارفور.

    ان احدا لم يهتم مثلا بالتقرير الذي اصدرته منظمة العفو الدولية عن اوضاع مسلمي الصين يوم 8/7 الحالي، والذي كشف النقاب عن اجواء القمع القاسية التي يتعرض لها اكثر من عشرة ملايين مسلم في تركستان الشرقية (سكان دارفور ستة ملايين) وهي المنطقة التي تحولت الى «ولاية» في غرب الصين عرفت باسم «سينكيانج»، فقد تحدث التقرير عن ان السلطات الصينية دأبت خلال السنوات الثلاث الاخيرة، بعد وقت قصير من بدء الولايات المتحدة ما ادعت بأنه حربها على الارهاب، على توجيه حملات قمعية قاسية ضد مسلمي سينكيانج، الذين يطالبون بحريتهم الدنيية وبالمزيد من مقومات الحكم الذاتي (البعض يحلم بالانفصال واقامة دولة مستقلة)، واشار الى انه خلال تلك الفترة، وبناء على ابحاث قامت بها المنظمة الدولية في كل من تركيا وقزاقستان وقرغيزستان، فإن السلطات الصينية احتجزت عشرات الآلاف في سينكيانج للتحقيق معهم، وان مئات بل ربما الافا وجهت اليهم الاتهامات، أو صدرت ضدهم احكام بالسجن بموجب القانون الجنائي، واضاف التقرير ان عددا كبيرا من المسلمين (الذين يعرفون عرقيا باسم الاويغور) صدرت ضدهم احكام بالاعدام بدعوى قيامهم بنشاطات انفصالية مزعومة وقد تعذر تحديد اعدادهم نظرا للتعتيم الشديد المفروض على تلك المحاكمات.

    تقرير من هذا القبيل لم يحدث اي صدى حتى في وسائل الاعلام، في حين كان المسؤولون الدوليون يركضون نحو دارفور، في المقدمة منهم الامين العام للامم المتحدة كوفي انان، ووزيرا خارجيتي الولايات المتحدة والمانيا، كما كانت المشاورات مستمرة لإرسال قوات دولية الى هناك، ولتوقيع عقوبات على حكومة الخرطوم من جراء اتهامها بالتقصير في معالجة الموضوع.
    مأساة مسلمي سينكيانج تعد امرا بسيطا اذا قورنت بالحاصل في فلسطين أو في بلاد الشيشان، وقد ذكرت ما حصل مع «الاويغور» لأن التقرير نشر وسط حملة الاستنفار العالمي من اجل دارفور، في تلك الاجواء ايضا واصلت اسرائيل افتراسها للفلسطينيين، من خلال الاجتياحات والاغتيالات وعمليات التدمير ونهب الاراضي، التي شملت قطاع غزة ونابلس وغيرها من مدن الضفة الغربية، وقبل ذلك تابع العالم التقارير البشعة التي نشرت عن ممارسات الجنود الروس في شيشينيا وجارتها انجوشيا.

    هذه الممارسات قوبلت بالصمت المشهود أو بتحركات سياسية اتجهت صوب مناصرة القتلة وليس الضحايا (كما في الحالة الفلسطينية)، وظلت دارفور مستأثرة بالاهتمام الدولي والاقليمي، الامر الذي يؤكد الشك في براءة ذلك الاهتمام، ويوحي بأن في دوافعه اشياء اخرى غير الاعتبارات الانسانية.
    يعزز ذلك الشك أمران، احدهما يتعلق بطبيعة المشكلة في دارفور، والثاني ينصب على هوية القوى التي عملت على اثارة الضجيج من حول تلك المشكلة.
    ذلك ان منطقة دارفور ذات الولايات الثلاث التي تشكل موطنا لـ 85 قبيلة، اكبرها واقواها نفوذا قبيلة «زاغاوه» التي تضم خليطا من العرب والزنوج، كلهم مسلمون، ويعملون بين الزراعة والرعي، وبين تلك القبائل تراث من النزاعات التاريخية حول الموارد الطبيعية. وبسبب الحروب الاقليمية، خصوصا الحرب التشادية الليبية، انتشر السلاح بين افراد القبائل، خصوصا ان قبيلة «زغاوه» تتمدد في منطقة الحدود ولها وجود في داخل تشاد، علما بأن الرئيس التشادي الحالي ادريس ديبي ينتمي الى ذات القبيلة.

    النزاع التقليدي حول موارد المياه ومناطق الرعي كانت له تجلياته السلبية في علاقة العرب ـ اكثرهم رعاة ـ مع الزنوج، الأمر الذي احدث مرارات تراكمت بمضي الوقت، وقد غذاها التخلف وانتشار الجهل، وأججها وجود السلاح في ايدي كثيرين، خصوصا ان هناك أطرافاً كان يهمها في السابق اثارة الاضطرابات في المنطقة لإرباك حكومة الخرطوم والضغط عليها (الحركة الانفصالية في الجنوب خاصة)، هذه العوامل في مجموعها هيأت الفرصة لظهور جماعات مسلحة مارست النهب والعدوان على قطعان الماشية التي تشكل الثروة الاهم في دارفور ولم يخل الامر من تصفية حسابات بين القبائل، ادت في احدى المرات الى قتل احد زعماء القبائل العربية في الطرف الشمالي لجبل «مرة» وهو ما استتبع سعيا من اهل القبيلة للاخذ بثأر شيخهم القتيل، والفعل كان له رد فعل وسع من نطاق الاشتباكات، وحين وجد العرب الذين يشكلون اقلية في الولاية انهم في الموقف الاضعف، شكلوا مجموعات مسلحة للدفاع عن انفسهم عرفت باسم «الجنجويد»، ويبدو ان حاكم الاقليم العربي الممثل لحكومة الخرطوم وجد ان الموقف خارج عن السيطرة، فدعم مجموعة «الجنجويد» وامدها بالسلاح، الامر الذي وسع من نطاق المواجهة، خصوصا ان مجموعات الزنوج المسلحة اعتبرت حكومة الخرطوم منحازة «للجنجويد»، ومن ثم اعتبروا ان صراعهم اصبح موجها ضدها، وهو ما عد تصعيدا ليس فقط للصراع المسلح، ولكن ايضا للمواجهة السياسية حيث تحول الصراع حول الموارد الطبيعية الى مطالب اقليمية اتهمت حكومة الخرطوم بالانحياز للعرب، وتعمد تهميش وافقار اقليم دارفور علما بأن موضوع التهميش ينسحب على السودان كله.

    هكذا فبينما كان الصراع المسلح مستمرا على الارض، مع ما استصحبه من عمليات قتل ونهب ونزوح، فان قوى خارجية ذات مصلحة لعبت دورها في تصعيد المواجهة المسلحة، وعملت على تدويل المشكلة.

    في التعريف بتلك القوى اقتبس هنا فقرات من مقال نشرته صحيفة «الرأي العام» السودانية في 14/7 للكاتب والأكاديمي الدكتور الطيب زين العابدين، وتحدث فيه عن اجتماع دعت اليه في واشنطن منظمة اليهود الاميركية العالمية لتنظيم حملة للتبرع لاهل دارفور ومناصرتهم، وبادر المركز اليهودي للاصلاحات الدينية الى تنظيم مظاهرة احتجاجية صاخبة امام السفارة السودانية في العاصمة الاميركية، وشارك في الحملة المخططة بعض الاسماء اللامعة التي تجذب الانتباه مثل القيادي اليهودي ايلاي ويزيل الحاصل على جائزة نوبل للسلام بحجة انه يريد تسليط الضوء على العنف في السودان تحت شعار «انا لا يمكن ان اكون منعزلا» وشاركته في الحملة والرأي روث ميسنجر رئيسة منظمة اليهود الاميركية التي صرحت بأنها تستطيع عن طريق هذه الحملة جمع اموال طائلة لاكثر من غرض (سيكون معظمها اغراضا يهودية صهيونية) خاصة وان مشكلة السودان اصبحت شأناً عالمياً، واعتذرت بأن الحملة قد تأخرت لاننا لم نفهم مشكلة غرب السودان الا اخيرا! وساهمت مجموعة يهود منطقة واشنطن بتنظيم ورشة عمل دينية لتتخذ مواقف احتجاجية ضد العنف المستشري في غرب السودان، وعلق الحاخام ديفيد سابرستين على احداث دارفور بقوله: عندما ترتكب اعمال ابادة عرقية ينبغي على اليهود ان يكونوا في مقدمة المحتجين لاننا سبق ان كنا ضحايا وشهودا لمثل تلك الاعمال، وقام جيري فاولر مدير لجنة الضمير اليهودي بزيارة معسكرات اللاجئين السودانيين في تشاد ثم كتب بعدها لجريدة «واشنطن بوست» يقول: لقد صدرت اشارات وتحذيرات مهمة قبيل محرقة راوندا ولكنها لم تحرك ساكنا، وها نحن نقول لا مرة اخرى. فهل سيتم تجاهل هذه التحذيرات المبكرة وافارقة دارفور يبادون! ولم يفسر مدير لجنة الضمير اليهودي لماذا لم يتحرك اللوبي الصهيوني في تلك المحرقة الافريقية التي ذهب ضحيتها 800 الف قتيل على مدى سنتين! واوقف متحف المحرقة اليهودي نشاطه اليومي لمدة نصف ساعة ليلفت الانظار الى احداث دارفور، وقامت مجموعة ائتلاف اليهودية (تضم 45 مجموعة) بانشاء مكتب خاص مهمته جمع التبرعات لدعم احتياجات اللاجئين السودانيين في تشاد بسبب العنف المنظم ضدهم والذي تشنه مجموعات عربية مسلمة مدعومة من قبل الحكومة.

