في البداية لم آخذ على
محمل الجد التصريحات الاميركية التي تحدثت عن حرب طويلة الامد ضد
“الارهاب”، قد تستمر عشرة أ عوام او عشرين عاما. وكان ظني ان هدف الحرب هو
تصفية الجماعات الارهابية وتفكيك شبكاتها، التي ذكرت مصادر الاستخبارات
الغربية انها مبعثرة في أنحاء مختلفة من العالم. غير ان التقارير التي
تتابعت في وقت لاحق أقنعتني بأنني اخطأت التقدير، وان الجبهة التي قررت
واشنطن ان تخوض حربها المفترضة عليها اوسع بكثير مما ظننت. وحين أدركت ذلك.
اعتبرت خطأي هينا بالمقارنة، لأن الاميركيين ارتكبوا ما هو أفدح، حيث
اعلنوا حربهم على الجبهة الغلط!
1
ألفت النظر ابتداء الى ان
التقارير الصحافية لم ترسم الصورة كاملة، لكنها نقلت الينا الجانب من
الصورة الذي أمكن رصده والتقاط قسماته. وعلى رغم محدوديته النسبية فانه يظل
كاشفا عن الكيفية التي فكر بها الاميركيون في الأمر. ففي يوم 8/12 نشرت
صحيفة “ذي نيوز” الباكستانية انه وضعت في مطار كراتشي كاميرات فيديو مربوطة
بمكتب التحقيقات الفيدرالي في الولايات المتحدة، لكي تمكن السلطات
الاميركية من مراقبة الحركة في المطار، والتعرف على الاشخاص الذين
تلاحقهم.
هذه الكاميرات نصبت في ممرات المطار وقاعات الاقلاع. وبواسطة نظام خاص
للأقمار الصناعية، فان جميع صور الركاب تنقل مباشرة من كراتشي الى الولايات
المتحدة، حيث يقارنها مكتب التحقيقات الفيدرالي (اف. بي. آي) مع بنوك
المعلومات لديه خلال ثوان او دقائق معدودة. وفي ضوء تلك المقارنة يمكن ان
يعد المسافر مشتبها به ويحتجز قبل صعود الطائرة، وهو ما يسري بذات القدر
على القادمين، بحيث يمكن ان يشك في أي قادم ويحتجز قبل مغادرته المطار.
قالت الصحيفة الباكستانية ان اشخاصا عدة اوقفوا في المطار بفضل ذلك النظام،
ومنهم مسافر كان قادما من توربات (في الجنوب الغربي، عند الحدود بين
باكستان وإيران). وبمجرد وصوله الى كراتشي، تم التحفظ عليه، واقتيد في
شاحنة صغيرة الى مكان مجهول.
في هذا النموذج كشفت صحيفة “ذي نيوز” عن أمر لم يكن معلوما من قبل، وذلك
النظام الذي طبق في ميناء جوي يظن ان العناصر المطلوبة يمكن ان تمر به، لا
يستبعد تعميمه على مطارات اخرى، وثمة شائعات سمعتها عن وجود شيء من هذا
القبيل على الاقل في مطار صنعاء وميناء عدن، وفي مطار مقديشيو بالصومال،
وهي مواقع يظن انها تمثل معابر للمشتبه فيهم من جانب السلطات الاميركية.
في ظل هذه الاجواء لم يعد السؤال عن حدود السيادة واردا. اذ منذ أعلنت
واشنطن حربها الكونية ضد الارهاب (الذي يهدد مصالحها فقط)، وحذرت الجميع من
ان الذين لن يقفوا معها فانهم سيعتبرون منضمين الى معسكر الارهاب، منذئذ
أصبح السماح بدخول أي شخص مطلوب اميركيا الى اي بلد في العالم، بمثابة
“ايواء للارهاب”، يعرض المتصدي له لما لا يتمناه او يحمد عقباه!
2
لأن باكستان بلد مفتوح نسبيا،
فقد تسربت الى الصحافة أنباء اخرى عن دور قررت الولايات المتحدة ان تمارسه
للرقابة على التعليم الديني. بحيث تشمل تلك الرقابة الاساتذة والطلاب
ومناهج التعليم ونوعية الكتب التي تدرس للطلاب. وواضح من ذلك الدور ان
واشنطن قررت ان تدس أنفها وتتدخل في صلب العملية التعليمية، خصوصا في الشق
المتعلق بالثقافة الاسلامية وتشكيل الادراك الديني.
