لو أن معلومات القادة العرب عن واقع
الحال في بلادهم بمثل ما عبر عنه العقيد القذافي في تقييمه للمشهد الليبي،
لكان ذلك باعثاً على الخوف الشديد، لأنه يعني ـ عند الحد الأدنى ـ أن ثمة
فجوة هائلة باتت تفصل بين القيادة والقاعدة، وأن تلك القيادة تعيش في عزلة
كاملة عن الواقع، مكتفية فقط بالارسال الى الناس، دون أي استقبال من
جانبهم.
سأحكي القصة من أولها: قبل أن تقترب نهاية العام الماضي، تلقيت دعوة من
قناة «الجزيرة» للمشاركة في سهرة رأس السنة الجديدة، عبر حلقة حوارية
تستعرض أحداث العام وتحاول تقييمها، في محاولة لاستخلاص مؤشرات وآفاق العام
الجديد. وقيل لي إن «السهرة» سوف تتضمن فقرات عدة، بينها حديث للأستاذ محمد
حسنين هيكل حول ما جرى في ذلك العام، وحوار مع الرئيس الليبي العقيد معمر
القذافي. وفهمت أنه سيكون علينا أن نناقش الأفكار التي عبر عنها كل منهما.
وتصادف أنني وقعت في ذلك الوقت على كتاب لم أكن سمعت به من قبل، لسيف
الاسلام م. القذافي (هكذا كتب على الغلاف) ـ جذبني عنوانه الذي كان يتحدث
عن «ليبيا والقرن الواحد والعشرون». وإذ سارعت الى اقتنائه وقراءته، فانني
لاحظت أنه يشير في صفحاته الأولى الى أنه صادر في خريف عام 2002، وأن
الكتاب عبارة عن ترجمة لرسالة قدمها سيف الاسلام القذافي الى جامعة ولاية
كاليفورنيا، لنيل درجة الماجستير في ادارة الأعمال.
وجدت الكتاب (320 صفحة) معنياً بالشأن الاقتصادي وأوضاع السياسة النقدية
ونظام التجارة في ليبيا. ولفت انتباهي فيه ثلاثة أمور هي: أنه همش كثيراً
دور الكتاب الأخضر، ولم يستخدم منه سوى بعض العبارات والعناوين الفضفاضة،
التي يشعر القارئ أنها أضيفت من باب المجاملة. باعتبار أن الكتاب الأخضر
يعد في الخطاب الرسمي الليبي الوثيقة الأساسية للبلاد، التي لا ينبغي أن
يتجاهلها أي منسوب الى النظام في مطبوعة تحمل اسمه. لذلك فان المقدمة
تصدرتها جملة أوردها الكتاب تقول «ان الجهل سينتهي عندما يقدم كل شيء على
حقيقته». وخارج ذلك الاطار يلاحظ القارئ أن «الكتاب الأخضر» اختفى تماماً
في ثنايا الكتاب. ليس فقط بنصوصه، ولكن الاختفاء شمل أيضاً مختلف الأبنية
«الجماهيرية» التي أقامها، مثل المؤتمرات واللجان الشعبية.
الملاحظة الثانية أن الكتاب رسم صورة بائسة لأوضاع الاقتصاد الليبي، بما
انتابه من فوضى وما شابه من ارتجال، وما أصابه من فساد ورشوة واستغلال
للنفوذ، وما أدى اليه من احتكار وسوق سوداء وغير ذلك من الممارسات التي كان
المواطن الليبي ضحيتها في نهاية المطاف. (الأوصاف ليست من عندي ولكنها وردت
بالكتاب) ولأن المقام لا يحتمل التفصيل في معالم تلك الصورة، فانني أكتفي
بجملة واحدة وردت في صفحة 12 تقول ما نصه: فالمحاولات غير الناضجة للتخطيط
الايديولوجي لهذه المبادئ والشعارات (المرفوعة في المجتمع الليبي) أدت الى
خلق الدولة القاهرة بدلاً من دولة الجماهير، والتي استهدفت الأفراد بدل
السياسات (المقصود ممارسات ما سمي بلجان التطهير)... وكنتيجة طبيعية لوجود
هذه الدولة القاهرة تولد عنها مؤسسات افترض أنها وجدت لخدمة الشعب فأصبحت
أكثر وسائل الاستغلال بشاعة، فاقت المؤسسات الرأسمالية في مجتمعات
الاستغلال.
