المسار
الديمقراطي أصبح إجبارياً بعدما كان محظوراً ومشبوهاً!
انتهى
عصر الوصاية على الناس
ما معنى ذلك؟
معناه أن الخيار
الدر الديمقراطي الذي يعلي من صوت المجتمع ويجعل الأمة مصدر السلطات (وهو
مضمون الإصلاحات) كان آنذاك، عام 1997، خياراً متهماً ترفضه رموز المؤسسة
التقليدية القابضة على السلطة والمهيمنة على مقدرات البلاد، وهي المؤسسة التي
تعاملت مع المجتمع من منطلق الوصاية، معتبرة أن السلطة من مقتضيات الولاية
المطلقة للفقيه، ولأنها بهذه الصفة فلافضل ولادور فيها للشعب، باعتبار أن
((الناس يتامى والعلماء أولياء لهم)).
بكلام آخر فإن فكرة
الإصلاحات انبنت على أن ولاية الفقيه مستمدة من ولاية الأمة، باعتبار أن
الولي الفقيه ينتخبه ((مجلس الخبراء)) حسب الدستور الإيراني، وهذا
المجلس منتخب أصلاً من الناس، الأمر الذي يعني أن الولي الفقيه منتخب من
الأمة بطريق غير مباشر، ويغير ذلك الانتخاب فإنه لايستطيع أن يتبوأ منصبه.
أما معارضوا الإصلاحات فقد رفضوا ذلك الطرح، وأصروا على أن الولي الفقيه هو
الذي يضفي الشرعية على المؤسسات الأخرى في المجتمع، بل وعلى الدستور ذاته،
لأنه نائب عن الإمام الغائب، ونيابته مطلقة لايجوز إخضاعها إلا للمشيئة
الإلهية.
في عام 1997 كان
الصراع محتدماً حول فكرة الديمقراطية ودور المجتمع، أما في انتخابات عام 2001
فقد سلمت الأغلبية بضرورة تبني المسار الديمقراطي برضاها أو رغماً عنها،
وأدركت أن من يريد أن يخاطب المجتمع الإيراني ويكسب تأييده وثقته، فعليه أن
يتبنى مفردات الخطاب الديمقراطي، حتى إذا لم يكن مقتنعاً به، وكان من أهم ما
قيل في هذا الصدد، الخطاب الذي ألقاه آية الله علي خامنئي، مرشد الثورة قبل
أربعة أيام من موعد التصويت في الانتخابات الرئاسية، ((كان ذلك في مناسبة
ذكرى وفاة الإمام الخميني في 4/6/الماضي)). وقال فيه أن الشعب هو
مصدر الشرعية في الجمهورية الإسلامية. وهي المقولة التي تلقفتها الصحف
الإسلامية، وأبرزتها في عناوين صفحاتها الأولى، في إشارة ضمنية إلى أن المرشد
التحق أخيراً بالموقف الإصلاحي، وتبنى دعوته الأساسية.
هذه المرة اختلفت
تماماً لغة الخطاب فالمنافسون التسعة للسيد خاتمي سكتوا عن كل تلك العناوين
التي تركز على القيم، وتكلموا بلغة أخرى مغايرة اهتمت بمصالح الناس وهمومهم
الحياتية، من الغلاء والتضخم والبطالة ومكافحة الفساد الإداري والاهتمام
بالشباب والنساء وغير ذلك.
الحديث عن الإصلاح دون
ممارسته
أخشى ما أخشاه أن يكتفي العالم العربي
بالحديث عن الإصلاح دون أن يمارسه، وأن ينتهز البعض فرصة محاولة فرضه من الخارج
لمصادرة وقمع اي محاولة للاصلاح تصدر من الداخل، بزعم انها «مشبوهة». وتلك كارثة
مضاعفة، أولا لأنها تحوّل الاصلاح الى حلم غير قابل للتحقيق،وثانيا لأن الدنيا
حولنا تتحرك بسرعة حتى سبقنا من كانوا في مثل حالنا او دونه، وصرنا مهددين بالبقاء
وحدنا خارج التاريخ.
«1»
تستفز المرء وتملؤه بالإحباط تلك
الطنطنة التي أصبحت تلوك مفردات الإصلاح في مختلف عواصم العرب، حتى يبدو وكأن تلك
العواصم دخلت سباقا في عقد مؤتمرات الديمقراطية وحقوق الانسان وتمكين المرأة،
مماثلا للسباق المشهود بينها حول عقد مهرجانات التسوق والسياحة والأغانى. واذا جاز
لي ان اقارن فقد اجد في المهرجانات الأخيرة ضجيجا لا يخلو من طحن، على الأقل فيما
يتعلق بالرواج الذى يحدثه التسوق، في حين ان المؤتمرات الاولى بمثابة ضجيج بلا طحن.
مع ذلك فانني اعترف بان ذلك لم يكن
حافزى الوحيد للتطرق الى الموضوع، لان هناك حافزا آخر كان له عندى وقع الغيظ
والحسد. ذلك اننى في الآونة الاخيرة وقعت على تقارير عدة تحدثت عن القفزات
الاقتصادية والعلمية الكبيرة التي حققتها الهند خلال السنوات الاخيرة. وكان ما
نشرته خلال الاسبوعين الماضيين مجلة"نيوزويك" حول الموضوع، وما كتبه توماس فريدمان
فى"نيويورك تايمز"، وسلامة احمد سلامة في "الاهرام" من احدث التقارير والتحليلات
التي أثارت انتباهى في هذا الصدد.