    علق الدكتور الطيب زين العابدين على هذه الحملة قائلا: هل يعقل ان اللوبي الصهيوني فجأة ادرك ما يعانيه الزغاوة والفور والمساليت في غرب السودان ومن ثم هب لنجدتهم؟ أم أن وراء الأكمة ما وراءها!.

    لا نستبعد ان يكون صرف الانتباه عن الفظائع الاسرائيلية من بين اهداف الحملة، ومحاولة تقديم «اللوبي» الصهيوني في اميركا باعتباره نصيرا للمضطهدين والمستضعفين (غير الفلسطينيين بطبيعة الحال) ـ لكننا نرى في الافق اشارات اخرى، تصب في مجرى تفكيك السودان، الذي بدأ بجنوبه، ثم انعطف الى غربه (في دارفور) والكلام متوافر عن اضطرابات تتحرك الآن في شرق السودان، وهذا التفكيك اذا قدر له ان يتم فانه يحقق ثلاثة اهداف عند الحد الادنى هي: اغلاق بوابة العرب المطلقة على افريقيا ـ حرمان العرب من سلة الغذاء الواعدة هناك ـ اضعاف مصر اكبر دولة عربية ـ والتحكم في مياه النيل التي تمثل شريان الحياة بالنسبة لها.

    إن السؤال الكبير الذي يطرح نفسه في مواجهة هذا المشهد هو: اين العالم العربي الذي يتعرض احد اقطاره للتمزق ويهدده الاندثار؟ واين مصر الشقيق العربي الاكبر الذي تستهدفه السهام في نهاية المطاف؟



    خطاب عمدة لندن
     
    جاء كاشفا وفاضحا !

    2005--0-09

    مقالة عمدة لندن في صحيفة «الجارديان» البريطانية حول شارون والسياسة الاسرائيلية، اتسمت بدرجة عالية من النزاهة والاستقامة الفكرية، وفضحت في الوقت ذاته تشوهات بعض النخب العربية واستخذاءها. فالرجل ـ كين ليفنجستون ـ اختار في مقالته التي نشرت يوم 4 مارس الحالي أن يتصدى بشجاعة، وأن يسلط ضوءا على وحشية المشروع الصهيوني والسياسة الاسرائيلية، وان يكشف الوجه الحقيقي لرئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون، باعتباره «مجرم حرب» من الدرجة «الممتازة»!

    قال ليفنجستون في مقالته المثيرة، إن إنشاء اسرائيل وتوسيع رقعتها، قاما على التطهير العرقي ضد الشعب الفلسطيني، وعلى الارهاب، وعلى إخراج آلاف من أهل فلسطين من أراضيهم بالقوة، بعد أن عاشوا فوقها لقرون متطاولة، وأن ما قامت به عصابات مثل أرجون وشتيرن (قبيل إنشاء اسرائيل)، وما قامت به الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة، هو من قبيل ما قام به القائد الصربي (كاراديتش) ليخرج البوسنويين من أراضيهم بالقوة والإرهاب. وهذه السياسات نفسها تمارسها الحكومة الاسرائيلية الحالية التي لا تزال تصادر الأراضي المملوكة للفلسطينيين لتقيم فوقها مستعمرات الاسرائيليين، وترفض عودة اللاجئين الذين شردوا بالقوة إلى ديارهم، وتعتدي عسكريا من وقت لآخر على جيرانها العرب. أضاف عمدة لندن ان ارييل شارون مجرم حرب، يجب أن يكون مودعا السجن، ليمضي عقوبته من جراء ما اقترفته يداه، لا أن يكون جالسا على مكتب رئيس الوزراء. وهو من سبق أن أدانته لجنة كاهان الاسرائيلية، وحملته المسؤولية المباشرة عن مذابح صبرا وشاتيلا، ولا يزال يمارس الارهاب المنظم ضد الفلسطينيين، الذين قتل منهم ثلاثة أضعاف. أو أكثر ـ من الذين قتلوا من الاسرائيليين في الصراع القائم بين الطرفين الآن. كما أن السجون الاسرائيلية يقبع فيها الآن أكثر من سبعة آلاف سجين فلسطيني ـ أضاف الرجل ـ وتستمر الحكومة الاسرائيلية في إشاعة صور مشوهة تشويها كاملا عن التمييز العنصري والديني في أوروبا، لتقنع الرأي العام بأن هذا التمييز يصل إلى أخطر صورة ضد اليهود. وتلك مغالطة كبيرة، لأن الذين يتعرضون له أساساً في أوروبا اليوم هم السود والآسيويون والمسلمون، لكن الحكومة الاسرائيلية منذ عشرين سنة، تحاول أن ترسم لكل من ينتقد سياسات اسرائيل، صورة المعادي للسامية، والحقيقة على خلاف ذلك، إذ ان المعايير الانسانية التي طبقت لإدانة تعرض اليهود للاضطهاد النازي، يجب أن تطبق على السياسات المستمرة للحكومات الاسرائيلية المتتابعة، لأن سياسات التطهير العرقي والتمييز العنصري سياسات لا أخلاقية، تثير البغضاء وتسبب العنف في العالم كله، والسكوت على هذه السياسات ليس مجرد خطأ، لكنه تجاهل للتهديد الذي تسببه هذه السياسات (العنصرية) لمواطني لندن.

    لم يكن كلام عمدة لندن قويا ومثيرا للانتباه فحسب، وانما كان نشر صحيفة «الجارديان» له ملفتاً ومدهشاً أيضاً، وهي لم تكتف بنشر المقالة، وإنما علقت عليها بمقال افتتاحي، أخذ مكانه على الصفحة الأولى. وذهبت إلى حد إ

    فساح المجال لنشر التعليقات المختلفة على كلامه.

    وفي حدود متابعتي لتلك الأصداء. فإن الصحيفة نشرت في اليوم التالي مباشرة تعليقات لثلاثة من اليهود، أيدوا فيها كلام ليفنجستون، وعبروا عن احترامهم وتقديرهم لأمانته وشجاعته. احداهم فتاة ـ في الأغلب ـ اسمها ديبورا ماكوبي ـ عضو مجموعة يهودية بريطانية مكرسة للدفاع عن العدل للفلسطينيين والسلام العادل، قالت ان المظالم التي توقعها اسرائيل بالفلسطينيين في ظل عملية السلام الوهمية تكرس الاحتلال والتوسع، كما أن سياستها على الأرض تستهدف تمزيق الأراضي الفلسطينية ووضع سكانها في معازل يمكن السيطرة عليها في أي وقت. ومن شأن استمرار تلك السياسات أن تهدد السلام العالمي، لأنها تشيع قدرا كبيرا من الغضب والعنف لا تؤمن عواقبه.

    حين يقرأ المرء هذا الكلام، فإنه يدهش مرتين، مرة لأنه صادر عن مواطنين انجليز، أحدهم شخصية عامة لها ثقلها ووزنها، على صفحات صحيفة محترمة مثل «الجارديان» لها تأثيرها الذي لا ينكر على الرأي العام البريطاني، ومرة ثانية حين يقارن ما قرأ بما يحدث في العالم العربي، خصوصا بعض ما يصدر عن سياسيين ومثقفين. ذلك أن هذا الكلام الذي نشرته «الجارديان» جاء في ظرف تنهال فيه رسائل الغزل على ارييل شارون، التي تقدمه بحسبانه «رجل سلام» معقودا عليه الأمل في إرساء السلام في المنطقة. وهذه الأوصاف كان قد أطلقها عليه الرئيس بوش يوما ما، الذي لا أستبعد ألا يكون على علم بسجل شارون الأسود ووجهه الملطخ بدماء العرب، ولكن بعض القادة العرب أصبحوا يستخدمون الوصف ذاته للرجل، في حين أنهم يعلمون جيدا خلفياته و«سوابقه»، التي حين تخفف كثيرا فإنها تدمغه بوصفه «مجرم حرب»، وهو الوصف الذي امتلك عمدة لندن شجاعة استخدامه في مقالة الجارديان.

