أصعب اسئلة الساعة هو
السؤال ما العمل؟- ذلك بأن ثمة شعورا عربيا عاما برفض الواقع وانسداد
افق المستقبل، الامر الذى يثير رغبة عارمة فى التغيير. لكن الاشكال هنا
انه لا التغيير بالعنف صار مقبولا، ولا التغيير السلمى بات ممكنا، وهو ما
يوقع كثيرين فى دوامة الحيرة، ويسوغ الالحاح على السؤال الذى لا أملك
اجابة شافيه له. (1)
فى زيارة سابقة للجزائر قيل
لى ان سيدة عجوزاً قالت ذات مرة لبعض اقاربها الذين شاركوا فى حرب
التحرير ان الاحتلال الفرنسى استمر 130 عاما وكانت له نهاية، وهذا
الاستقلال الذى اتيتم به متى سينتهى؟
لا اعرف ان كانت المرأة تمزح
ام انها كانت تعنى ما تقول،وكلامها كان جادا، والاحتمال الاخير هو عندى
اقرب، لان الطبع الجزائرى الذى اعرفه على الاقل، ليس له فى المزاح باع
كبير- ايا كان الامر فالرسالة فى كلام العجوز الجزائرية واضحة، ذلك انها
لم تجد تغيراً ملحوظا بين هموم الاحتلال وهموم ما بعد الاستقلال. واحسب
ان ذلك امر لا تنفرد به تلك السيدة. ولكنه شعور عام سائد فى الكثير من
اقطار العالم الثالث، التى خضعت للاحتلال الاجنبى حينا من الدهر. ثم نالت
استقلالها بعد ذلك،فوقعت فى قبضة سلطة قاهرة اخرى كانت بمثابة "احتلال
وطنى".
شاعت خيبة الامل هذه فى
افريقيا قبل اربع سنوات، حتى إن أحد كبار الكتاب الكينيين- الدكتور على
مزروعى- كتب مقالا دعا فيه الى العودة لوضع الدول الافريقية تحت الوصاية،
لإنقاذ ما يمكن انقاذه من ثرواتها وشعوبها، التى تعرضت للنهب والقمع من
جانب النخب التى احتكرت السلطة واستأثرت بالثروة بعد الاستقلال. وهو
الاقتراح الذى اثار جدلا واسعا فى حينه، وفتح الباب لتقديم اقتراحات اخرى
تحقق الانقاذ المنشود، فاقترح احد الكتاب الامريكيين تأجير القارة للدول
الغربية الراغبة. وقال آخر ان عودة الاستعمار للقارة مرة اخرى هو الحل.
وكان القاسم المشترك بين تلك المقترحات يتمثل فى اليأس من الحكم الوطنى،
والبحث عن بديل من خارج حدود الوطن.
هذا الحوار المدهش، الذى
يتجاوز قدرة العقل على التصديق والاستيعاب، له نظير يدور الآن فى العالم
العربى للأسف. وقد تابع كثيرون نموذجا له على شاشة قناة "الجزيرة"
(برنامج الاتجاه المعاكس- 5/13) حيث وجدنا من دافع عن عودة الاحتلال ورحب
"بالخلاص" الذى يأتى على يديه- كما ان الذين يتابعون خطاب جماعات
المعارضة العربية لبعض الانظمة الذى تبثه عبر مواقعها على شبكة
"الانترنت" يجدون الآن صدى قوياً لذلك الحوار. بل ان البعض لم يعد يسأل
هل يجئ المحتل الامريكى ام لا، ولكنهم باتوا يرفعون اصواتهم بالسؤال: متى
يجيئون ويخلصونا من عذاباتنا التى لا ترى لها نهاية؟
قل ما شئت فى حق الذين يتبنون ذلك الطرح الذى يصدم الحس
الوطنى ويهينه، لكنك لن تستطيع ان تنكر امورا ثلاثة، الاول انه يجسد
اجواء الانكسار والهزيمة المخيمة على العالم العربى. والثانى ان دعاة
الترحيب بالاحتلال ليسوا كلهم عناصر "حزب امريكا" الذين تغلغلوا فى
منابر الاعلام العربى، وانما اغلبهم من اليائسين المحبطين، الذين ضاقت
بهم السبل، حتى اصبحوا مستعدين للاستعانة "بالشيطان" اذا اتى لهم
بالخلاص المنشود. اما الامر الثالث فهو ان الاحتلال نجح فى الاطاحة
بنظام جبار ومستبد اذل شعب العراق ومرغ كرامته فى الاوحال لاكثر من
ثلاثة عقود. وهو النجاح الذى احيا امل اليائسين، وشجع آخرين على
المراهنة عليه فى بلوغ مرادهم. سألتقط الخيط من النقطة الاخيرة،
لاعتقادى انها ضللت كثيرين واغوتهم. كما انها صارت ورقة مهمة وحجة قوية
فى تزيين الاحتلال وتسويغه. وعديدة هى الكتابات والحوارات التى ارتفع
فيها صوت البعض قائلين: هل كان يمكن اسقاط نظام بغداد وتحرير العراقيين
من قبضته الوحشية لولا التدخل الامريكى؟
الاجابة على السؤال بالنفى معروفة سلفا. لكن ذلك لا
ينهى المناقشة، لانه فى تحرير المشهد يتعين التفرقة بين الاهداف
المرحلية والاهداف النهائية، والاهداف الظاهرة والاجندة الخفية.