لقد قدر لجيلنا ان يكون شاهدا على
مجتمعات رأيناها قرى فقيرة واشفقنا على اهلها قبل عقدين او ثلاثة، ثم عرفناها بلادا
مزدهرة، مليئة بالحيوية ومفعمة بالأمل، حتى صرنا نحن الى جوارها من يستحق الشفقة
والرثاء. وهو ما ينطبق على بلاد مثل ماليزيا واندونيسيا وكوريا الجنوبية والصين
وسنغافورة وتايوان. (لا تسأل عن اليابان)، لكنى ازعم ان تجربة كل هؤلاء في كفة،
وتجربة الهند في كفة اخرى ولماذا؟
لان الصورة النمطية التي استقرت في
اذهاننا عن الهند انها بلد مكدود يكتظ بالسكان، اجتمعت فيه اعظم الكوارث والبلايا.
من الفقر والمجاعات والتخلف الى الاوبئة والفساد والتطرف، وليس له من فضيلة سوى
التاريخ العريق والديمقراطية الراسخة. وقد ادهشنى ان بلدا مثقلا بكل تلك الهموم
اقام احتفالا بمناسبة بلوغ عدد سكانه مليار نسمة، معتبرا ان الطاقات البشرية رصيدا
او ثروة، وقد نجح في تصديرها الى الخارج. حتى بلغت جملة التحويلات السنوية للهنود
العاملين بمنطقة الخليج 14 مليار دولار. ليس ذلك فحسب، وانما نجحت الهند في ان تحقق
لنفسها اكتفاء ذاتيا في المحاصيل الزراعية الأساسية مثل القمح والذرة والأرز، في
حين ان اقطارا زراعية اخرى لم تبلغ عشر معشارها من السكان، ما برحت تؤنب وتقرع بسبب
الزيادة السكانية، وفشلت في ان توفر لشعوبها تلك المحاصيل.
واستغربت كيف ان ذلك البلد المعقد
الملئ بعوامل الفقر والأمية والاضطراب، استطاع ان يفزر طبقة متوسطة متعلمة قوية،
تراوحت بين 300و400 مليون نسمة، اصبحوا يشكلون العمود الفقرى للمجتمع وقاطرة النهوض
والتقدم فيه. وبجهود هؤلاء اصبحت الهند دولة نووية، ووصل معدل النمو الاقتصادى فيها
الى ما بين 5و7%، وارتفعت صادراتها السنوية للولايات المتحدة الى 10 مليارات دولار.
اما المفاجأة الكبيرة التي رفعت عندى
وتيرة الغيط والحسد، فهى ان ذلك البلد الذى خاض اربعة حروب ضد باكستان والصين،
وتعددت فيه جماعات ومنظمات الارهاب والتطرف ودعوات الانفصال التي عانت منها البلاد
الكثير خلال نصف القرن الفائت، حتى قتلت ثلاثة من قادتها من المهاتما غاندى الى
انديرا غاندى وابنها راجيف، هذا البلد الذى ما زالت تعشش فيها بؤر التطرف والارهاب
حتى الآن، لم تعلن فيه الطوارئ مرة وما خضع للأحكام العرفية منذ الاستقلال.
فى مقابل هذه الصورة، اضع بين يديك دون
تعليق طائفة من أخبار العالم العربي الذى ترفع في فضائه رايات الإصلاح والتحديث.
قبل اسابيع قليلة قدم الى المحاكمة
العسكرية نفر من الناشطين المدافعين عن الديمقراطية في احدى الدول المشرقية بتهمة
الانضمام الى تنظيم غير شرعي اسمه"المجتمع المدنى". وقد حاول احد المحامين ان يشرح
لهيئة المحكمة ان المجتمع المدنى ليس تنظيما غير شرعى، وانما هي فكرة او دعوة تتردد
في مختلف انحاء العالم، لاحياء دور المجتمعات واشراكها في صياغة مصيرها من خلال
المؤسسات والمنظمات الاهلية. ولكن الضابط رئيس المحكمة قاطعه قائلا ان تلك ثرثرة
مثقفين تحاول ان تتستر على عملية اثارة الفوضى واشاعة الفتنة في المجتمع. وما فعله
هؤلاء لا يمكن تبريره، وهو جريمة يعاقب عليها القانون. وكان الرجل محقا في الشق
الاخير من كلامه، لان البلد المعنى خاضع لقانون الطوارئ منذ41 عاما!
فى بلد عربي آخر عولجت مسألة المجتمع
المدنى على نحو آخر. فبعد ان خضعت السلطة للاحتكار طيلة ثلاثة عقود، حدث التحول
الذى طرأ على الأجواء العامة، حيث هبت الرياح التي حملت معها شعارات الحرية
والتحديث وغير ذلك. ولضمان الاستمرار كان لابد من المواءمة والميل مع الريح، فتغيرت
اللافتات المرفوعة ومعها لغة الخطاب وانعكس ذلك على المواقف التي انقلبت مؤشراتها
بمعدل180 درجة. واذ حدث ذلك فيما يخص السلطة، فان موقع المجتمع المدنى ظل غائبا
.عندئذ تقرر تأميم النشاط الاهلى بطريقة بسيطة. فقد تولى قسم من الجماعة (العائلة
ان شئت الدقة) مباشرة السلطة، وانصرف نفر من اعضائها الى قيادة العمل الاهلى، وكتب
واحد من الاخيرين مقالا خاطب القراء فيه قائلا : نحن المجتمع المدنى نريد كذا
وكذا..(!)