    شارون يستقبل الآن مسؤولين عربا كبارا في تل أبيب، ويرحب به شريكا في مؤتمر شرم الشيخ، ويدعي ضيفا رسميا على تونس لحضور مؤتمر دولي يعقد هناك، أما مبعوثوه فهم يتحركون علنا وسرا في أغلب الأقطار العربية. ليس ذلك فحسب، وإنما نقرأ في بعض الصحف العربية كتابات تحمل صورة الرجل، وتحاول أن تخفي القبح في سجله وتمسح آثار الدماء العربية التي تلطخت بها يداه. من بين تلك الكتابات ما نشرته «الشرق الأوسط» (في 27/2) لأحد كبار الكتاب عن ذكرياته مع شارون، الذي وصفه بأنه «كان رقيقاً لطيفاً»، وكيف أنه تناول معه العشاء تحت ضوء القمر في حديقة الحيوانات ببلده، وسط الزرافات والفيلة. واسترسل الكاتب في وصف وجبة أخرى تناولها مع شارون، ونقل الحكايات التي رواها على العشاء أثناء ذلك اللقاء الحميم، ومنها أنه اتصل هاتفيا مع أمه التي انزعجت من وجوده في مصر، وكيف أنه هدأ من روعها وأبلغها على الهاتف أنه لم يعد هناك مبرر للانزعاج، «فقد تصالحنا، وصرنا في حالة سلام».. إلخ.

    لقد وضعت الصورة التي رسمها الكاتب الكبير لشارون، إلى جانب ما عبرت عنه المواطنة البريطانية العادية ديبورا ماكوبي في رسالتها التي نشرتها لها الجارديان في 5/3 (لا مجال للمقارنة مع ما قاله عمدة لندن) ـ فأذهلني الفارق بين الزيف الذي جرى تسويقه في الصورة الأولى، والحقيقة التي سجلتها رسالة المواطنة البريطانية. وأدركت إلى أي مدى يمكن أن يكون المواطن العادي أكثر براءة وصفاء ـ ومن ثم استقامة ـ من المثقف الكبير، الذي تعقدت حساباته وتعددت مصالحه، حتى غلب الهوى على الحقيقة.

    استلفتت انتباهي مفارقة أخرى، وهي أنه في اليوم الذي ظهرت فيه مقالة عمدة لندن في صحيفة «الجارديان» (4/3) مسلطة ضوءا قويا على الجرائم الاسرائيلية وسجل شارون الوحشي، نشرت «الشرق الأوسط» على صفحتها الأولى خبرا يقول ان الأمين العام للأمم المتحدة، كوفي أنان، تسلم مذكرة باسم «البيان الدولي للإرهاب» أعدها ثلاثة من العرب، وجمعوا عليها أربعة آلاف توقيع، ودعت المذكرة مجلس الأمن والأمم المتحدة إلى إقامة محكمة دولية لمن وصفهم معدو المذكرة بأنهم «فقهاء سفك الدماء» من علماء المسلمين، الذين ادعت المذكرة أنهم يصدرون فتاوى الارهاب والقتل بحق المدنيين. وحسب «الشرق الأوسط» فإن المذكرة خصت بالذكر الشيخ يوسف القرضاوي رئيس اتحاد علماء المسلمين، والاستاذ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية.

    لم تكن المفارقة في التزامن بين الحدثين، وتناقض وجهتيهما، وانما كانت أيضا في أن الشيخ القرضاوي الذي سعى أولئك النفر من المثقفين العرب إلى تشويه صورته واغتياله أدبيا، كان ضيفا على عمدة لندن قبل أشهر معدودة، وامتدحه العمدة البريطاني ودافع عنه أمام الضغوط الصهيونية التي أرادت منع دخوله إلى بريطانيا، بسبب ذات التهمة التي رماه بها البيان البائس (هل هو مجرد توارد خواطر؟!).

    في الوقت ذاته فإن الأستاذ الغنوشي الذي طالب البيان بمحاكمته باعتباره من فقهاء الدماء ودعاة الارهاب، يعيش لاجئا في لندن منذ سنوات، وهو تحت أعين أجهزة الأمن البريطانية طول الوقت، التي تتعامل معه باحترام شديد. ولو كانت له ذرة علاقة بالإرهاب أو سفك الدماء، لكان الآن مع أبو قتادة وأبو حمزة وغيرهما من الذين تم إيقافهم بتهمة التشجيع على الارهاب والترويج له. لا يحتاج أي منهما إلى دفاع من أحد. فسجل كل واحد مبسوط أمام الكافة، وهو مشرف لهما في الدنيا والآخرة. لكن غاية ما يمكن أن يقال عن البيان انه دسيسة نسجها نفر من المثقفين، الذين كان نشر بعض أسمائهم فاضحا لهم، لأننا لم نعرف عنهم مما نقرأ لهم إلا موالاة اسرائيل وأميركا، أو عداء وبغضا للاسلام والمسلمين. ولو أن الأسماء لم تنشر لأخذنا المسألة على محمل الجد، وظننا أن «تحت القبة شيخ»، كما يقال، ولكن النشر أراحنا من عناء التفكير في الأمر، كما شاء ربك أن نطالع مقالة عمدة لندن في اليوم ذاته، الذي ضاعف من الفضيحة، من حيث أنه قام بتعرية الجميع، وكشف لكل ذي عينين أين يقف أصحاب الضمائر الحية، وأين تنصب مساعي الفتنة والدس التي لم تتمن خيرا لهذه الأمة يوما ما.

    انهم يمكرون حقا، ولكن ربك له تدابيره التي تطل من حيث لا نحتسب، أليس الله خير الماكرين؟!


    إطلالة على إيران
    2005-02-01

    * الخيارات السياسية في ايران اليوم مصيرية - وهو ما ستحسمه انتخابات الرئاسة التي ستحل بعد أربعة أشهر،  وهو ما يطبخ هذه الأيام على نار هادئة في طهران.
    * إن الشيخ كروبي مقتنع بأن رياح ما يسمى بالمحافظين هي الأقوى، وهذا موسمها. ولذلك فإن حظوظه في الفوز في الانتخابات الرئاسية ضعيفة إلى حد كبير. وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا رشح نفسه إذن- ان ترشيح الشيخ كروبي أريد به إضفاء الحيوية على المعركة الإنتخابية، وإقناع الجماهير بأن كل الأطراف مشاركة فيها. وهو ما قد يرفع من درجة حماسهم للإقبال على التصويت.
     
    *أثار انتباهي في المشهد الداخلي الإيراني أمران، أولهما أن حكومة الرئيس خاتمي بعدما حوصرت سياسياً، تركز في الوقت الراهن على التنمية الاقتصادية. إذ بعد أن قطعت شوطاً لا بأس به في هذا المجال، فإنها بدأت تتطلع إلى الأسواق الخارجية لتصدير منتجاتها واستثمار خبراتها. وهو ما حدث مثلاً في قطاع الكهرباء، الذي حققت فيه اكتفاء ذاتياً من خلال العقود المشروطة، التي كانت تلزم الطرف الأجنبي بنقل الخبرة إلى الفنيين الإيرانيين. فقد بدأ الإيرانيون ينفذون مشروعات كهربائية في ارمينيا وسوريا، وما حدث في ذلك القطاع تكرر في مجالي صناعة الاسمنت والبتروكيماويات. ونظراً لحاجة الصين والهند إلى مصادر الطاقة لتغطية احتياجات الطفرة الصناعية الكبيرة في البلدين، فقد وقعت الصين مع إيران عقداً بقيمة مائة مليار دولار مدته 20 سنة، وهناك اتفاق لتصدير الغاز السائل إلى الهند بقيمة 3 مليارات يجري التفاوض حوله الآن. بل إن الجولة التي قام بها السيد خاتمي الى عدد من الدول الافريقية في شهر يناير الماضي، كان هدفها اقتصادياً بالدرجة الأولى، حيث اصطحب معه عدداً كبيراً من رجال الاقتصاد والصناعة لإبرام عقود تصدير المنتجات الإيرانية.

    *الأمر الثاني أن ما يسمى ب "الاصلاحيين" ينسحبون تدريجياً من الحياة السياسية. فالمتداول في الأوساط السياسية مثلاً، أن السيد محمد خاتمي سيتفرغ بعد أن تنتهي ولايته في منتصف يونيو القادم لإدارة مركز «حوار الحضارات» الذي أنشأه في طهران لتبني الدعوة التي كان قد أطلقها من على منبر الأمم المتحدة ذات يوم، وتحمس لها كوفي أنان، حتى قيل أنه متفاهم معه على أن يتفرغ لها الرئيس الإيراني بعد تركه منصبه.