الملاحظة الثالثة أن الكتاب وهو يتحدث عن ليبيا في القرن الواحد والعشرين
يعتبر أن قبلتها الاقتصادية هي أوروبا، لا العالم العربي ولا افريقيا، وقد
عزز هذا التوجه بالجداول والخرائط التي ترسم اسهماً واصلة من العمق
الليبي
الى قلب دول الاتحاد الاوروبي.
هذه هي الخلفية التي حملتها معي حين ذهبت في ليلة رأس السنة الى الدوحة،
ودخلت الى الاستوديو الذي سيشهد اللقاء والحوار. لم أكن وحدي، وانما كنت
ضمن مجموعة على رأسها الدكتور سليم الحص رئيس الوزراء اللبناني الأسبق،
وضمت الدكتور غازي صلاح الدين مستشار الرئيس السوداني السابق، والأستاذ
هاني الخصاونة وزير الاعلام الأردني السابق، والدكتور محمد الركن الأستاذ
بجامعة الامارات.
كانت المجموعة قد استعرضت بعض الأحداث الهامة التي وقعت في عام 2004،
وبينها موضوع التحول في السياسة الليبية نحو الغرب، بدءاً بالاتفاق على دفع
تعويضات سخية الى ضحايا حادث «لوكيربي»، وانتهاء باعلان ليبيا تخليها عن
استعدادات لجأت اليها لانتاج أسلحة الدمار الشامل، وتسليمها كل وثائق
وتجهيزات مشروعها الى الولايات المتحدة. الأمر الذي فتح أبواب ليبيا
للمبعوثين الأمريكيين لأول مرة منذ ثلاثة عقود.
تطرق الحديث في هذه النقطة الى خيارات دول العالم الثالث التي ضاقت بعد
انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة، ومن ثم أدت الى تفرد
الولايات المتحدة بصدارة المشهد الدولي والنظام العالمي. وهو الموقف الذي
ارتأى البعض حله عن طريق الدخول في «بيت الطاعة» الأمريكي، ايثاراً للسلامة
واتقاء للشرور التي يمكن أن تترتب من جراء التمرد على الهيمنة الأمريكية،
التي تصاعدت نبرتها في واشنطون بعد أحداث سبتمبر 2000 مع تقسيم العالم الى
فسطاطين (!)، أبرار يؤيدون واشنطون ويسيرون وراءها، وأشرار يرفضون الامتثال
والانصياع، ويفكرون في التمرد أياً كانت مظاهره. وقد تجلت العين الأمريكية
«الحمراء» في رسائل انذار بعثت بها واشنطون لكل من تسول له نفسه الالتحاق
بجانب الأشرار والمتمردين، من خلال الاجتياح الأمريكي لافغانستان ثم في
احتلال العراق واسقاط نظامه، وتدمير بنية الدولة فيه. ارتأى نفر من
الحاضرين أن المأزق كان شديداً على دول العالم الثالث الرافضة للانصياع،
وأنها باتت مخيرة بين «ركوب الموجة» ومسايرة الولايات المتحدة، أو
مناطحتها. وكانت وجهة النظر التي طرحت في مقابل ذلك تتلخص في أن الأمر
مرهون بمدى شرعية النظم التي تتعرض للضغوط الامريكية. وهل هي مستمدة من رضى
الجماهير واختيارهم الحر، أم إنها تستند الى قوة الجيش وأجهزة الأمن. أو
انها مستمدة من الدعم الخارجي. وكان مما قلته أن خيارات الدول الصغرى ليست
محصورة بين تحدي واشنطون ومناطحتها أو التسليم لها والانبطاح أمامها، ولكن
هناك خياراً ثالثاً يتمثل في نقطة وسط، هي الصمود الذي لا يتحقق الا في ظل
قوة مساندة الجماهير والاعتماد عليها كمصدر للشرعية. ضربت في ذلك مثلاً
بتركيا، التي يفترض أنها حليفة للولايات المتحدة، وعضو في حلف الأطلنطي. اذ
حين طلبت واشنطون من حكومتها أن تسمح لقواتها باستخدام الأراضي التركية،
والدخول منها الى العراق، في اطار خطة الغزو والاحتلال، فانه كان بمقدور
حكومة أنقرة أن تقول لا، وأن ترفض المطلب الأمريكي، الأمر الذي أضطر القوات
الغازية الى استخدام الحدود الجنوبية في زحف قوات المشاة على العراق. وما
كان للحكومة التركية أن تقف ذلك الموقف الا لأنها منتخبة من الجماهير
ومؤيدة منها، ومن ثم فإنها استندت في شرعيتها الى الارادة الشعبية.