على مدى يومي 9 و10 من شهر (كانون الاول)/ ديسمبر الحالي نشرت بعض الصحف
العربية معلومات في هذا الصدد من أهمها ما يأتي:
- ان السلطات الباكستانية ستقيم بواسطة أموال اميركية بنك معلومات حول طلاب
المدارس القرآنية (التي تخرج منها شباب طالبان) يعمل على تأمين معلومات
أساسية عن كل طالب ومدرس ملتحق بها.
- ستدفع الولايات المتحدة مبلغا اجماليا بقيمة 100 مليون دولار الى باكستان
لإطلاق برنامج رقابة على تلك المدارس التي يقدر عددها بسبعة آلاف مدرسة،
تضم الآن ما بين ثلاثة أرباع مليون ومليون طالب.
- ستكون من أهداف البرنامج الذي تشرف عليه وزارتا الداخلية والشؤون الدينية
الرقابة على منشورات تلك المدارس ودور النشر التابعة لها. ويقضي البرنامج
بتشكيل خلية خاصة من أجهزة الاستخبارات الباكستانية تدرب اشخاصا للتسلل الى
المدارس ورصد كل ما يجري في داخلها.
- من المتفق عليه ايضا ان يوجه جزء من المبلغ المقدم من الولايات المتحدة
الى إدخال مواد دراسية جديدة في تلك المدارس التي لم تكن تدرّس سوى القرآن
الكريم. وسيكون على المدرسين ان يوافقوا على الخضوع لدورات تدريبية لمتابعة
البرامج الجديدة والذين يرفضون ذلك سيفصلون من وظائفهم.
- على نحو تدريجي سيتم إدماج المدارس القرآنية مع المدارس الاخرى
(المدنية)، وإخضاعها بالتالي للإشراف الرسمي المباشر، وسيصدر في هذا الصدد
قانون يسجل كل مدرسة لدى الجهات الرسمية. وتتضمن شروط تسجيل المدرسة ان
تقوم بإغلاق جميع مصادر التمويل الخاصة بها المحلية والاجنبية، اذ المعروف
ان المدارس القرآنية كانت تعتمد على تبرعات الخيّرين، وانها تتكفل بإعاشة
تلاميذها، الامر الذي جذب إليها أعدادا كبيرة من الفقراء، الذين لا تتوافر
لهم فرص التعليم في المدارس الحكومية.
3
ليس دقيقا ان ذلك كله مقصور
على باكستان بسبب دور تلك المدارس في تفريخ الشباب الذين انضووا تحت لواء
حركة طالبان، لكن تلك سياسة عامة اتبعتها الولايات المتحدة في العديد من
الدول الاخرى، ولها هدف واحد هو إحكام السيطرة على منافذ الادراك العام في
العالم العربي والاسلامي.
اليك طائفة من الاخبار التي عكست ذلك التوجه، ونشرتها الصحف خلال الاسبوعين
الاخيرين:
- في 8/12 بدأ وفد اميركي ضم عشرة مسؤولين من وزارتي الخزانة والخارجية
ومجلس الامن القومي لقاءات في الرياض مع عدد من المسؤولين السعوديين للتعرف
على الجهود التي تبذلها المملكة في التصدي للارهاب. ونشرت “الحياة”
اللندنية تصريحا على لسان مصدر سعودي قال فيه ان المملكة وافقت على استقبال
الوفد الاميركي في إطار الحوار بين البلدين حول سبل مكافحة الارهاب، وانها
عرضت على الوفد الاجراءات المتخذة في مراقبة أموال التبرعات التي تقدمها
الجمعيات الخيرية السعودية للمسلمين أفرادا وجمعيات في الخارج (عدد تلك
الجمعيات 231 تجمع تبرعات سنوية بما يعادل 265 مليون دولار).
على صعيد آخر: ذكرت مصادر سعودية ان وزارة التربية والتعليم تجري الآن
عملية مراجعة وتنقيح للكتب الدراسية التي تتعلق بالثقافة الاسلامية، بهدف
التثبت من توافقها مع التوجه العام الذي يهدف الى التصدي لمختلف اشكال
التطرف والارهاب.