هذه حكاية ثالثة وقعت في الاسبوع
الماضى. ففى احد الاقطار سيئة السمعة، على الاقل في مجالى الحريات وحقوق الانسان،
تطوع المنافقون في اتحاد الصحفيين وقرروا اهداء الرجل الاول"الريشة الذهبية"،
تقديرا لدوره في تكريس حرية الصحافة (المكممة والخاضعة للرقابة)، مما كان له وقع
الصدمة في الدوائر المدافعة عن الحريات. فما كان من الاتحاد الدولى للصحفيين الا ان
قرر تعليق عضوية اتحاد الدولة المذكورة حتى اشعار آخر.
لدي حكاية رابعة طازجة نسبيا. في احدى
الدول المغاربية فتح باب الترشيح للانتخابات الرئاسية، التي اريد لها ان تكون
تجديدا للوضع القائم، ولكن "الإخراج الديمقراطي" اقتضى اتاحة الفرصة لمشاركة اكثر
من مرشح. ولكى يتحقق المراد لجأت الاجهزة المعنية الى حيلة بسيطة يمكن تلخيصها على
النحو التالي: وجدوا ان القانون يشترط في المرشح ان يحصل على75 الف توقيع من
مواطنين يؤيدونه. ولابعاد المنافسين الاقوياء فان البلديات التي تتلقى التوقيعات
اشاعت بين الناس ان الذين يوقعون لصالح غير المرغوب فيهم ترسل يوميا الى أجهزة
الأمن.
ورغم ان هذه الحملة خوفت كثيرين، الا
ان اقوى المنافسين نجح في الحصول على اكثر من90 الف توقيع، مما اثار قلق الجهات
المعنية،فماذا حدث؟ قامت أجهزة الأمن ذات ليل باقتحام الغرفة المخصصة لايداع
استمارات التوقيع، التي كانت مغلقة بالشمع، واستولت في هدوء على ألوف الاستمارات
المؤيدة له. وحين جاء دور الفرز والتدقيق لتحديد مواقف المرشحين، وجدت اللجنة
المختصة ان بعض المتقدمين لم يستوفوا شرط الـ 75 الف توقيع. وبطبيعة الحال، فقد كان
اقوى المنافسين على رأس هؤلاء. ومن ثم جرى استبعاده لتتحقق النتيجة المطلوبة. واعلن
بعد ذلك ان الانتخابات ستجرى بمنتهى الحرية والشفافية.
عندى حكايات اخرى كثيرة، بمعدل حكاية
او اكثر من كل بلد، لكننى مضطر للتوقف لضيق المقام. وانهى هذه النقطة بحكاية اخيرة
على سبيل الترويح من بلد خامس. فقد نشرت صحف القطر الشقيق انه مع هبوب رياح التحديث
والعصرنة، بدأ البعض في تغيير اسمائهم للتكيف مع المرحلة الجديدة ، فهذا مدغر اصبح
عبدالعزيز وعجل صار عبدالرحمن وزنعاف غير اسمه الى بندر ومشوط صار "نواف" ومنوخ غير
اسمه الى محمد. اما في المسميات النسائية فقد لحقها التحديث على النحو التالى :شينه
تحولت الى عبير وغبيشة الى غادة، وهليلة الى ليلى، وضامرة الى سعيدة، وبنات الى رغد
وادنه الى دانه .
لماذا يبدو الاستعصاء الديمقراطى وكأنه
احد سمات الواقع العربي؟
- نوقش الموضوع في اجتماع اخير عقد
ببيروت، للجنة الاستشارية لتقرير التنمية في العالم العربي، الذى تصدره الأمم
المتحدة، وهو المخصص لتعزيز الحرية (يفترض صدوره هذا الصيف). وخلال المناقشة جرى
الحديث موسعا حول مظاهر واسباب أزمة الديمقراطية في العالم العربي، التي من
تجلياتها احتكار السلطة وغياب الحريات العامة وغير ذلك من الأمور التي يعرفها
الجميع.
فى تشخيص الحالة دعت الاغلبية الى
ضرورة العناية الى جانب رصد الاسباب الداخلية، بدور العوامل الخارجية التي اعتبرها
احد المتحدثين اهم معطل للديمقراطية في العالم العربي، وطالب آخر بتتبع العلاقة بين
الاستعمار والاستبداد في المنطقة - وذلك عنصر مهم ازعم انه مغيب في كثير من
الادبيات التي تعالج الاوضاع السياسية في العالم العربي. وهو مهم لانه ثابت من
الناحية التاريخية، والتنبيه اليه هذه الايام لا يقل اهمية لان قوى الهيمنة الغربية
ذات الباع الطويل في مساندة الاستبداد هي ذاتها التي تتبنى الآن الدعوة الى الاصلاح
السياسى في المنطقة، وهى ذاتها التي يحاول البعض اقناعنا بانها تحولت الى جبهة
تحرير العراق!
اكرر اننا لا نريد ان نعفى الداخل من
المسئولية، إلا اننا لا نريد ايضا ان نغض الطرف او نتستر على دور الخارج. فقد كانت
قوى الهيمنة في القرن التاسع عشر هي التي تولت ضرب مشروع النهضة الذى تبناه محمد
على باشا، وهى التي ازعجها كثيرا بزوغ احتمال اقامة دولة عصرية قوية في مصر والشام،
فأجبر الاسطولان البريطانى والنمساوى قوات محمد علي على الخروج من سوريا، كما حاصر
الاسطول البريطانى الاسكندرية، لكى تضطره الى قبول شروط معاهدة لندن عام 1840م، ومن
ثم تقويض مشروعه التحديثى الذى بدأه في عام 1805، الامر الذى انتهى بتقليص الجيش
المصرى الى 18 الف جندى، ضمن تراجعات اخرى شملت الصناعة والتجارة والتعليم.