لأن الحوار في هذه النقطة انطلق من نقطة التحولات الليبية، فان المناقشة
أثارت تساؤلات وملاحظات عدة حول الشرعية في التجربة الليبية، باعتبار أن
وضعيتها كانت عاملاً مهماً فيما طرأ على السياسة الليبية من تحولات.
لم ننتبه الى أن العقيد القذافي كان متابعاً للحوار منذ بدايته، الا حين
أخبرنا بأنه صار على «الخط»، وأن فقرة الحديث معه قد حلت. واذ بادر مقدما
البرنامج بتوجيه بعض الأسئلة اليه، فانه استهل اجابته باتهام الذين تحدثوا
في الشأن الليبي بالجهل، وقال ان الناقدين للتجربة الليبية يجب أن يزوروها
أولاً، ويطلعوا على الكتاب الأخضر ويستوعبوه جيداً، ثم يبدوا رأيهم بعد
ذلك. وفي تبيانه لهذه النقطة قال انه لا توجد في ليبيا حكومة ولا سلطة،
وانما هناك جماهير تناقش كل شيء في البلاد من خلال تأطيرها في 400 لجنة
شعبية، ثم تصب مناقشاتها أمام المؤتمر الشعبي العام، الذي هو صاحب الكلمة
الأخيرة في البلاد. اذ هو الذي يعين المسؤولين أو يعزلهم ويصدر القوانين أو
يلغيها.
تحدث العقيد أيضاً عن نجاح النظام الجماهيري المطبق في ليبيا، وكونه يمثل
درجة متقدمة في النظم السياسية المتعارف عليها، تجاوزت الملكية والجمهورية
بطرحها لفكرة حكم الشعب المباشر من خلال الجماهير. وقال ان العالم يدخل
الآن عصر «الكتاب الأخضر» الذي بشرت به ليبيا، وأن الولايات المتحدة وغيرها
من الدول الكبرى لو أنها طبقت النظام الجماهيري وسارت على الدرب الذي رسمه
الكتاب الأخضر لصار للبشرية شأن آخر. ثم عاد فأكد مرة ثانية أن الكتاب
الأخضر سيكون عنواناً للمستقبل، لأن الجماهير هي التي ستفرض نفسها في
النهاية.
دافع الأخ العقيد عن السياسة الخارجية الليبية، وقال ان ليبيا لم تذهب الى
أمريكا ولكن أمريكا هي التي جاءت الى طرابلس، وأن النظم الرجعية والظلامية
والديكتاتورية التي حاربتها ليبيا في السنوات الماضية، انخرطت واشنطون في
محاربتها مؤخراً. وأبدى استنكاره لحديث البعض عن الجسور التي جرى مدها مع
واشنطون قائلاً إن ليبيا تنتقد لموقفها ذاك في حين أن دولاً أخرى أقامت
علاقات مع اسرائيل ومسكوت عليها.
تطرق الرئيس الليبي الى أمور أخرى عديدة، حيث قال ان العالم تغيرت خرائطه،
وأنه تجاوز عصر القوميات ودخل عصر الفضاءات الواسعة، الافريقي والآسيوي
والأوروبي والأمريكي واللاتيني. وبنى على ذلك قوله إن فكرة القومية العربية
تجاوزها الزمن، ولم يعد للعروبة معنى في عصر الفضاءات. بل إن العروبة أصبحت
محملة بمفهوم عنصري مستنكر، يتحيز لعرق أو جنس بذاته.
