وهب الله سبحانه وتعالى نبيه
سليمان عليه السلام ملكا لن يكون لأحد من بعده حتى يرث الله الأرض
ومن عليها، فقد سخر الله له الطير والجان والريح وآتاه الملك
والحكمة، فدان له الجميع بأمر ربهم، وكانوا وعلى رأسهم الجن
يتسابقون لإرضاء سليمان عليه السلام طاعة له وخوفا منه لأنهم
يعلمون أنه ليس مجرد ملك أو حاكم ولكنه نبي من عند الله وأنهم
مسخرون لطاعته بأمر من الله، وبالتالي فقد كان حق سليمان عليه
السلام عليهم أن يهابوه ويعملوا بالليل والنهار ما يأمرهم به، «من
محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات» دون أن يجرؤ أي منهم
على أن يتثاقل أو يتباطأ أو يتمارض حتى لا يتعرض للتهديد الذي سبق
وتعرض له الهدهد حينما تفقد سليمان الطير فلم يجده وقال قولته
المشهورة:
«لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين»،
وكان هذا التهديد كفيلا بأن يستقيم كل من يعمل في مملكة سليمان عليه السلام
وعلى رأسهم الجن الذين هم أشد بطشا وأكثر قوة وبأسا من الإنس، وسرى
على سليمان عليه السلام ما يسري على البشر فقد توفاه الله وهو على
كرسي عرشه متوكئا على عصاه، لكن الجن كانت تعتقد أن سليمان حي وأنه
كعادته متوكئ على عصاه دون أن يدركوا أنه قد مات لذلك بقوا على
خوفهم منه ينفذون أوامره في العمل الشاق دون أن يجرؤ أي منهم على
التراخي، فبطش سليمان أكبر من قوتهم، فإذا رفع رأسه في أي لحظة
وأدرك أن أيا منهم يتباطأ أو يتقاعس أو يتأخر عن تنفيذ ما أمر به،
فإن عذابه سيكون عذابا أليما.
لذلك استمروا في العذاب المهين -حسب الوصف القرآني- حتى أرسل الله
حشرة صغيرة من الأرض لا ندري كم بقيت من الأيام والأسابيع وربما
الأشهر والسنوات تمخر في عصا سليمان حتى نجحت بعد المدة التي قدرها
الله أن تتآكل العصا ويسقط سليمان عليه السلام على الأرض ويكتشف
الجميع أنه قد توفي منذ مدة طويلة، حينها صاح الجن صيحتهم التي
سجلها القرآن لتكون عبرة على مدار الزمان «فلما خر تبينت الجن أن
لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين».
ولله المثل الأعلى في كل ما سبق لكننا لو حاولنا فقط أن نقف عند حد
عصا سليمان عليه السلام ونقلنا المشهد إلى عصرنا الحالي لوجدنا
الصورة فيها بعض التشابه مع الفارق، فمعظم الشعوب العربية أو كلها
لابثة في العذاب المهين من قبل الأنظمة التي تحكمها، حيث يبدواظاهر
هذه الأنظمة أنها تملك البطش والقوة والتهديد والوعيد لكل من
يخالفها، لكن حقيقتها أنها غير ذلك تماما، فهي أنظمة هشة ومتآكلة
من داخلها، ولدت من رحم الاحتلال البريطاني والفرنسي والإيطالي
والإسباني والأمريكي ولم تولد من رحم هذه الشعوب أو دماء هذه الأمة،
لذلك فقد كانت ولادتها من رحم الاستعمار من الأصل ولادة ميتة.