لا نستطيع ان ننسى ايضا ان قوى الهيمنة
هي التي اقتسمت فيما بينها العالم العربي في "سايكس بيكو" عام 1916، وهى التي فتحت
الباب لاغتصاب فلسطين باطلاقها وعد بلفور عام 1917، وهى التي صوتت لصالح اقامة دولة
اسرائيل في عام 1948، وقد تحدث الامريكى"مايلز كوبلاند" في كتابه "لعبة الأمم" عن
الدور الامريكى في انقلاب حسنى الزعيم بسوريا عام 1949، وانقلاب عبدالكريم قاسم في
العراق عام 1958، وهناك انقلابات اخرى حدثت في الستينيات لم تكن الاصابع الامريكية
بعيدة عنها. في الوقت ذاته فان ظهور النفط في العالم العربي اضاف سببا جديدا
لمضاعفة دور قوى الهيمنة في المنطقة، وهى التي ادركت ان من يسيطر على منابع النفط
يسيطر على العالم الصناعى بأسره. وهو ما لفت الانتباه اليه الاستاذ محمد حسنين هيكل
اثناء غزو العراق حين قال ان المعركة ليست ضد العراق، ولكنه ميدان لضرب النار في
التنافس على المستقبل بين الولايات المتحدة واوروبا.
الخلاصة ان حجم المصالح الغربية في
العالم العربي، المتمثل اساسا في النفط واسرائيل، لا مثيل له في اي منطقة اخرى من
العالم. ولذلك فان الاصابع الغربية ظلت حاضرة بقوة وراء الكثير من ازمات المنطقة
وتراجعاتها، خصوصا على صعيدى الديمقراطية والتنمية. وهو ما يدعونا الى القول بأن ما
تحتاجه المنطقة حقا لتحقيق الديمقراطية والتنمية ان ترفع قوى الهيمنة يدها عنها، لا
ان تتبنى تلك اليد عملية الإصلاح على النحو الذى يلوح في الأفق الآن.
هل يتعلم العرب من اوروبا؟
- السؤال طرحه باتريك سيل الكاتب
البريطانى المتخصص في الشئون العربية في مقال ابدى فيه تشككه في ادراك العرب
لحاجتهم الى توحيد صفوفهم لمواجهة الاخطار الداخلية والخارجية التي تتهددهم . وخص
بالذكر ثلاثة تحديات فورية في العراق وفلسطين ومشروع الشرق الاوسط الكبير. (الحياة
اللندنية - 5/3/2004 ). واقترح لمواجهة هذه التحديات ان يقتدى العرب بالدول
الاوروبية في لملمة صفوفهم، باعتبار ذلك خيارا وحيدا امامهم للنجاة من الغرق. فذكر
ان لكل منظمة انسانية قادة، وهناك اقران لهم يتبعونهم. وبدون القادة الذين يحددون
المسار، فلن تتقدم السفينة في الاتجاه الصحيح .وفيما يتعلق باوروبا فقد تم الاتفاق
بين الدول الثلاث الكبرى، المانيا وفرنسا وبريطانيا، على تولى مهمة القيادة، وهو ما
قد لا يقابل بالارتياح من جانب الدول الاخرى. ورغم ان الدول الثلاث ليست متفقة في
كل شيء الا ان الاحداث وحدت فيما بينها، وهناك قائمة من المهام التي لا يمكن القيام
بها، بدون اتفاق تلك الدول. خصوصا بعد توسيع عضوية الاتحاد الاوروبى في اول شهر
مايو المقبل، حيث سيرتفع عدد دول الاتحاد من15 الى25 دولة.
وهو اذ يذكر بان التجانس بين الدول
العربية افضل منه بكثير في الحالة الاوروبية، ويشدد على ضرورة القيام بعمل عربي
مشترك لمواجهة التحديات التي تواجه الأمة، فانه تحدث عن تشكيل قيادة ثلاثية للعالم
العربي تضم مصر والسعودية وسوريا"تكون بمثابة محور تنضم اليه بقية الدول، وتكون
مهمته اتخاذ القرارات السياسية وتطبيق الاصلاحات". واشار الى انه في ظروف العجز
العربي الراهن فان وجود تلك القيادة يكتسب اهمية خاصة. لكنه شكك في امكانية تنفيذ
الاقتراح "لان العرب غير مستعدين لاحتذاء النموذج الاوروبى".