    *من ناحية أخرى فإن الدكتور عطاء الله مهاجراني وزير الثقافة السابق وأحد المقربين من خاتمي، الذي كان قد استقال من منصبه بضغط من المحافظين وعين رئيساً لمركز حوار الحضارات، ترك موقعه في طهران ورحل إلى لندن للتدريس في إحدى جامعاتها. أما أقرب مساعدي خاتمي، السيد محمد على ابطحي، فقد استقال بدوره وغادر الحلبة السياسية، ولزم داره متفرغاً لموقع على الإنترنت أنشأه لنفسه، ومن خلاله يتواصل مع الجميع. عبد الله نوري وزير الداخلية الأسبق اعتزل بدوره وغاب عن الساحة السياسية. وهو ما ينسحب على آخرين من الوزراء الذين عملوا مع الرئيس خاتمي بعد انتخابه في عام 1997-

    حين استمعت إلى آراء نفر من القريبين من «المطبخ» السياسي الإيراني، وجدت أنهم يضغطون على النقاط التالية:

    * إن القائد كان يتمنى أن يكون رئيس الجمهورية من رجاله ، بحيث تكون المرحلة القادمة هي «جمهوريته»، خصوصاً أن رئيس مجلس الشورى الدكتور حداد عادل من ذلك الطراز. غير ان هناك من يقول بأن التقارير التي تجمعت لدى القائد أشارت إلى أن الشخصيات المرشحة التي كان يفضل التعامل معها، مثل الدكتور ولايتي أو علي لاريجاني ليست موضع إجماع شعبي يوفر لها فرصة كافية في الفوز. ولأن التقارير التي وصلت اليه أشارت إلى شيوع ظاهرة الإنسحاب من الحياة السياسية في الشارع الإيراني، فقد يدفعه ذلك إلى التخلي عن تغيير موقفه.

    * في هذه الأجواء يطرح اسم حجة الإسلام هاشمي رفسنجاني (رئيس مجلس تشخيص المصلحة)، باعتباره الشخصية القوية التي لا يستطيع المحافظون بشقيهم الاعتراض عليها، وإن لم يتحمسوا لها. ثم إنها تلقى قبولاً في قطاع عريض من الإصلاحيين، وفي الشارع الإيراني أيضاً. إذ المعروف عنه أنه من دهاة أهل السياسة الذين لهم قدم في كل معسكر. فضلاً عن أنه بقيادته لتجمع «كوادر البناء»، وضع أسس النهضة الاقتصادية الكبيرة التي تشهدها إيران الآن.

    *هناك الآن سبعة مرشحين أعلنوا أنفسهم بالفعل، ليس بينهم الشيخ رفسنجاني الذي يرى العارفون بأنه يمكن أن يقدم على هذه الخطوة في الساعة الأخيرة التي تسبق إغلاق باب الترشيح، فضلاً عن أن قراره مرتبط «بتفاهمه» مع القائد. لكن الحقيقة التي لا يجادل فيها أحد أن ما يقال عن الانتخابات الرئاسية هو مجرد ترجيحات وتكهنات، أو حتى تمنيات، من جانب المحللين وأوساط النميمة السياسية. أما رأي الناس، فلن يعرف إلا بعد الانتهاء من فرز الأصوات، التي قد تأتي بمفاجآت لا تخطر على البال، تماماً كما حدث في عام 1997.

    2005-02-01

    لا يغرنك الثلج الذي يغطي إيران هذه الأيام، فتحت ملاءته البيضاء ركام من التفاعلات التي تتراوح بين الصخب والسخونة والدفء والحيوية. أما الدفء والحبور فراجعان إلى الحاصل خارج الحدود، خصوصا في العراق.
     
    هذا الانطباع فاجأني شخصيا. اذ حين ذهبت إلى طهران كانت أخبار الاستعدادات الأمريكية للقيام بعمل عسكري ضد إيران قد أحتلت مكانها في صدارة الصحف العالمية، خصوصا بعدما نشرت مجلة "نيويوركر" في 16/-1 -2005 الماضي تقرير محررها "سيمون هيرش" عن عمليات تجسس امريكية استمرت طيلة الصيف الماضي، لمراقبة الأنشطة النووية في أكثر من 30 موقعا، تحسبا وتمهيدا للعمليات العسكرية المحتملة. ليس ذلك فحسب وإنما كان معي تقرير مجلة "إتلانتيك" الذي نشرته في وقت سابق، في الأسبوع الأول من شهر ديسمبر الماضي (2004) وعرضت فيه بتفصيل مثير سيناريو الغزو كما نوقش في جلسة " محاكاة " لمجلس الأمن القومي الأمريكي. وحضره عدد من الجنرالات المخضرمين والمسئولين رفيعي المستوى كممثلين لمختلف الجهات المعنية بقرار الحرب .
     
    كان تقرير هيرش في "نيويوركر" عن ترتيبات استطلاعية تمت. أما تقرير "اتلانتيك " فقد فصل فيما ينبغي أن يتم. فقد تحدث عن "سيناريو" يستهدف ضرب إيران على ثلاث مراحل. في الأولى يتم قصف معسكرات الحرس الثوري، الذي قالت الاستخبارات أنها تعرف مواقعهم، وتعتقد أن القضاء عليهم لن يستغرق سوى يوم واحد. المرحلة الثانية تحدثت عن ضرب المفاعلات النووية التي تشمل 300 موقع منها 125 موقعا ادعوا أن لها صلة بالأسلحة النووية والكيماوية والجرثومية . أما المرحلة الثالثة ، فتتمثل في إرسال قوات من منطقة الخليج والعراق واذربيحان وجورجيا وافغانستان، لتحويل انظار الايرانيين وتطويقهم، ثم الزحف نحو العاصمة طهران ، التي قدروا أنه يستغرق أسبوعين . ولا تتضمن الخطة دخول طهران، غير انها تتحدث عن تعيين حكومة " صديقة " على غرار ماجرى في افغانستان والعراق .
    حذر السيناريو من أن ايران اذا ما استشعرت الخطر، فإنها قد تستبق خطة غزوها بضرب القوات الأمريكية في الخليج، وفتح جبهة شيعية داخل العراق ضد القوات الأمريكية هناك. ومما يلفت الانتباه في وقائع الاجتماع أن مناقشة جرت حول قيام اسرائيل بضرب المفاعلات الايرانية (في تكرار لما حدث مع العراق قبل 20 عاما). ولكن مندوب وزراة الخارجية ذكر أن اسرائيل تضغط بشدة لتدمير المفاعلات الايرانية، لكنها تفضل أن يقوم الأمريكيون بهذه المهمة. لكن أهم ما في الاجتماع  حسبما ذكرت «اتلانتيك» أن المشاركين فيه انتهوا، بعد تقليب مختلف وجهات النظر، الى توجيه توصية إل الرئيس بوش بعدم غزو إيران في ظل الاوضاع الراهنة.
    استوقفني في اسماء المشاركين بجلسة المحاكاة أن الذي مثل مستشار بوش للأمن القومي هو الكولونيل المتقاعد سام جاردنر، الذي وضع قبل عشرين عاما سيناريو لغزو العراق، استفاد منه الجنرال تومي فرانكس، قائد القوات التي غزت العراق مؤخرا. كما مثل مدير المخابرات المركزية ديفيد كاي مدير فريق الأمم المتحدة للبحث عن اسلحة العراق النووية. أما الذي مثل وزير الخارجية فقد كان كينيث بولاك خبير الشئون الايرانية بمعهد "بروكنجز" في واشنطن، الذي اصدر مؤخرا كتابا بعنوان "الأحجية الفارسية"، كانت الفكرة الاساسية فيه هي أن ساعة الصفر لتغيير النظام الايراني تقترب باطراد.
    ----

    هذه المعلومات التي قد يكون لدى السلطات الايرانية اكثر منها، وحدها كافية لاشاعة قدر كاف في التوتر والقلق في طهران وحين تحريت الأمر ، وتحدثت مع بعض وثيقي الصلة بدوائر تلقي تلك الاشارات، قيل لي إن طهران استقبلت هذا الكلام »باهتمام« لكنها لا تستشعر إزاءه توترا أو قلقا. ادهشتني الاجابة فأوضحوا الأمر على النحو التالي:

    - أن طهران لا تستبعد محاولات التجسس والاستطلاع التي اشار اليها تقرير مجلة "نيويوركر". وترجح أن تكون تلك المحاولات قد تمت من خلال وفود رجال الاعمال التي تتردد على ايران، أو من خلال بعض الايرانيين من عناصر منظمة مجاهدي خلق.
     
    - أن طهران على علم بأمرين : اولهما ان اسرائيل تلح منذ سنوات في ضرب المفاعلات النووية الايرانية، متصورة أن ايران اصبحت التحدي الأكبر الذي يواجهها، بعد تدمير العراق وتكبيل النشاط النووي في باكستان. الأمر الثاني أن ثمة تيارا قويا بين المحافظين الجدد النافذين في الادارة الامريكية يؤيدون ذلك الاتجاه، ويرونه خطوة ضرورية لبسط الهيمنة الامريكية في المنطقة فضلا عن اهميته لما يسمى بأمن إسرائيل.