لكن هذه الأنظمة الميتة بقيت تستمد مظاهر وجودها من اتكائها على عصا الأنظمة
الاستعمارية التي صنعتها، وإلا فما هو النظام العربي الذي جاء من
خلال خيار شعبي أو انتخابات نزيهة أو ثورة شعبية أفرزت قياداته
وقوانينه وأنظمته من كل تلك الأنظمة؟ علاوة على ذلك، فإن هناك خطأ
كبيرا في الفهم من قبل معظم منتقدي الأنظمة العربية الذين يتحدثون
على شاشات التلفزة ووسائل الإعلام عن العجز العربي والتقاعس العربي
والتواطؤ العربي، لأن هذا تسمية للأشياء بغير مسمياتها، فالعجز
والتقاعس يكون عن رغبة وإرادة مع عدم وجود قوة، لكن الأنظمة الميتة
أو التي تتكئ على عصا الاستعمار الأمريكي أو البريطاني أو
الإسرائيلي أو غيره ليس لها وجود من الأساس حتى يكون لديها رغبة أو
إرادة، لأن وجودها في الحقيقة هو وجود من صنعها ومنحها العصا التي
تتكئ عليها.
ولذلك يشعر الإنسان بالأسى حينما يجد بعض الواهمين حتى للأسف من
الكبراء والعلماء والمفكرين يوجهون نداءات إلى حكام عرب أعلنوا
مواقفهم صريحة على شاشات التلفزة دون مواربة أو خجل، وهي أنهم
يقفون مع الإسرائيليين والأمريكيين ضد الأمة ومصالحها وأمنها
وأبنائها، لأن العصا التي يتكئون عليها هي عصا هؤلاء وليست عصا
الشعوب العربية، ثم نجد من يسمون بالنخبة يظلون يوجهون نداءات إلى
هؤلاء.
إذن نحن أمام مشهد يجب أن نراه على حقيقته وليس على الوهم الذي
مازال يروج له البعض ويحاول الكثيرون أن يخادعوا به أنفسهم ولا
يريدون تصديقه، نحن أمام شعوب عاجزة وأؤكد على مقولة: «شعوب عاجزة»
لأن لديها القدرة لكن ليس لديها الرغبة في التضحية لاسترداد حريتها
وإرادتها، ضحت ضد الاستعمار لكنها لم تضح ضد صنيعة الاستعمار، أما
الأنظمة فإنها أنظمة ميتة لأنها تستمد وجودها من اتكائها على عصا
أعداء الأمة.
هذا هو المشهد الحقيقي لهذا الواقع الذي نعيشه والذي لا يراه على
حقيقته يكون إما أعمى وإما مخادعا لنفسه وأمته، لذلك فإن النداء
والصراخ والاستجداء من هؤلاء الموتى الذين يتكئون على عصا أمريكا
وإسرائيل أو غيرهم لن يجد أي صدى لأنه لا حياة لمن تنادي، ويبقى
السؤال المهم هنا هو: كم سيطول هذا الاتكاء على تلك العصا وهذا
الحياة الزائفة لتلك الأنظمة؟ وأيضا كم سيطول هذا العجز القائم
لتلك الشعوب؟
ربما أياما أو شهورا أو سنوات أو عقودا، هذا في علم الله، لأن
الأمر متعلق بأمرين: الأول، هو دابة الأرض التي تمخر في تلك العصا
التي تتكئ عليها هذه الأنظمة حتى تسقطها، والثاني هو تلك الشعوب
التي تواطأت مع هؤلاء الحكام وسايرتهم طوال العقود الماضية حتى تكف
عن تواطئها وتثوب إلى رشدها وتستعيد إرادتها وهوية أمتها.
إذن في ظل هذا العجز الشعبي والموت الرسمي، فلينتظر الجميع دابة
الأرض التي تمخر في عصا الاستعمار التي تتكئ عليها هذه الأنظمة حتى
تنتهي من مهمتها وتسقطها، في نفس الوقت لننتظر يقظة تلك الشعوب
النائمة الغافلة حتى تفيق من سباتها، ولكن متى تنتهي هذه الدابة من
مهمتها وتفيق هذه الشعوب من سباتها؟ هذا في علم الله وأقداره، ولن
يتأتى هذا دون أن يسعى أصحاب الهمم الكبرى في الأمة ليتحملوا
مسؤولياتهم وأن يتجهوا إلى بناء النفوس والعقول، وأن يكفوا عن
توجيه النداءات الفارغة إلى الزعماء الأموات، حينئذ يقولون متى هو؟
قل عسى أن يكون قريبا.