من جانبى اشاركه الشك في امكانية تنفيذ
الاقتراح لسبب اهم من الذى ذكره. ذلك ان العرب حتى اذا كانوا مستعدين للقبول بفكرة
القيادة الثلاثية. فان الولايات المتحدة لن تسمح بها بسهولة، باعتبار ان التشتت
والتشرذم العربيين هو اكثر ما يخدم مصالحها هي واسرائيل. واى مشتغل بالشأن السياسى
يعرف جيدا ان ثمة اصرارا امريكيا على عدم التعامل مع العرب كأمة واحدة. آية ذلك انه
في المحادثات التي دارت حول القضية الفلسطينية جرى استبعاد الجامعة العربية، كما
نقل الامريكيون الى العرب رسالة صريحة تقول إنهم غير مستعدين لان يسمعوا كلاما باسم
الدول العربية، ولكن على كل دولة ان تتحدث عن نفسها فقط. ولن نذهب بعيدا، فقد رأينا
ان الامريكيين دخلوا الى العراق وشكلوا مجلس الحكم فيه من باب التفتيت العرقى
والمذهبى، ووجدنا في القانون الاساسى المعلن ان هوية العراق العربية تراجعت بصورة
نسبية.كما لا تفوتك ملاحظة ان موضوع الهوية هذا تراجع في ثنايا مشروع الشرق الاوسط
الكبير، الذى كان لابد ان تنزع عنه الهوية العربية والاسلامية، لكى تحتل اسرائيل
موقعها في قلبه ان لم يكن في قيادته.
إن الولايات المتحدة خصوصا بعد انهيار
الاتحاد السوفيتى لا يسعدها توحد اوروبا، وقد حاول وزير دفاعها في العام الماضى ان
يشق صفها اثناء الاعداد لغزو العراق، فتحدث عن اوروبا القديمة وتلك الجديدة. وثمة
تعارض مكتوم يظهر بين الحين والآخر بين مصالح الجانبين على الصعيد الاقتصادى بوجه
اخص. ومع ذلك فانها قد تحصل بعض الفوائد من اوروبا، على الاقل في الشق المتعلق بدور
حلف الاطلنطى. ولئن حدث ذلك مع اوروبا فما بالك به مع العالم العربي، حيث تدرك
واشنطون وتل ابيب ان اي تنسيق او توحد في العالم العربي يضر بمصالحهما المباشرة.
هذا التحليل إذا صح فانه يطرح على
الجميع سؤالا كبيرا هو : لماذا يتعين علينا ان نسلم بان الموقف الامريكى هو الحاسم
في تحديد المصير العربي؟
- ذلك أن مثل هذا التسليم هو من تجليات
الهزيمة التي ينبغى ان ترفض وتقاوم بكل السبل.
إن عالمنا العربي يواجه مأزقا حادا لا
يحسد عليه . اذ هو "محشور" بين ضغوط امريكية متزايدة من الخارج، والتفاف حول
الديمقراطية وتخل عن اسباب العافية والمقاومة في الداخل. والمشكلة انه في سباق
البقاء في مجرى التاريخ، لم يعد هناك وقت للمماحكة او التسويف ،كما انه لم يعد هناك
خيار. واذا جاز لى ان استعير ما قاله في هذا الصدد الرئيس اليمنى على عبدالله صالح،
من اننا اذا لم نبادر الى حلق رؤوسنا بأيدينا فاننا نسوغ للآخرين ان يتقدموا هم لكى
يحلقوها. ومن جانبي أضيف اننا اذا حلقناها ونحن واقفون، فانهم لن يفعلوها معنا الا
ونحن منبطحون.
تطورات
خليجية تطرق أبواب التاريخ
التطورات التي تحدث في منطقة الخليج يبعث أكثرها على
التفاؤل بالمستقبل، على العكس من مناطق أخرى في العالم العربي ما زال بعضها
متردداً في ولوج المستقبل والانخراط في مسار التاريخ، إذ فضلا عن التجربة
الديمقراطية الحية واللافتة للنظر في الكويت، فان ما جرى في البحرين مؤخراً يعد
قفزة كبيرة الى الأمام بكل المقاييس، وأكثر ما يعنيني في ذلك الذي جرى هو الشق
المتعلق بالحريات، التي أزعم ان غيابها عن أقطار عديدة في العالم العربي يعد
وصمة، لا سبيل الى النهوض بغير إزالتها.
لم يستوقفني كثيراً انتقال البحرين من نظام الامارة الى النظام الملكي، فقد
علمتنا خبرات السنين ان العبرة في أي نظام سياسي ليست باسمه ولا شعاراته، وإنما
هي بقيمه ومواقفه، فالملكيات فيها الصالح والطالح، والجمهوريات تبين أنها أسوأ
حالاً منها، خصوصاً تلك التي احتكرت الثورية والتقدمية، فكتمت أنفاس الناس، وأذلت
العباد وأشاعت في الأرض الفساد، أما الجمهوريات التي أرادت أن تذهب الى أبعد،
فوصفت بأنها «عظمى»، فانها لم تقدم شيئاً يذكر خارج إطار اللافتات، ولم يشعر أحد
بأن فرقاً بينها حين كانت جمهورية فقط، وبين حالها بعد صدور قرار الترفيع
وتحويلها الى عظمى.
لقد تحولت البحرين الى ملكية دستورية، الأمر الذي جعل للقول معنى، رغم ان تجربة
الكويت أثبتت انه من الممكن أعمال الدستور والالتزام به، والانخراط في المسار
الديمقراطي دون حاجة الى تغيير شكل النظام السياسي، مع ذلك فقد وجدت ان ما جرى
كان بمثابة نقلة مهمة على طريق إرساء أسس الديمقراطية وضمانات الحريات.
لقد أيَّد 98.4 في المائة من السكان الاصلاحات السياسية الهامة التي تبناها أمير
البحرين الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة، والتي أدت الى اطلاق كافة المسجونين
السياسيين، الأمر الذي ترتب عليه خلو السجون البحرينية من أولئك المسجونين، لأول
مرة في تاريخها، واستصحب ذلك عودة المبعدين والمعارضين من الخارج، كما ألغى قانون
أمن الدولة ومحاكم أمن الدولة، وكان ذلك القانون البائس يخول السلطات اعتقال
المشتبه فيهم من المواطنين، والزج بهم في السجون لمدة 3 سنوات بغير محاكمة.