    - ان بعض عناصر المعارضة الايرانية التي تقيم بالولايات المتحدة الامريكية والمدعومة من ابن الشاه السابق، تحاول القيام بالدور ذاته الذي ادته المعارضة العراقية التي اسهمت في تحريض واشنطن على غزو العراق، وقدمت لها المعلومات التي تساعدها على ذلك، وكانت قوام الحكومة «الصديقة» التي نصبت في بغداد.

    - ان طهران مقتنعة بأن الحكومة الأمريكية لن تقدم على عمل عسكرى ضد ايران طالما لم تستقر الاوضاع لها في العراق على الاقل. وإلى أن يتحقق لها ذلك فإن واشنطن ستواصل عمليات لي الذراع والترهيب والتخويف ، فضلا عن الضغوط السياسية التي تستخدم ورقة "الملف النووي"، وذلك هو الحاصل الآن.

    - في كل الأحوال فإن طهران مدركة أن الولايات المتحدة ستظل حريصة على "تسكين" الوضع في ايران، طالما كانت لها قوات أو مصالح في العراق. وهو حرص متبادل، لان القيادة الايرانية حريصة بدورها على "طمأنة" الأمريكيين الذين اصبحوا "جيراننا" في العراق ولو بشكل مؤقت، حيث لا مصلحة لاي من الطرفين في استفزاز الآخر، حتى ينجلي الأمر، ويحدد الشعب العراقي اختياره النهائي.
    ---

    هذه النقطة الأخيرة كانت خيطا حاولت من خلاله تتبع حقيقة الموقف الايراني من الحاصل في العراق، خصوصا أن ثمة اجنحة في بغداد ما برحت تنتقد التدخل الايراني، بالتصريح حينا والتلميح في احيان كثيرة.

    حين ناقشت أحد الباحثين الاستراتيجيين في الموضوع، قال ان ايران رغم ثأرها وخصومتها للرئيس صدام حسين، فانها كانت تتمنى اضعافه فقط وليس اسقاط نظامه. لان الاضعاف كان من شأنه ان يقلل من ميوله العدوانية ضد طهران، وأن يحقق للشيعة ما يريدون منه. ومن الاسرار التي لم تعرف في ذلك الصدد ان ايران لم تكن مؤيدة لانتفاضة شيعة الجنوب ضد الرئيس صدام حسين، التي اعقبت هزيمته وانسحابه من الكويت في عام 1991 وانما كانت نصيحة الشيخ هاشمي رفسنجاني، اهم لاعب في الساحة السياسية الايرانية، ان يتفاهم معه الشيعة العراقيون في ضعفه آنذاك، لا ان يثوروا عليه. ولكنهم استجابوا للتشجيع والتحريض الامريكيين وقاموا بانتفاضتهم، وتخلى عنهم الامريكيون فاستأسد عليهم صدام حسين وسحقهم.

    من ناحية اخرى اضاف محدثي فمن وجهة نظر المصلحة الايرانية البحتة، فان النظام العراقي السابق كان يمثل ساتراً أو حاجزاً بين ايران واسرائيل، التي اعتبرت بغداد وطهران خصمين لدودين وعدوين خطرين، وان اختلفت الاسباب بالنسبة لكل منهما. لكن الموقف تغير بصورة جذرية بعد سقوط نظام صدام حسين، حيث انكشفت الجبهة الايرانية، واصبحت هدفاً مباشراً لاسرائيل، التي تقف وراء كل الضجيج المثار حول الملف النووي، والادعاء بان ايران ستملك قنبلة نووية خلال سنتين او ثلاث. وهذا الموقف المستجد افرز وضعاً استراتيجياً مغايراً، كان من الضروري ان تتحسب له ايران.

    سألت عن الحقيقة في التدخل الايراني في العراق فقيل لي بصورة مباشرة او غير مباشرة ما يلي:

    - ان ثمة واقعاً تاريخياً ومذهبياً وسكانياً فرض تداخلاً بين الشعبين لا يمكن تجاهله. ولسبب ذلك الواقع الناشئ عن الجوار الجغرافي، وظروف الحكم العثماني، وأخيراً ضغوط النظام البعثي السابق. فان بعض العوائل لها ابناء يعيشون على الجانبين ويتوزعون على جنسيتي البلدين. كما ان هناك مسئولين ايرانيين ولدوا وعاشوا في العراق (منهم رئيس السلطة القضائية آية الله هاشمي شاهر وردي) وهناك مسئولون عراقيون لهم اصولهم الايرانية (آل الحكيم الذين اسسوا المجلس الاعلى للثورة الاسلامية بالعراق، ويمثلهم السيد عبد العزيز الحكيم الان، ينحدرون من اسرة جاءت الى العراق من اصفهان).

    - ان العراق يعد من الناحية الاستراتيجية اهم جار لايران (الحدود بين البلدين بطول 630 كيلو متراً). بالتالي فان طهران لا يمكن ان تغمض اعينها عما يجري في داخله، خصوصاً في وجود القوات الامريكية، التي هي ليست «صديقة» بأي معيار، فضلاً عن ان الكل يعلم ان واشنطن لا تضمر ولا تتمنى خيراً لايران. ولذلك فمن الطبيعي ان تتصرف طهران في ظل هذه الظروف بما يؤمن نظامها ويحمي مصالحها. وهو الموقف الذي تلتزم به كل دولة ازاء أي خطر محتمل يقف بباها ووراء حدودها.


    - ان ايران يسرها ان يأخذ شيعة العراق وضعهم الطبيعي في ادارة البلاد. لكن اكثر ما يهمها الا تقوم في العراق حكومة معادية لها. ولن تطمئن ولن يستريح لها بال الا اذا جاءت في بغداد حكومة «صديقة». ولاجل ذلك فطهران حريصة على ان تحتفظ، من خلال مؤسساتها واجهزتها المختلفة، بخطوط مفتوحة مع كل الاطراف. مع الحكومة الحالية ومع السيستاني وجماعته، بل ومع مقتدى الصدر وتياره (قيل لي ان الامريكيين حين هموا باقتحام مقر مقتدى الصدر الذي تحداهم واحتمى بضريح الامام علي في مدينة النجف، فان الايرانيين تدخلوا لانقاذ الموقف. فطلبوا من حجة الاسلام الشهرستاني زوج ابنة آية الله السيستاني المقيم في بلده «قم»، ان يسافر الى لندن، ليأتي بالمرجع الكبير الذي كان قد ذهب اليها بحجة العلاج، لكي يتوسط في فك الحصار عن الصدر واخراجه بسلام، وهذا ما حدث) في الوقت ذاته فان الايرانيين حريصون على مد جسورهم مع السنة والاكراد أيضاً. وفي اطار اللعبة الايرانية الذكية، فان القيادة الايرانية التقت في بعض النقاط مع السياسة الامريكية في موضوع اجراء الانتخابات مثلاً في حين ان الاعلام الايراني وقناة «العالم» الممولة حكومياً، يؤيدون المقاومة العراقية. ويلفت النظر ان هذ هو الموقف الذي يلتزم به المرشد السيد خامنئي والشيخ هاشمي رفسنجاني، اللذان ينددان بالاحتلال الامريكي في كل مناسبة. وهو ما لم تفعله وزارة الخارجية ورموز الدبلوماسية الايرانية الرسمية.
    -----

    في جلسة مصارحة، مع بعض القريبين من المطبخ السياسي الايراني، علمت انه بعد الاحتلال الامريكي للعراق، شكل الشيخ هاشمي رفسنجاني رئيس مجلس تشخيص المصلحة فريقاً لادارة الازمة العراقية، ومتابعة خيوط المشهد وراء الحدود. وقال اكثر من واحد ان طهران هي اكثر الرابحين من الحاصل في العراق، وان حاولت ان تخفي سعادتها وارتياحها لما يجري هناك. وحين قلت ان ايران اصبحت الان محاصرة ومهددة من جانب الامريكيين، علق احد الجالسين قائلاً ان الملاحظة ابديت امام الشيخ رفسنجاني ذات مرة، فابتسم وقال: ترى من يحاصر من، نحن ام هم؟ - وذكرني احدهم بأن رياح السياسة الدولية مواتية لايران الان، بأكثر مما كانت عليه قبل عشر سنوات مثلاً.

     فأوروبا التي تجاهلتها واشنطن وقللت من شأنها قبل الغزو واثنائه، اصبحت اكثر جرأة الان في عدم الانصياع للسياسة الامريكية، خصوصاً بعد فشلها في العراق. ثم ان روسيا التي ادركت ان واشنطن تكيد لها وتعبث في حياضها (كما حدث في اوكرانيا وجورجيا)، اصبحت الان اقرب الى ايران، على نحو يكاد يستعيد حرارة العلاقات التي قامت في الثمانينيات بين طهران وموسكو.
     