وفي حديثه عن المتغيرات قال ان ليبيا أدركت أن مشروعها لانتاج أسلحة الدمار
لم يعد يخدم أو يناسب التطورات الحاصلة، فتخلت عنه، متأملة أن تتنادى كل
الدول ـ الكبرى بوجه أخص ـ الى تدمير أسلحتها النووية. وأضاف في هذا الصدد
أن الولايات المتحدة كانت في رعب من التسلح الليبي، وأن المسؤولين في
اسرائيل لم يكونوا يذوقون طعم النوم لذات السبب. وقد ابتهج الجميع لما
انتهى اليه قرارنا في هذا الصدد، كما فرحت به بعض الدول العربية أيضاً.
في صدد حديثه عن المتغيرات والمبادرات الليبية شرح موقف الجماهيرية في
مسألة التقويم في السنة العربية، وكيف انه ينبغي أن يبدأ التقويم بوفاة
الرسول عليه الصلاة والسلام (وهو ما فعلته ليبيا) بدلاً من هجرته عليه
السلام، كما هو سائد في العالم العربي والاسلامي. ولم يفته في نهاية حديثه
أن يلفت الانتباه الى أن أفكاره وآراءه في مسيرة العالم وحركة التاريخ
معروضة في موقعه الخاص على شبكة الانترنت، الذي أعلن عن عنوانه لكي يتابعه
من يهمه الأمر.
وهو يتحدث عن الكتاب الأخضر وعصره القادم والنجاحات التي حققتها الجماهيرية
في تكريس حكم الشعب، كانت تتراءى أمام عيني فصول كتاب ابنه سيف الاسلام
ونقده المر لسياسة ادارة الاقتصاد الليبي ولنظام «الدولة القاهرة» الذي حكم
البلاد في ظل ما سمي بالجماهيرية. لم استغرب كثيراً اللغة الخشنة التي
خاطبنا بها العقيد القذافي، حين بادر الى اتهامنا «بالجهل»، لانه اعتاد أن
يخاطب مستمعيه بتلك اللغة، خصوصاً اذا كانوا من المثقفين. ولا أخفي أن هذا
الأسلوب تحديداً وراء اعتذاري المتكرر خلال السنوات السبع الأخيرة عن عدم
الذهاب الى ليبيا والمشاركة في أية ملتقيات فكرية أو ثقافية تقام هناك،
لأنه في كل مرة كان يرتب للمشاركين لقاء مع العقيد، لم يكن يخلو من التقريع
والاهانة لهم، على نحو يجعلهم في حرج كبير، حيث يصعب عليهم ابتلاع الاهانة،
في حين لا يتاح لهم أن يردوها.
لم يكن ذلك أكثر ما أثار الدهشة، لأن حديثه عن التجربة الليبية كان غير
قابل للتصديق، اذ جاء دالاً على أن الزعيم الليبي يعيش في عزلة كاملة عن
واقع بلاده وعن العالم، وأن صورة الواقع الليبي معكوسة لديه تماماً، بل انه
لا يرى شيئاً من حوله على الاطلاق، وانما كل بصره متجه نحو ذاته وأحلامه
الخاصة. ولست واثقاً من أنه اطلع على ما كتبه ابنه سيف الاسلام عن
اقتصاديات الجماهيرية، لأنه لو فعل ذلك لتحدث ببعض التحفظ عن «الانجازات»
التي حققها عصر الكتاب الأخضر في ليبيا.
من المفارقات أن العقيد في حديثه عن تحولات العالم وتجاوز عصر القوميات، لم
يخطر له أن الكتاب الأخضر الذي صدر قبل ثلاثين عاماً قد تم تجاوزه أيضاً،
ولكنه تعامل معه باعتباره من «الثوابت» التي تتغير الدنيا من حولها، لكن
عوامل التغير لا تمسها.