بعد اطلاق الحريات على ذلك النحو، يفترض ان تجري في البلاد انتخابات عامة قبل
نهاية عام 2003، سمح للنساء فيها بحق التصويت والترشيح، ومعلوم ان التجربة
الديمقراطية الكويتية لم تنجح بعد في تحقيق مشاركة النساء في الانتخابات، رغم
الشوط البعيد الذي قطعته.
لقد أشاعت تلك الاصلاحات الجريئة مناخاً جديداً في البحرين، أعاد الحيوية الى
المجتمع بقدر ما أعاد الدماء الى الحوار السياسي الذي انقطع حيناً من الدهر، ولك
ان تتصور تأثير عودة المعارضين واطلاق المسجونين السياسيين، على مستوى الجرأة
التي اصبح يتسم بها ذلك الحوار، خصوصاً ان بعض المشاركين في حلقاته ومنتدياته لم
يكن مسموحاً ذكر اسمائهم في الصحف، إلا كمتهمين صدرت بحقهم أحكام محاكم أمن
الدولة.
النقلة مهمة للغاية، واذا قدر لخطى الاصلاح السياسي ان تستمر على النحو الذي رسمه
الميثاق الوطني، فليس من شك في ان البحرين ستقدم نموذجاً ديمقراطياً جديراً
بالتشجيع والاحترام، فضلا عن الاحتذاء بطبيعة الحال، صحيح ان المرء لا يتوقع ان
يتم التحول على صعيد الواقع بنسبة 180 درجة خلال أمد قصير، وان طموحات من ذلك
القبيل الذي أقره الميثاق تحتاج الى وقت طويل، لان الواقع لا تغيره النصوص، وإنما
هي فقط تفتح الطريق لاحداث ذلك التغيير وتوفر الضمانات لامكانية تحقيقه، مع ذلك،
فبوسعنا أن نقول باطمئنان ان الميثاق كان بمثابة الاشارة الخضراء التي فتحت طريق
التحول، وان الاجراءات التي تلاحقت بعد اقراره أضفت قدراً غير قليل من الصدقية
علي التوجه السياسي المستجد.
خذ أيضاً تلك الحملة المشهودة في دبي الآن ضد الفساد المالي، التي لا تقل أهمية
عن حملة تقويم الفساد السياسي في البحرين، ذلك ان ولي عهد دبي الشيخ محمد بن راشد
المكتوم، كان قد أنشأ قبل ثلاثة أشهر شعبة لمكافحة الفساد في البلاد، بعدما تلقى
معلومات عن ضلوع بعض المسؤولين الحكوميين في عمليات الاختلاس والكسب غير المشروع،
وقد وضعت تلك المعلومات تحت تصرف الشعبة الجديدة التي ظلت تعمل في صمت الى ان
اعلن في التاسع من الشهر الحالي ما سمي بالبيان رقم واحد، الذي اذاع نبأ إلقاء
القبض على ستة أشخاص، ثلاثة منهم مواطنون وثلاثة وافدون باكستانيون، ولم تكن هذه
هي المفاجأة الوحيدة، لان المفاجأة التي لم يتوقعها كثيرون كانت في كون القائمة
تضمنت مدير عام الجمارك والموانئ، وهو أحد المقربين من الشيخ محمد، ويقال انه كان
يلازمه في رحلاته الى الخارج، الأمر الذي طمأنه الى ان قربه من ولي العهد سوف
يبعد عنه الشبهات، وقبل أيام قليلة من اعلان نبأ القبض على مدير الجمارك، كان
الرجل في رحلة مع الشيخ محمد، بينما كانت التحريات والأدلة قد اكتملت، ويبدو ان
المدير أراد أن يحتمي بالشيخ، بينما أراد الشيخ أن يطمئن الى انه لن يهرب الى
الخارج، وما ان وصل ولي العهد الى المطار وهبط من طائرته، حتى أصدر أوامره بإلقاء
القبض على الرجل، وأودع السجن على الفور، حيث بدأت التحقيقات معه، هو وشركائه.
بعد اسبوعين أعلن البيان الثاني الذي فهم من صيغته انه أريد له أن يكون أقرب الى
البيانات العسكرية، باعتبار ان الشيخ أراد أن يعطي انطباعاً للكافة انه بصدد حرب
حقيقية، تتابع فيها البيانات الكاشفة عن الحقيقة، فقد اعلن البيان عن توقيف ستة
من موظفي ادارة الهجرة بالمطار، ونسب إليهم انهم: خانوا الأمانة، وأساءوا استخدام
الثقة التي أولتها الحكومة لهم في توليهم أعمالا تستوجب أن يكونوا أمينين عليها،
بمقتضى ما يفرضه الدين وكرامة الضمير.
وقد حمل البيان رقم 2 كما البيان الأول صور المتهمين مع اسمائهم الثلاثية، فيما
وصف بأنه جزء من مهمة الشعبة في كافة اشكال مكافحة الفساد الاداري في الدوائر
والمؤسسات الحكومية وكشف جميع التفصيلات والملابسات المتعلقة بهذا النوع من
الجرائم، دون محاباة أو مجاملة لأحد مهما كان على حساب الصالح العام ليكون
المجتمع على بينة من أمر هؤلاء الموظفين الفاسدين.