    في جرد الموقف بعد الغزو قالوا ان ايران ربحت حتى الان ست جوائز، تتحفظ عليها ولا تريد الاعلان عنها هي:

    - انها تخلصت من نظام صدام حسين الذي ناصبها العداء منذ قامت الثورة، واستنفد في حرب السنوات الثماني طاقاتها البشرية والعسكرية، وظل بعد زوال تهديده مصدر ازعاج لها.
     
    - انها اصبحت مطمئنة في ظل تزايد الثقل الشيعي وفاعلية الدور الكردي في ادارة العراق، الى ان أي حكومة منتخبة في بغداد ستكون صديقة لايران، وفي أسوأ احوالهم فلن تكون معادية لها. حيث المعروف ان طهران تحتفظ طيلة ربع القرن الاخير على الاقل بعلاقات وطيدة مع القيادات الشيعية والكردية العراقية.

    - ان وجود الاحتلال الامريكي في العراق، الذي ترى طهران انه سوف يستمر لبعض الوقت، سيحفظ لايران مكانتها كقبلة للشيعة. وكان البعض قد تساءلوا بعد سقوط نظام بغداد عما اذا كانت حوزة النجف الاشرف، المقامة حول ضريح الامام علي، سوف تسترد مكانتها التقليدية والتاريخية التي كانت قد انحسرت لصالح مدينة «قم» بسبب ضغوط النظام البعثي، الا ان ذلك التساؤل لم يعد مثاراً الان. اذ تشير دلائل عدة الى انه يجري الان الحاق حوزة النجف ذاتها بحوزة قم. وقد تقاطر علماء قم على مدينة النجف بعد سقوط النظام السابق ولا يزالون لتحقيق هذه المهمة.

    - ان طهران لم تعد تتخوف كثيراً من التهديد الامريكي، الذي عمل على تطويقها بالقواعد العسكرية التي زرعت في دول وسط اسيا، منذ احتلال افغانستان في عام .2001 ذلك ان وجود 150 الف جندي امريكي في العراق من شأنه ان يجعل ذلك العدد الضخم من القوات في متناول الايرانيين اذا ما حدث أي تهديد. حتى ان احدهم قال ان هؤلاء الجنود سيصبحون «رهائن» لدى الايرانيين في هذه الحالة. والذي لا شك فيه ان ايران تحسبت لذلك الاحتمال. واغلب الظن ان المسئولين العراقيين الذين تحدثوا عن التدخل الايراني في العراق، كانوا يقصدون الاشارة الى الاعداد الكبيرة من ذوي الاصول المختلطة التي عبرت الحدود الى العراق، و«كمنت» فيها لمواجهة أي موقف يزعج ايران مستقبلاً.

    - ان ايران ضمنت محاصرة عناصر منظمة «مجاهدي خلق» الذين كان النظام السابق قد آواهم وسلحهم وأقام لهم معسكرات خاصة في العراق، الامر الذي كان مصدر ازعاج متقطع لطهران. وبعد سقوط النظام جمد نشاط كل هؤلاء، ان لم يتحولوا بدورهم الى رهائن، حيث أصبحوا عاجزين عن ممارسة أي نشاط، ومهددين في وجودهم في كل وقت.

    - ان العراق المدمر الذي شلت فيه مختلف مصادر الانتاج والمرافق اصبح سوقاً كبيرة لمختلف المنتجات الايرانية، الصناعية والزراعية، بل اكبر سوق لتلك المنتجات، بسبب سهولة النقل وانعدام تكلفتها، الامر الذي اصبح يعول عليه كثيراً في انعاش الاقتصاد الايراني.
    ----

    كنت قد لاحظت في الفندق كثرة رجال الاعمال الاجانب وتنوعهم. ولم يكن ذلك مألوفاً حسب خبرتي. وحين سألت عن تفسير ذلك، قيل لي انه بعد احتلال العراق، راجت شائعات قوية مفادها ان ايران هي الهدف التالي، وبسبب من ذلك تراجعت الى حد كبير وفود رجال الاعمال الاسيويين والاوروبيين القادمة الى طهران. ولكن بعدما تبين ان الامريكيين غرقوا في المستنقع العراقي، وفشلوا حتى الان في وقف المقاومة، اطمأن رجال الاعمال الى ان ايران ما زالت بعيدة عن دائرة الهدف الامريكي، وبدأت افواجهم تعود بصورة تدريجية الى طهران، فعادت الفنادق الى الامتلاء مرة اخرى.


     


     الانتفاضة هزمت شارون

     سينجح الإعلام الإسلامي إذا
     عبرعن الناس وليس الحكومات

     الديموقراطية هي السبيل الوحيد لتقارب شعوبنا العربية

    هذا حوارمع الكاتب والمفكر فهمي هويدي يطلعنا فيه على رأيه في عدد من القضايا المعاصرة التي تمر بالأمة والإسلامية.


    بداية نود معرفة رأيكم في الصراع العربي الإسرائيلي من زاوية مغايرة لما تناوله الإعلام العربي والعالمي في الفترة الماضية ، فهناك ما يشير إلى أن المجتمع الإسرائيلي في الأصل مجتمع متنافر ولكنه اختار التوحد والتضامن ونبذ الصراعات الداخلية لمواجهة تهديد المقاومة الفلسطينية فما رأيك في ذلك ؟
    ينبغي ألا نستهين بالجدل الدائر حاليا في إسرائيل حول موت السياسية ودلائل نهاية المشروع الصهيوني خصوصا أن القائلين به ينتمون إلى أهم شرائح الدولة العبرية ، فنجد في الصحف إشارات تعبر عن انكسار في حزب العمل ، وإفلاس الليكود .... ولكن الحقيقة قد برزت الآن ، فقد أصبح كل هذا من حقائق الحياة السياسية في إسرائيل بعد الفشل الذي مني به حزب العمل الإسرائيلي في السنوات الأخيرة ، والتي تعاقبت بمقتل زعيمهم رابين ، وقد قرأت كثيرا حول شارون الذي سوف يدخل التاريخ كأول زعيم سياسي يحطم الوحدة الوطنية بعد أن استطاعت الانتفاضة أن تخفض من شعبيته وتهزمه في عقر داره بعد إراقة الدماء الفلسطينية .

    وماذا سيكون البديل من وجهة نظرك بعد انطفاء آخر شمعة لليكود؟

    أرى أن النفق المسدود الذي انتهت إليه الشارونية اقترب من اليأس وتدهور الوضع الاقتصادي مصطحبا معه تجليات الجريمة المنظمة والبطالة والفقر وحسب الإحصائيات الأخيرة فإن 18% من الشعب الإسرائيلي يعيش تحت خط الفقر وأصبحت هناك أصوات عالية بدأت تسمع داخل المجتمع الإسرائيلي متوقعه حلول كارثة تهدد مصير الدولة العبرية إذا ما استمرت سياسة القمع والتمييز العنصري ضد الفلسطينيين ، وأصوات أخرى غاضبة من الأوضاع السياسية ويهددون بسقوط الدولة العبرية سريعا. أصوات عالية داخل المجتمع الإسرائيلي تتوقع حلول كارثة تهدد مصير الدولة العبرية

    كيف ترى المقاطعة العربية الاقتصادية للمنتجات الإسرائيلية والأمريكية وهو الخيار الذي نادى به الكثيرون بالرغم من وجود من يعتقد أنها تؤثر بالسلب في سوق العمل العربي؟
    أنا مع المقاطعة بشكلها الصريح ولكن ليس بالضرورة أنها تؤثر سلبا على العمالة العربية ، فإذا قلنا أنها ستؤثر سلبا على الأيدي العربية العاملة فإن تأثيرها أكبر على المصالح الإسرائيلية والأمريكية ، وأنا مع المقاطعة وضد أي رأي يؤيد دعم هذه المنتجات لأنه لابد من وقفة من الناس وليس الحكومات فقط ، وهذه الوقفة من أجل استرداد الحقوق العربية المسلوبة .

    أدهشنا موقف الرئيس الفرنسي جاك شيراك من انحيازه التام للعلمانية ومنعه ارتداء المرأة المسلمة الحجاب في المدارس ، وصدمنا رأي شيخ الأزهر في الموقف الفرنسي باعتباره أنه شأن داخلي فما رأيك في هذا؟

    موقف شيخ الأزهر من الحجاب " زلة لسان " من العيار الثقيل
     

    الإعلام الفرنسي اعتبر موقف شيخ الأزهر صكاً يطلق يد الحكومة
     

    حقا لقد فاجأنا شيراك وأيضا شيخ الأزهر، بل بالفعل صدمنا !! ... وقد نحاول استيعاب الملابسات التي دفعت الرئيس الفرنسي إلى التورط في ذلك ، إلا أن ما صدر عن شيخ الأزهر يستعصي على الفهم ولا يمكن أن يفسر إلا بحسبانه " زلة لسان " من العيار الثقيل ، فلم يحالفه التوفيق من أي وجه ، وقد وجدنا إنجلترا وأمريكا عبرتا عن انتقادهما لموقف الرئيس الفرنسي ليس غيرة على الإسلام ولكن باعتباره عدوانا على الحريات .... بينما شيخ الأزهر الذي يفترض أنه أحد رموز الدين الإسلامي الغير على الدين لم ينطق بكلمة نقد واحدة لذلك الموقف ولم تكن هذه هي المفارقة الوحيدة لأن الشيخ حينما تحدث عن هذا الموضوع معتبرا القرار الفرنسي ( شأن داخلي ) فإذا كان ذلك هو موقف الثقافة الفرنسية التقليدية من التدين بوجه عام فإن الدين الإسلامي كان ولا يزال له وضعه الخاص من حيث أنه يستعصي عليه عملية التذويب ...