- في 6/12 ذكرت صحيفة “القدس العربي” ان وزير العدل والشؤون الاسلامية
بدولة الامارات، الشيخ محمد بن نخيره الظاهري، قال في محاضرة ألقاها في
“مركز زايد للتنسيق والمتابعة”، انه بعد حوادث 11 سبتمبر/ ايلول اتخذت
الوزارة اجراءات هدفها توحيد الخطب في المساجد وفرض الرقابة عليها. فقد
بدأت الوزارة توزيع خطب مكتوبة على أئمة المساجد، يجري اعدادها في إطار
رؤية معينة تحددها جهة مسؤولة في الدولة، بحيث تتناول بشكل عام الامور التي
تهم الناس في عباداتهم ودنياهم. فن الوقت ذاته فان الوزارة وضعت ضوابط
وشكلت لجانا تمتحن كل شخص يود ان يلقي محاضرات في المساجد، واذا ما ثبت
نجاحه وأهليته لذلك، تمنحه الوزارة بطاقة او تصريحا ليؤدي تلك المهمة. على
صعيد آخر، فان قيودا فرضت على جمع التبرعات من الناس، للتعرف على مصادر
التمويل، والاوعية والجهات التي تتوجه اليها تلك التبرعات.
- في 14/12 نقلت صحيفة “الشرق الاوسط” على لسان الرئيس اليمني علي عبد الله
صالح قوله في لقاء له مع حشد من علماء البلاد ان قرار الحكومة إلغاء
المعاهد العلمية (الدينية) التي كانت تتبع الحركة الاسلامية، وإخضاعها
لسيطرة وتوجيه الحكومة، جنب اليمن ضربة اميركية في أعقاب هجمات 11 سبتمبر/
أيلول. واضاف انه سافر بنفسه الى واشنطن لكي يوضح الصورة ويجنب اليمن ذلك
الخطر.
- في 17/12 نشرت “الشرق الاوسط” ان البرلمان المغربي سينظر خلال أسابيع
قليلة مشروع قانون “المسطرة الجنائية”. الذي يقونن للمرة الاولى التنصت
والتقاط المكالمات الهاتفية وتسجيلها، ضمن اجراءات اخرى، منها رفع السن
القانوني الجنائي الى 18 سنة عوضا عن 16. وفي وقت لاحق زار المبعوث
الاميركي الى الشرق الاوسط العاصمة المغربية الرباط، حيث ناقش مع المسؤولين
في الحكومة الاجراءات المفترض اتخاذها لمكافحة الارهاب والتصدي للاصولية.
4
تلك مجرد نماذج لما يجري
ترتيبه وما تسرب أمره الى الصحف. وليس من شك في ان هناك آفاقا ومساحات اخرى
لم يسلط عليها الضوء بعد لسبب او آخر. ولان العالم الاسلامي مترامي الاطراف
فاننا لن نبالغ اذا قلنا ان عملية الترتيب تتجاوز الاقطار التي أشرنا
اليها، الامر الذي يسوغ لنا ان نقول ان ما توافر لنا فضلا عن انه يكشف عن
طبيعة واتجاهات الريح التي هبت علينا في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر
(أيلول)، فانه ايضا يمثل الجزء الذي ظهر من جبل الثلج، ونرجو الا يكون ما
خفي منه أعظم.
في التصريحات الغربية ما يساعدنا على ان نفهم المراد بالضبط، حيث لم يعد في
الامر سر. ففي بداية الشهر الحالي نصح رئيس الوزراء البريطاني توني بلير
الزعماء والمسؤولين في الدول الاسلامية بأن يعملوا جاهدين على ان يهيمن
الاسلام العادي او الرئيسي (استخدم مصطلح Main Stream)، بحيث يخضع له كافة
المسلمين في شتى أنحاء العالم. وهو كلام لم يفت معلقا مثل الاستاذ جميل
مطر، فكتب في “الحياة” اللندنية (عدد 5/12) متسائلا: لنفترض ان قادة
“الاسلام العادي” لم يفلحوا في قمع “الاسلام غير العادي”، الذي لا يحظى
برضى قادة الغرب، فهل سيتدخل التحالف الغربي لفرض إرادته في كل مكان ينشط
فيه ذلك الاسلام غير المرغوب به؟.. هل يمكن ان تعني تلك النصيحة ان تتجاوز
الحملة الراهنة قضية الارهاب، وتنصرف الى فرض اصلاح ديني من خارج الاسلام
على أمة المسلمين؟ أم ان قيادة الحملة سوف تستعين بقيادة اسلامية متفهمة
لرغبات الغرب وتصوراته ل”الاسلام العادي”، وتطلب منها تقديم لائحة بالمذاهب
والفرق والجماعات غير العادية، التي بمواصفات الاسلام المرغوب به، وبعدها
تتولى قيادة الحملة ملاحقة تلك الجماعات، ومطالبة الدول المختلفة بالقضاء
عليها، وإنذارها بالعقاب ان لم تفعل ذلك.