كان واضحاً من البيانين ان ولي عهد دبي أراد أن يبلغ الرأي العام في الامارات
بأمرين، الأول ان الدولة متربصة بالمرتشين وفاسدي الذمم، والثاني انه لا أحد فوق
القانون، وان كل عنصر فاسد، مهما علت مكانته لن يفضح أمره وتكشف حقيقته امام
الناس فحسب، وإنما أيضاً سيطالب برد كل الأموال التي اختلسها أو ضيعها على خزينة
الدولة، وقد رد المتهمون الأموال التي اختلسوها وهي تقدر بحوالي ثلاثة ملايين
دولار اميركي (أكثر من عشرة ملايين درهم اماراتي)، لكن مساءلتهم القانونية استمرت
بعد ذلك.
وبينما الحملة مستمرة، وأصداؤها تتردد في مختلف أرجاء دواوين الحكومة، وصل الى
دبي وفد، يضم مجموعة من ممثلي منظمة العمل الدولية الذين قدموا بهدف استكمال
عملية تقييم حالة دولة الامارات في مجال غسيل الأموال، وكانت هذه المسألة محل
دراسة موسعة خلال السنتين الماضيتين، لم يثبت منها وجود حالات غسيل أموال في دولة
الامارات، رغم ان اللجنة التي درست الموضوع ذكرت ان هناك مبالغ صغيرة ربما كانت
ناتجة عن نشاطات مهربي أو موزعي المخدرات، وهذه ربما يكون قد تم غسلها من خلال
القطاع المالي.
الأجواء السائدة في دبي شجعت صحيفة «البيان» التي تصدر في الامارة ذاتها على
اصدار ملحق ضمن عددها الصادر يوم الجمعة الماضي حول الفساد في العالم، عالج
الظاهرة من مختلف جوانبها، لكن ما لفت النظر فيه ان اساتذة جامعة الامارات
اشتركوا في مناقشة الموضوع وتحليل أسبابه، ومما قاله بعضهم ان الفساد يستشري في
غياب الشفافية التي توفرها الديمقراطية، باعتبار ان مثل ذلك الغياب بما يستصحبه
من غياب رقابة المجتمع، من شأنه ان يهيىء التربة لنمو مختلف مظاهر الفساد المالي
والاداري فضلا عن السياسي بطبيعة الحال.
على صعيد آخر، فرغم ان القرار الذي صدر بمنع 16 من المثقفين الاماراتيين من
الكتابة في الصحف أو اعداد البرامج التلفزيونية، أحدث صدمة في أوساط النخبة، وكان
بمثابة سير في الاتجاه المعاكس لدعوات الاصلاح الاقتصادي والسياسي، إلا ان الأمر
لم يخل من إيجابية، وهي التي تمثلت في استنفار عناصر النخبة الذين تحركوا على
مستويات متعددة للاستنجاد بوزارة الاعلام من أجل التراجع عن هذا الموقف، الذي
مازالت أسبابه محاطة بقدر كبير من الغموض.
لا يستطيع المرء وهو يتابع التحولات المهمة الحاصلة في منطقة الخليج ان يمنع نفسه
من مقارنتها بما يجري في بعض الدول العربية الأخرى، مثل سوريا وتونس، إذ يبدو ان
الطموحات التي تعلق بها كثيرون وراهنوا في الآونة لأخيرة علي امكانية تحقيقها في
سوريا، تراجع مداها إذ يبدو ان القوى الرافضة لتفعيل المجتمع المدني وتنشيط
خلاياه، نجحت في وقف الاندفاعة التي شهدتها سوريا باتجاه تخفيف القيود على حرية
العمل السياسي وحرية التعبير، رغم الانفراج النسبي الذي شهدته البلاد عقب تولي
الرئيس بشار الأسد للسلطة، وأدى الى اطلاق اعداد كبيرة من المعتقلين.
الأمر في تونس أشد وطأة، ففضلا عن سيادة الخطاب الأمني، التي أدت الى مصادرة
الحريات السياسية والتوسع في المحاكمات الاستثنائية ومعاناة أكثر من ألف سجين
سياسي، فقد تم خلال الأسابيع الأخيرة إلغاء المؤتمر الخامس للرابطة التونسية
لحقوق الانسان، التي تعد أقدم منظمة لحقوق الانسان في العالم العربي، وهو ما يعد
حكماً بالاعدام على آخر المعاقل المدافعة عن الحريات العامة في تونس، الأمر الذي
استصحب ملاحقة للعديد من القيادات الوطنية الممثلة في السيد محمد موادة والدكتور
المنصف المرزوقي.
طوبى للسائرين علي درب الاصلاح من صانعي التاريخ، أما الذين يقاومون التاريخ أو
يقنعون بالابقاء على بلادهم خارجه، فقد ينجحون في مسعاهم بعض الوقت، لكنهم
لايستطيعون وقف مسيرته أو اعادة عقارب ساعته الى الوراء.
جماعة طالبان:
ظالمون أم مظلمون؟
طالبان قدموا
نموذجاً لكل ما يجب تجنبه في التطبيق الإسلامي
صحيح أن أهم ما
أنجزته طالبان أنها أعادت الأمن والاستقرار إلى البلاد، وهي مقولة لايشك
فيها أحد أو يجادل، غير أن ذلك الإنجاز لايجوز التباهي به طويلاً، لسبب
جوهري هو أن القبور هي أكثر الأماكن أماناً واستقراراً في العالم، والفرق
بينها وبين مجتمع الأحياء، أن الأمان والاستقرار في القبور هو وضع نهائي
يشكل كل الصورة، بينما هو في المجتمعات البشرية العادية أحد شروط النمو
والتقدم، بمعنى أنه جزء من الصورة أو هو خلفية الصورة.