    وحين تطرق شيخ الأزهر إلى هذا الموضوع في المؤتمر الصحفي الذي عقده مع وزير الداخلية الفرنسي في القاهرة فإنه وقع في خطأين كبيرين :
    أولهما ، أنه كان محايداً إزاء الموقف الفرنسي ، وغير متحفظ عليه من أي باب ..
    وثانيهما ، أنه بدا غير مدرك لخلفيات وملابسات القضية فالإعلام الفرنسي قدم الأزهر بحساباته معادلا للفاتيكان عند الكاثوليك ومن ثم اعتبروا كلام شيخه صكا يطلق يد الحكومة في تقنين خطر الحجاب من وجهة نظرهم رغم إجماع الغالبية الساحقة من علماء المسلمين على معارضته سواء في مجمع البحوث الإسلامية أو المجلس الأوربي للإفتاء الذي يرأسه الشيخ يوسف القرضاوي .... ورغم أن دور الأزهر قد تراجع كثيرا في السنوات الأخيرة لأسباب يعلمها الجميع إلا أن موقف شيخه من موضوع الحجاب يبدو أنه سيفتح الباب لتعميم الخطر في دول غربية أخرى مثل ألمانيا ولا أعرف كيف ستعالج هذه المشكلة وربما كانت الفكرة التي خرجت لدعوة مجمع البحوث الإسلامية للاجتماع لمناقشة الموضوع وصياغته تجد حلا مناسبا ، لكن كل ما أقوله أن تصرف فرنسا مشين ، وأظن أن العرب لو كانت لهم كرامة وقوة أكثر من هذا لاحترمت الدول الأخرى حرياتهم وعقائدهم بشكل أكبر .

    الحروب والصراعات الداخلية تترك آثار نفسية عميقة لدى الشعوب وتغير من معالم شخصيتها لتصبح أكثر عنفا .... والمنطقة العربية عانت من هذا النوع من الحروب كثيراً ، فما رأيك في العلاقات العربية ـ العربية في ظل ما مرت به المنطقة من أحداث في الفترة الأخيرة ؟
    العلاقات ليست بالقوة المطلوبة ولكنني أظن أن الحل الديموقراطي يعطي فرصة لتقارب الشعوب وأن الحكومات لابد وأن تمثل شعوبها وبالتالي فنحن نتصور مستقبل أفضل للعلاقات العربية ـ العربية في ظل أوضاع ديموقراطية حقيقية.

    الإعلام الحقيقي هو الذي يعبر عن الشعوب لا الحكومات التي يتبع لها

    ما رأيك في الإعلام العربي الإسلامي خاصة بعدما برز دوره في الكثير من الأحداث الحالية بداية من حرب أفغانستان ومرورا بحرب العراق ثم الظروف الحالية؟
    لا يكون هناك إعلام حقيقي إذا لم يكن منفصلاً عن السلطة السياسة ويكون معبرا عن الناس والمشاهدين والجمهور وليس معبرا عن الحكومات .

    ما هي وجهة نظرك في اختراق أمريكا للصحافة والإعلام العربي واطلاقها أخيرا لقناة " الحرة " التي تروج للسياسة الأمريكية في العالم العربي ؟

    التعجب ممن يدافع عن الإختراق الأمريكي للعقول العربية !! دائما أشدد على ضرورة إجراء حوار مع من تستخدمهم أمريكا لتحقيق أهدافها .... وعلى الطرف الآخر أن يحاول فهم أبعاد القضية لأنه لا يعقل أن مصر بحجمها الكبير على سبيل المثال نجدها المرشح الأول للاختراق الأمريكي ومع ذلك نرى من يدافع عن هذا الاختراق من داخل مصر !! ... وهو ما اتضح جليا في شهر أغسطس الماضي عندما رأيت هيئة المعونة الأمريكية تضع مشروعا لإصدار صحف ومحطات تليفزيونية في ثماني دول عربية في مقدمتها مصر !! .... وأتساءل كيف يأتي هؤلاء إلى قلب القاهرة لإصدار صحف بتمويل محلي مشترك ؟! .... وإذا رجعت بالذاكرة نجد أن هذه القضية أبان الاحتلال الإنجليزي لمصر لم تأخذ الشكل السافر الذي نراه الآن .. لأنه كان من المعروف وقتها أن جريدة ـ المقطم ـ على سبيل الثال مخترقة من الإنجليز ، لكن الكارثة الآن أن أمريكا تقول وبشكل علني أنها ستصدر صحف عربية وتعيد صياغة العقول العربية من جديد .. والجديد من أفعال أمريكا إنشاء قناة ـ الحرة ـ الفضائية تبث باللغة العربية ، وأيضا يبث عليها أفكار أمريكية مغالطة للواقع العربي .


    وما رأيك في طلب روسيا الانضمام لمنظمة العالم الإسلامي .... وكيف ترى تأثير هذا الانضمام وامكانية استفادة العالم العربي منه ؟
    بالنسبة للعرب لا أعرف إذا كانت هناك استفادة لهم من هذا الانضمام أم لا ، لكن اعتقد أن روسيا حريصة على أن ترضي هؤلاء العرب والمسلمين وذلك لأن بداخلها 25 مليون مسلم .... وحتى لا تتكاثر المشاكل الداخلية كما حدث في الشيشان ... لذلك نرحب إذا كان هذا سوف يؤدي لتحسين سياستنا العربية مع روسيا .

    كثر الحديث عن الخطاب الديني وضرورة تجديده وتطويره ، ونفس الحال عن المناهج التعليمية الإسلامية فما هي رؤيتك لذلك؟
    أنا لا أرى جديد من حيث التجديد والتطوير .... لكن ما أراه لازما هو تجديد الخطاب الدعوى ، وإذا ما وصلنا إلى نقطة التعديل في المناهج لابد أن يكون هناك تطوير أولا ، كما أنني أظن أننا في حاجة إلى تطوير الخطاب السياسي قبل الخطاب الديني .

    نلاحظ مؤخراً تغيير المنهج الإيراني في سياسته الخارجية تجاه العالم العربي ومحاولاته التقارب مع مصر والسعودية والكثير من الدول العربية المجاورة ... فكيف ترى هذا المشهد؟
    هناك قلق من المشهد الإيراني الحالي ليس فقط في طريقة تعامل المحافظين مع المرشحين الإصلاحيين في الانتخابات النيابية ، لكن أرى أن المحافظين بدأوا هذا المشهد وهم غير مدركين لحقائق الجغرافيا ولا واعين بدروس التاريخ وخطورة هذا .... فقد كان المحافظين على رهان في البداية على اكتساح الانتخابات وهذا الفوز تحقق للإصلاحيين باكتساح خاتمي سواء فيما يتعلق برئاسة الجمهورية أو مجلس الشورى ، فقد أصبحت شرعية المحافظين مشكوكا فيها حيث بدا واضحا أن معظم الناخبين على الأقل صوتوا لصالح الإصلاحيين في حين لم يقف إلى جانب المحافظين سوى القليل .... وقد نتج عن ذلك تجسيد لإحدى مفارقات المشهد الإيراني لأن كل المجالس النيابية والمؤسسات التي تشكل بالتعيين ظلت في أيدي المحافظين وهذه المجالس أعتقد أنه لا يستهان بها لأنها القابضة على مفاتيح الحياة السياسية والاقتصادية في إيران فضلا عن السلطة القضائية ، في حين أن المجالس التي تستمد شرعيتها من الانتخابات بقيت في أيدي الإصلاحيين من رئاسة الجمهورية والحكومة ومجلس الشورى والبلديات ، وبما أن الأمر كذلك فقد أصبح الانطباع السائد أن المحافظين يستندون في شرعيتهم إلى قوة السلطة وإلى التأييد النسبي للمرشد السيد علي خامنئي .... ولكن بالنسبة لعلاقة إيران مع العالم العربي وخاصة مصر والسعودية أراها طيبة الآن وطبيعية ومعقولة.