والقياس الذى يطمئن الى نتيجته ليس ذلك الذى يقف عند الاهداف المرحلية
او الظاهرة، وانما هو الذى يتحرى الاهداف النهائية والاجندة الخفية.
فثمة التقاء لا ينكر فى الهدف المرحلى الذى اسقط النظام البعثى ومن ثم
اطلق حريات الناس،لكن السؤال، الاهم هو هل هذا الذى حدث وسيلة وهدف
مرحلى، ام هو غاية وهدف اخير. وهل تلك نهاية المطاف ام ان وراء الاكمة
ما وراءها؟
حتى أقرب الفكرة فاننى اذكر بان الحملة الفرنسية على
مصر فى آخر القرن الثامن عشر اعلنت فى الظاهر انها جاءت لتخلص المصريين
من عسف المماليك. وتحدث البعض عن دورها "التنويرى"، استنادا الى ان
الفرنسيين ادخلوا المطبعة الى مصر وقتذاك. ورغم ان مسألة عسف المماليك
كانت صحيحة، الا انها كانت الذريعة التى احتج بها نابليون فى المنشورات
التى وزعها على المصريين، فى حين ان هدفه الحقيقى الذى تحدثت عنه
المراجع الفرنسية ذاتها كان توسيع نفوذ بلاده وقطع الطريق على
الامبراطورية البريطانية التى كانت قد ثبتت اقدامها فى الهند. وصحيح
ايضا ان الفرنسيين جاؤوا بالمطبعة الى مصر، الا ان مسألة التنوير لم
تخطر على بالهم، كما انهم لم يفكروا فى استخدامها لصالح اى دور ثقافى
او رسالى كما تروج عناصر "حزب فرنسا". اذ الحقيقة انهم جاؤوا بالمطبعة
لطباعة منشوراتهم التى خاطبوا من خلالها المصريين، وحين عزموا على
الرحيل بعد مضى ثلاث سنوات، فانهم ادركوا ان المطبعة ادت وظيفتها،
فأخذوها معهم عند خروجهم.
ما اريد ان اقوله ان اسقاط النظام العراقى كان مجرد هدف
مرحلى التقت عنده مصلحة الشعب العراقى مع المصلحة الامريكية، لكن الامر
اختلف تماما بمجرد سقوط النظام، ففى حين اعتبره العراقيون غاية تطلعوا
اليها، فان الامريكيين تعاملوا مع السقوط باعتباره وسيلة لتحقيق اهداف
أبعد، تتعلق بالتطلعات الامبراطورية والاطماع النفطية التى تداخلت معها
المصلحة الاسرائيلية.
ولست اتردد فى القول ان ما تحقق من مصالح للعراقيين
بسقوط النظام، لا يختلف عن المطبعة التى جاء بها الفرنسيون الى مصر، او
الطرق التى مهدوها فى الجزائر، وخطوط السكك الحديدية التى مدها
الانجليز فى بعض مستعمراتهم. فتلك امور اريد بها خدمة الاحتلال، وتسهيل
انتقال قواته عبر البلاد. واذا ما افادت الناس بصورة او اخرى، فلا
ينبغى ان يتم التعامل معها بحسبانها فضائل للاحتلال. وانما من المهم
للغاية ان توضع فى اطارها الصحيح بحسبانها "اعراضا جانبية" لم تكن
مقصودة ولا مستهدفة، وانما نتجت عن وجود الاحتلال، الذى لم يمانع فى
استثمارها ومحاولة التجمل بها، كى يستر عوراته ويصرف الانتباه عن
مقاصده الحقيقية واجندته الخفية.