بعد خمس سنوات من
توفى حركة طالبان للسلطة لم يعد كافياً أن يقال، أنها حققت الأمان فحسب،
حيث ذلك يحسب رصيداً للسنة الأولى وربما الثانية أو حتى الثالثة، أما بعد
ذلك، فثمة سؤال كبير يفرض نفسه هو: ما الذي بنته الحركة على أرضية الأمان
والاستقرار التي أقامتها؟
في الوقت ذاته فإن
أخطر ما فعلته الحركة، من وجهة نظري، إنها أقامت نظاماً اعتبرته نموذجاً
إسلامياً، وصور للعالم بأنه النموذج الذي يسعى المسلمون إلى تحقيقه، وذلك
أكثر ما يعنيني في هذه اللحظة، أدري أنها ليست الوحيدة في ذلك الباب،
فثمة نماذج إسلامية أخرى، يشوبها النقصان بدرجة أو أخرى، لكني أزعم أن
أياً منها لم يعتره ذلك القدر من النقصان الذي تبدى في النموذج الطالباني.
لاتحدثني عن إخلاص
أغلبهم وحسن نيتهم، وغيرتهم على الإسلام، فذلك كله يشفع لهم يوم القيامة
بإذن الله، حسابه يوم الحساب، أما في ميزان الدنيا فلايشفع لهم ذلك
بحال، لقد كان الخوارج من أشد الناس إخلاصاً وتفائياً في الدفاع عما في
العقيدة، ومع ذلك لم يرحمهم التاريخ، وكل ما ارتكبوه من أفعال وخطايا حسب
عليهم وسحب من رصيدهم في ذاكرة الأمة، حتى أصبح المصطلح مسبَّة وتهمة.
إن الدَّبة التي
ألقت بالحجر على وجه صاحبها، في القصة الشهيرة، كي تهش عنه ذبابة
عاكسته، كانت بريئة القصد وحسنة النية لاريب، لكن البراءة حين اقترتب
بالغباء وسوء التقدير، انعدامه في الواقع، أدت إلى هلاك الرجل وقتله،
وقد دفعت أمتنا ثمناً باهظاً وأريقت فيها دماء كثيرة، كما أهدرت فيها قيم
جليلة، على أيدي أولئك النفر من الطيبين المخلصين الذين
((لايفقهون)) ممن لم يدركوا مقاصد الدين وعجزوا عن فهم حقائق
الدنيا.
لايخطر على بالي أن
أقارن تجربة طالبان بسابقيهم من الشيوعيين ومن لف لفهم، فهؤلاء الأخيرون لم
يقيموا عدلاً ولا سلاماً، ولكنهم كانوا صنائع وذيولاً لسادتهم في موسكو،
ولكن أريد أن أدلل على أن إيمان حركة طالبان محسوب لهم وربما أضيف إلى ميزان
حسناتهم، ولكن فشلهم في السياسة والإدارة يدفع ثمنه الناس في نهاية المطاف
ولاينبغي التلويح بحكاية الإيمان والغيرة على الدين للدفاع عنهم أو قبول
ممارساتهم وتبريرها.
لقد احتكرت جماعة
طالبان السلطة، وهي في محاولة استنساخها لشكل الدولة الإسلامية الأولى،
أهدرت الشروط الواجب توافرها في الحاكم، وأهدرت قيمة الشورى كما بينا،
وأسقطت التعددية الثقافية والسياسية في الحسبان، وأخذت من النموذج فكرة
استمرار الخليفة في منصبه مدى الحياة، وقررت أن تبقى في السلطة لغير أجل
محدود، وبغير شريك أو أي ((آخر)) يمثل التوجهات المغايرة الأخرى في
المجتمع، وفي غياب الحريات العامة، مثل حرية التعبير والنشر
والاجتماع.. إلخ، فإنها في حقيقة الأمر أسست نظاماً لايختلف عن
الديكتاتوريات الشيوعية، التي استولى فيها الشيوعيون على السلطة
واحتكروها، وفرضوا على المجتمع عقيدة معينة، وألغوا، سحقوا في
الحقيقة، كل ما عداها.
ليس هذا فحسب،
وإنما هم تصدوا للفتوى بغير علم وألقوا بأنفسهم في غمار السياسة من دون أي
خبرة أو خلفية، وكانت النتيجة أن المجتمع أصيب بالشلل التام ولم يتقدم فيه
أي شيء بعد مضي خمس سنوات، الأمر الذي يثير العديد من الأسئلة عن شرعية
توليهم السلطة، بينما هم يفتقدون إلى المقومات الأساسية لإدارة أي مجتمع،
ناهيك بكونه مجتمعاً إسلامياً له مرجعيته الثقافية وخبرته الحضارية، لقد
عرضوا أنفسهم على المجتمع، من دون أن يتيحوا للناس أي أمل في إمكانية
تغييرهم بطريقة سلمية إذا ما رغبوا في ذلك، وإغلاق باب الأمل على ذلك النحو
له خطورته البالغة، من حيث أنه يقنع الناس بصورة تدريجية بأنه طالما أغلق
باب التغيير السلمي، فلا يبقى أمامهم سوى محاولة إحداث ذلك التغيير بوسائل
أخرى، العنف في مقدمتها.
|