حين جاء دوري في الكلام قلت ان بعض ما قاله العقيد يحتاج الى تصويب، والبعض
الآخر يحتاج الى مناقشة. فكلامه عن العنصرية في العروبة غير صحيح، لأن
العروبة كانت منذ نزل الاسلام على الأقل انتماء ثقافياً وليس عرقياً. حيث
اعتبر كل من نطق بالعربية عربياً. وهو ما عبر عنه الحديث النبوي القائل:
ليست العربية منكم بأب وأم، ولكنه اللسان. أما ما يحتاج الى مناقشة فيتعلق
بما سمعناه عن دخول العالم الى عصر الكتاب الأخضر ودعوة الدول الكبرى الى
فكرة «الجماهيرية» احتذاء للنموذج الليبي. في حين أننا في هذا النموذج
وجدنا الأخ العقيد على رأس السلطة منذ 25 عاماً. لم ير خلالها أي دور للقوى
السياسية ولا للجماهير الليبية، ولم نشهد أي شكل من أشكال تداول السلطة.
كما وجدنا أن أعداداً هائلة من المثقفين والمهنيين الليبيين هاجرت من
البلاد واستقرت في الخارج. قلت للرئيس الليبي بعد ذلك انه بعد تصالحه مع
الولايات المتحدة، فان لنا ان نسأل: متى يمكن أن يتصالح مع الشعب الليبي؟
بدأ رد العقيد القذافي باتهامي بالجهل، بعد أن عمم الاتهام على الجميع في
مستهل حديثه، وقال انني لا أعرف شيئاً عن ليبيا ولم أقرأ الكتاب الأخضر.
وكرر مطالبته لي ولأمثالي بزيارة ليبيا والتعرف على واقعها قبل الحديث
عنها. واذ خاطبني مرتين بقوله «يا بني»، فانه أشار الى انه قرأ بعض مقالاتي
وأعجب بها، ولكني خيبت ظنه حين تحدثت عن ليبيا.
تأدباً واحتشاماً، لم أشأ أن أخبره بما قرأته في كتاب ابنه سيف الاسلام،
تجنباً لأي احراج أمام المشاهدين، ولكنني ذكرته بأنني أكبر منه سناً (بخمس
سنوات)، مقدراً انه أكبر مني مقاماً. وقلت انني قرأت الكتاب الأخضر ثلاث
مرات قبل سنوات خلت. ومن معرفتي بليبيا أدركت أن الكتاب يتحدث عن عناوين
وشعارات لا أثر لها ولا وجود على أرض الواقع. وانتقل الحوار بعد ذلك الى
غيري، حيث استمع العقيد الى بعض الملاحظات الأخرى القيمة التي عبرت عنها
الشخصيات الأخرى. ومن أسف أننا افتقدنا الدكتور سليم الحص في هذا الجزء،
لأنه غادرنا للوفاء بارتباط آخر.
برغم أي اختلاف حول تقييم التجربة فان المرء لا بد أن يسجل للعقيد القذافي
جرأته في المصارحة والتعبير عن نفسه وأفكاره أياً كانت، وفي الوقت ذاته فان
المرء يستطيع أن يتفهم بعض المواقف الليبية، حتى وان لم يتفق مع نتائجها،
سواء تلك التي تتعلق بعشق العقيد للوحدة، أي وحدة، أو شعوره بالمرارة ازاء
تخلي الدول العربية عنه خلال سنوات الحصار، وشعوره بالقلق في أعقاب احتلال
العراق وتدميره واسقاط نظامه بالقوة، الأمر الذي أحسب أنه كان عنصراً مهماً
فيما طرأ على السياسة الليبية من تحولات في العام الماضي. ولست أشك في أن
الأخ العقيد لو أتيح له أن يسمع صوت الشعب الليبي الحقيقي، لا زمرة
المهللين أو المنافقين، ولو أنه استمع جيداً لملاحظات المخلصين والغيورين
على ليبيا وشعبها حول حصاد التجربة «الجماهيرية» ومآل تطبيقات الكتاب
الأخضر، لو حدث شيء من ذلك، لدفعته جرأته المعهودة الى مراجعة كل ما يقوله
في هذا الصدد، ولكانت تلك بداية المصالحة المنشودة مع الشعب اللبيي الصابر
والمتشوق الى تلك اللحظة التاريخية الفاصلة.