    الموقف الليبي تغير مع تغير حسابات القوى

    ما رأيك فيما أعلنته ليبيا مؤخرا عن نزع أسلحة الدمار الشامل من طرف واحد ، ومدى تأثير هذا على القوى الإسلامية وعالمنا العربي؟
    خلال الفترة الماضية جاءتنا أخبار مفادها انه تم الإعلان عن إيقاف ليبيا برنامج إنتاج أسلحة الدمار الشامل ونتج عنه فتح كل الأبواب للبلاد الليبية وكذلك المعامل للتفتيش الدولي ... وأعتبر أن هذا هو الخطوة الأولى من نوعها منذ عام 1980م ، ولهذا فالنظر لهذه الأحداث الجديدة قرأتها من زاويتين إحداهما ليبية والأخرى عربية فنحن إذ تدبرنا المشهد من زاويته الأولى ـ الليبية ـ سنجد أن هذا التتابع بما فيه من مفاجآت يجسد واقعا للسياسة الليبية التي اتسمت بعدم الاستقرار والتقلب في اتجاهات عديدة وقد تكون أحيانا متنافرة ، وأرى أنه قد تكون التقلبات تعبيرا مخلصا عن الانفعال والغضب ورفض المواراة وإخفاء المشاعر ، كما قد تكون انعكاسا لتغير الحسابات مع تغير حسابات القوى ... وأعتقد أنه رغم الغموض الذي يحيط بالأسباب الحقيقية للتوتر الليبي إلا أن ثمة معلومات تشير إلى أن الرئيس الليبي مستاء من الرد العربي لهذا التغير كما حدث في موقفه من انتقادات الصحف المصرية لسياسته وقراراته بل واعتبر الرئيس الليبي أن هذه الممارسات هي تعبير عن موقف سياسي وليس مجرد ممارسة لحرية التعبير والنقد ، ورغم بقية الأحداث التي حدثت وأكملت وقائع هذا المشهد من تراجع العلاقات المصرية الليبية خطوة إلى الوراء لكن جرى تعويضا عنه من إحراز تقدم على صعيد أخر وهو صعيد العلاقات الليبية الأوربية والأمريكية والإسرائيلية إذا صحت تلك الأنباء التي تناولتها الوكالات العربية

    المقاومة العراقية تتعرض لقصف إعلامي وسياسي مكثف

    - سقطت بغداد ومعها سقط صدام .. وتحولت العراق بعد ما كانت مدينة الحضارة العربية إلى مدينة حرب كل ما فيها يحارب ويقاتل ويقاوم لا لمقاتلة الأمريكيين والبريطانيين فحسب وإنما هناك عراك داخل العراق فما هي رؤيتك لهذا المشهد ؟
    لقد كان السقوط المهين للنظام البعثي بداية مسلسل المفاجآت المدهشة ليس لأن أحدا منا توقع أن ينتصر الجيش العراقي على الجحافل الأمريكية الغازية لكن لأن أحدا لم يتوقع أن يكون السقوط بتلك السهولة الفاضحة ، وكما سقط النظام بمنتهى السهولة فإن المقاومة ظهرت بمنتهى السرعة وتلك بدورها مفاجأة لا ريب فيها ، فهذه المقاومة تحركت بسرعة مسلحة بذلك الوعي المناضل فإنها لم تتعرض في رأيي للقمع من جانب قوات الاحتلال فحسب لكنها تعرضت بشكل مواز لحملات قصف إعلامي وسياسي مكثف وكان سلاحها الأساسي هو الشائعات والأكاذيب ... وأرى أن ما يحدث في العراق يستهدف الكثير من الأهداف منها إقناع الرأي العالمي بأن العراقيين سعداء ومرتاحون لوجود الاحتلال ، بينما الذين يتمردون عليه ويريدون النيل منه هم المتسللون الأجانب ، ومن ناحية ثانية يحاولون الصاق التهمة بعناصر تنظيم القاعدة الذي صورته الدعايات وكأنه أخطبوط ضخم يضرب بأذرعه في أنحاء العالم ويهدد باستعادة نظام طالبان حيثما ذهب .... أما الهدف الثالث فهو تخويف الشيعة من الوهابيين الذين قيل أنهم من بين المتسللين ، ومن المعروف أن لا أحد يستطيع أن ينكر أن بعض عناصر النظام السابق تسعى إلى إقلاق راحة الاحتلال ، وإثارة الفوضى في البلاد وإفشال محاولاته للسيطرة على الوضع الداخلي ، ولكنني أشك كثيرا في أنهم يحلمون باستعادة سلطانهم بعد أن انكشفت بشاعات نظامهم .... كما أن أحدا لا ينفي وجود متطوعين عرب تقاطروا على العراق مع بداية الحرب تعبيرا عن التضامن مع شعبه وسعيا إلى مواجهة الغزاة ... ولكن دعني أضع أصابعي على ملاحظات من أهمها أن أغلب القيادات البعثية في النظام السابق حتى في الصف الثالث أو الرابع على الأقل قد خرجت من الساحة العراقية فهي إما تعرضت للاعتقال أو هربت من البلاد حاملة معها ما خف وزنه.


    - ما هي رؤيتك للسيناريوهات العراقية الأمريكية وكيفية الخروج من هذه الأزمة الدولية؟

    لا شك من وجود احتمالات كبيرة لنشوب حروب أهلية في البلاد من جراء التنافس على السلطة بعد سقوط صدام حسين سواء من الشيعة أو السنة من جانب وبين العرب والأكراد من جانب آخر وبين الأكراد والتركمان من جانب ثالث وذلك غير احتمالات الصراع بين البعثيين والقوميين ، والشيوعيين والإسلاميين ، ورغم أن بعض الذين يروجون لذلك السيناريو الكارثي هم من المتعاونين مع الأمريكيين أو المستفيدين من وجودهم ولم يكتسبوا شرعية في السلطة إلا من جراء ذلك الوجود ، إلا أن السيناريو هذا لا يخلو من صحة بمعنى أن نشوب مثل هذه الحرب المشئومة ليس مستبعدا في حالة وقوع الانسحاب و في ظل الفراغ الهائل والحاصل في جهاز الدولة ... ولكن أخشى أن يفهم من هذا أن الأمريكيين لا يريدون الانسحاب خشية وقوع كارثة الحرب الأهلية في العراق لأنهم الذين سمحوا بوقوع كوارث أخرى مثل تدمير البنية التحتية والمرافق فضلا عن نهب المتحف العراقي ، وأعتقد أن الأمريكيين سوف يبقوا لأن لديهم أهداف استراتيجية وسياسية واقتصادية والتي بات أمرها معلوما لدينا جميعا.


    رسالة مفتوحة الى "محمد السادس"

     كارثة أمة تتآكل أمامنا ونحن لاهون او ساكتون
    ماَسات الإفتراس االروسي للشيشان
    المستهدف هو العالم الإسلامي كله
    تغيير الطلاء ليس حلا !
    ما العمل؟ مقالات هويدي في مواجهة الكارثة
    الاتجاه التهويدي في منع مقالات فهمي هويدي!
    هجومات اليهود اليومية على المدن الفلسطينية!
    الغضب صار فرض عين
    اليهود وإسرائيل في قلب الحرب على العراق
    المشروع الصهيوني قابل للهزيمة
    فعاليات الشباب الدينية والأمن الداخلي للدولة
    إلغاء الجهاد من المناهج لن يحذفه من العقل الاسلامي
    الصهاينة يريدون تهويد الإسلام
    "سلام" أم بذورإستسلام للإحتلال اليهودي؟
    المراهنة على شعوبنا هي الحل
    ما هي بذور و منابع الشرو"الإرهاب"؟

    حملة يهودية لتفكيك الإسلام
    الغزو اليهودي الذي بدأ
    حرب إعلامية يهودية شاملة
    إعلان المتصهينين لحرب إستئصالية على الإسلام
    اليهود لن يرضوا عنا الا إذا صرنا عبيداً
    لهم
    لن نستطيع كسب أي معركة بجيش من المقهورين

    العراق: نموذج لتحرير المواطنين دون الوطن
     حوارمع هويدي حول قضايا الأمة الإسلامية
    حروب ثلاث في الجعبة
    التقريب بين المذاهب أو الانشغال بالتفريق
    العراك في العراق
    إيران والعرب في قارب واحد
    أكراد العراق يلعبون بالنار
    مطلوب إدانة إسلامية لقتل الشيعة في العراق
    خطأ الغرب في التشخيص وفي العلاج

    إحتفاء حكامنا الخونة المخجل بشارون... وغضب شعبي عاجز
    بيانات "التضامن" العاجز و معركة الأمعاء الخاوية
    لماذا الهجوم علىعناصر المقاومة في الجسم الإسلامي الجريح ؟
    إسرائيل تدفع الولايات المتحدة للسيطرة على العالم لصالح واليهود
    Comments about Mr. Howiedi´s book
    SILENCE IN THE FACE OF INJUSTICE IS A CRIME
    Entretien avec le penseur islamiste Fahmi Howeidi
    تعقيبات


    HOME