حسم مجلس الامن يوم الخميس الماضى 5/22 الجدل السقيم
الذى دار فى بعض الدوائر العربية حول ما اذا كان الامريكيون فى العراق
محتلين ام محررين. واحرجت الولايات المتحدة ابواقها العربية حين طلبت
من مجلس الامن رسميا اعتبارها (ومعها بريطانيا) قوة احتلال فى العراق.
الامر الذى وضعنا امام مفارقة مضحكة ومخجلة فى آن. فواشنطن قالت صراحة
انها جاءت كقوة احتلال، بينما ابواقها فى بلادنا مازالت تقسم بأغلظ
الايمان على انها قوة عتق وتحرير.
وهو مصادفة لا ريب، انه قبل يوم واحد من اعلان تقنين
الاحتلال الامريكى للعراق، واسقاط القناع الزائف الذى تم تجميل الغزو
به، عممت صحيفة "واشنطن بوست" تحليلا نسف ادعاء الدفاع عن الديمقراطية
فى الاداء الامريكى، وهو الامل الذى راهن عليه البعض، وظنوه سبيلا الى
الخلاص من معاناتهم فى بعض الدول العربية.
التحليل كتبه توماس كارو تيرز مدير مشروع الديمقراطية
وحكم القانون بمؤسسة كارنيجي الامريكية (نشرته الشرق الاوسط فى 5/11).
وفيه ركز على ان واشنطن ليست معنية بمسألة الديمقراطية الا بالقدر الذى
يخدم سياساتها ومصالحها الامنية. وعلاقاتها الآن وطيدة ومشهودة مع
العديد من الدول غير الديمقراطية. وفى حالة النموذج الاستبدادى الفج
القائم فى اوزبكستان التى اصبحت حليفاً لامريكا فى وسط آسيا، فان غاية
ما فعلته واشنطن انها وجهت انتقادا هادئا خفيفا للوضع السائد هناك
(لمجرد ذر الرماد فى العيون) للحفاظ على مصالحها الامنية فى المنطقة،
وقد كافأت سنغافورة وسارعت الى توقيع اتفاقية تجارية معها لانها ايدت
واشنطن فى غزو العراق. ولكنها تجاهلت تشيلى وادارت لها ظهرها، وهى التى
انتظرت طويلا توقيع تلك الاتفاقية معها. ورغم ان تشيلى دولة ديمقراطية.
الا ان واشنطن ارادت ان تعاقبها لانها لم تؤيدها فى مجلس الامن. وكافأت
واشنطن دولة مثل اندونيسيا وقفت ضد ارادة شعبها وايدت غزو العراق، فى
حين انزلت عقوبتها بدولة ديمقراطية مثل تشيلى، لانها احترمت ارادة
شعبها ولم تؤيد الغزو. وهى تعلم جيدا ان ثمة تجربة ديمقراطية مهمة فى
ذلك البلد الكائن فى اقليم يسوده الاضطراب مثل امريكا اللاتينية، حيث
تحتاج الديمقراطية الى سند امريكى واضح.
بشكل مواز فان نائب وزير الدفاع الامريكى بول وولفوفيتز
الذى زار أنقرة مؤخرا انتقد الحكومة التركية لعدم مساندتها للولايات
المتحدة فى الغزو، وهى التى لم تفعل ذلك الا لانها حكومة ديمقراطية
استجابت لضغوط الشعب التركى القوية المعارضة للحرب. ليس ذلك فحسب،
وانما اعرب وولفوفيتز عن أسفه لأن العسكريين الاتراك "لم يلعبوا دورا
قياديا كان متوقعا منهم فى هذه القضية"- وهى الاشارة التى فهمت
بحسبانها تحريضاً وعتابا للعسكر، لانهم لم يقوموا "بالواجب" فى ذلك
الطرف. وهو كلام ليس له فى الخبرة التركية الا ترجمة واحدة هى انه دعوة
للانقلاب على
الديمقراطية.
|