الفكرة ذاتها عبر عنها وزير الخارجية الاميركي كولن باول في شهر نوفمبر/
تشرين الثاني الماضي، في خطاب ألقاه في جامعة “لويسفيل” بولاية كنتاكي، حيث
أشار في مواقع عدة الى تبلور رؤية اميركية للمجتمعات الاسلامية تقوم على
أساس من قيم معينة، تمس التكوين الثقافي والعقيدي والسياسي لتلك
المجتمعات.
لسنا في حقيقة الامر بصدد حملة ضد الاسلام، ولكننا بإزاء سعي حثيث لصياغة
“إسلام معدل” اذا جاز التعبير ترضى عليه قوى الهيمنة، الاميركية
والاوروبية. ذلك ان الانتصار العسكري الساحق الذي حققته تلك القوى فتح
شهيتها للذهاب الى ما هو أبعد أفقيا ورأسيا، اذ كما قد يغريها ذلك بضرب
أقطار اخرى مثل الصومال او العراق، فانه يشجعها على محاولة التدخل الجراحي
احيانا لصوغ إسلام يجنبها في نهاية المطاف احتمالات التعرض لهجوم كذلك الذي
استهدف الولايات المتحدة، او هكذا يتمنون على الأقل.
5
ذلك بالضبط هو الخطأ الاكبر
الذي وقع فيه الاميركيون ومن لف لفهم لماذا؟
أولا، لأنهم كأي مستكبر تصوروا ان المسلمين وحدهم هم الذين ينبغي ان
يتغيروا، ولم يفكروا بالنظر في المرآة لكي يروا ماذا فيهم بدوره ما ينبغي
ان يراجع او يتغير. الامر الذي يعبر عن عجز مدهش في التناول الموضوعي
والجاد مع المشهد.
ثانيا، لانهم حصروا المشكلة في الدين وتجاهلوا الحاصل في الدنيا، خصوصا
عالم السياسية. وبعض ذلك يتعلق بمظالم من جانبهم، وبعضهم وثيق الصلة بمظالم
عندنا. وهذه وتلك تشكل الخلفية التي تشكل بؤر التطرف والارهاب، والتربة
التي تنبت الشوك والمر. وهذا التجاهل شجعهم على التركيز على التعاليم
والمعتقدات وأعماهم عن اصلاح السياسات.
ثالثا، لاننا، اذا سلمنا بالحاجة الى الاصلاح الديني، فان ذلك الاصلاح يفقد
شرعيته اذا كان مفروضا من الخارج، ثم ان ذلك الاصلاح لا يتم في فراغ، لأنه
وثيق الصلة بالتحولات الاجتماعية والسياسية في كل بلد، وبالخصوصية الثقافية
لكل بلد. ثم انه يتعذر تجهيزه وترويجه بأسلوب “تيك أواي”، لان الافكار لا
تصنع حسب الطلب، وانما احيانا تستجيب لمتقضيات الواقع ولا يكتب لها الحياة
والنمو الا اذا خرجت من رحمه.
رابعا، لان ذلك “الاسلام المعدل” الذي يريدون لن يستطيع ان ينال من حاكمية
المرجعية الاساسية المتمثلة في القرآن والسنّة. وإسقاط “الجهاد” مثلا من
الكتب المدرسية او التهوين من شأنه، وكذلك حذف الآيات التي تفضح بني
اسرائيل. لن يطوي الصفحة او يستأهل القيمة من الوجدان الاسلامي، كما ان
تأويل التعرض لغرض ما لن يحول دون ان يأتي لكي يؤولها في اتجاه معاكس.
خامسا، لان التجربة اثبتت ان سياسة “تجفيف الينابيع” أفقدت الثقة بالقائمين
عليها، بأكثر مما قلصت مساحة التدين عند المتلقين لها. كما أثبتت ان الناس
حين يدركون حقيقة التجفيف الذي يصيب الينابيع، فانهم سرعان ما يتحولون الى
ينابيع اخرى تشبع أرواحهم وتستجيب لأشواقهم.
سادسا، لان خبرات اربعة عقود من الاشتباك والكر والفر أثبتت ان علاج التطرف
لا يكون لا بتشجيع الاعتدال، شريطة الا يكون ذلك بمواصفات اميركية!
اللهم انا نسألك ان تلطف بنا في ما علمنا، وان تجنبنا شرور ما لم نعلم.