اليوم
أكثر من أي وقت مضى تتحقق نبوءة الشاعر محمود درويش. فالفلسطيني
اليوم وحده في المعركة.
وفي الوقت الذي تنجز فيه إسرائيل محرقتها الرهيبة، ينشغل القادة
العرب بقممهم المتفرقة التي يعقدونها في أكثر من عاصمة.
المضحك في الوضع العربي الراهن أن الزعماء العرب يتحدثون عن القمم،
بينما هم جميعا في الحضيض. لذلك فالأنسب لما هم فيه من تشرذم وشقاق
أن يعقدوا منحدرا طارئا وليس قمة طارئة. فالقمم تليق بالأنظمة التي
تملك القوة. وصدق سيدنا علي رضي الله عنه عندما قال «لا رأي لمن لا
قوة له». فمن يا ترى سيستمع لرأي هذه الدول العربية خائرة القوى
والتي لم تستطع أي واحدة منها ولو طرد سفير إسرائيل من عاصمتها.
لقد كان منظر أمير قطر مثيرا للاستفزاز وهو يكاد يتصنع البكاء في «الجزيرة»
بسبب انفراط عقد الحاضرين لقمته في الدوحة، وطالب العرب بقطع
العلاقات الاقتصادية والسياسية مع إسرائيل مرددا «حسبي الله ونعم
الوكيل»، مع أن إسرائيل لديها في الدوحة ممثل اقتصادي دائم لم يفكر
الأمير في طرده كما فعل الرئيس الفينزويلي «هوغو تشافيز» الذي طرد
السفير الإسرائيلي وقطع هو وجاره رئيس بوليفيا «إفو موراليس»
علاقتهما مع تل أبيب.
ما جدوى القمم إذا والعرب في الحضيض. إن الأمر سيكون أشبه بقتل
الميت ثم السير في جنازته. خصوصا وأن شمعون بيريز فضح القادة العرب
عندما صرح قبل يومين بأن القادة الذين يبكون على فلسطين اليوم هم
نفسهم الذين يطالبون ممثلي إسرائيل في اللقاءات السرية بينهم
بالقضاء على حركة حماس واقتلاع جذورها من غزة.
في زيارة سابقة للولايات المتحدة الأمريكية كان للوفد الصحافي الذي
ذهبت برفقته لقاء مع الناطق الرسمي باسم الخارجية الأمريكية «غونزاليس
غالوس». وجوابا عن سؤال من زميل سوري حول موقف أمريكا من إيران
وسوريا، قال غونزاليس بلكنته اللبنانية بأن الأنظمة العربية في
منطقة الشرق الأوسط لديها قدرة كبيرة على النفاق. فهم في السر
يطالبون الأمريكان بالقضاء على إيران، وفي العلن يتصنعون اتخاذ
مواقف مضادة لغزوها.
لذلك فالقمم العربية تستحق أن تحمل اسم قمم الخيانة والتواطؤ
والغدر. فهي التجسيد الأسمى للنفاق العربي الرسمي وللعقد النفسية
والتاريخية لبعض «الزعماء»، كالعقيد معمر القذافي الذي يستغل وجود
كاميرات القنوات الفضائية العالمية في تغطية القمم العربية لكي
ينفث دخانه في وجوه «الزعماء» العرب، مشيحا عنهم بوجهه، رافعا أنفه
بتبرم نحو سقف القاعة. وعندما يأخذ الكلمة يضيع في إنشاء رديء حول
«إسراطين» والكتاب الأخضر والولايات المتحدة الأفريقية وغيرها من
الاختراعات القذافية المجيدة.
عندما اتخذ رئيسا فنزويلا وبوليفيا قرار مقاطعتهما لإسرائيل
اقتصاديا وسياسيا لم يكونا محتاجين لعقد قمة لاتينية طارئة لتدارس
هذا القرار. كذلك الشأن بالنسبة للعرب، فهم ليسوا بحاجة لقمة طارئة
أو مؤجلة لكي يتخذوا قرارا موحدا ضد إسرائيل، يجمعون فيه أمرهم على
مقاطعتها وطرد سفرائها من الأردن ومصر وموريتانيا، وممثليها
التجاريين في الدوحة وغيرها من الدول العربية. إن قرارا مثل هذا لا
يحتاج إلى قمم، بل إلى شجاعة ورجولة وشهامة. وهذه الخصائص أصبحت
عملة نادرة في رصيد النظام العربي الرسمي. ولذلك نزلت أسهم هذا
النظام في نظر الشعوب العربية التي أصبحت تتبرأ من تخاذل رؤسائها
وزعمائها.
فليست القمم العربية هي ما يخيف إسرائيل، فقد اجتمعت العرب في مئات
القمم ولم تخرج منها سوى ببيانات إدانة وشجب ضد إسرائيل وأمريكا،
لم توقف اجتياح أرض عربية ولم تحقن دماء مواطن فلسطيني أو لبناني.
ما يخيف إسرائيل هو أن يقاطعها العرب جميعهم ويمنعوا عنها الغاز
والنفط ويغلقوا بلدانهم في وجه سفرائها وصادراتها وسياحها.
وهذا هو السلاح الوحيد المتوفر بين أيدي القادة العرب، ماداموا
عاجزين عن مواجهة الغطرسة الإسرائيلية بالسلاح الحقيقي. ولو أن
القادة العرب الذين يتنافسون اليوم مثل أطفال المدارس على من
سيستضيف القمة، ومن سيحشد فيها ضيوفا ومشاركين أكثر من الآخر، ومن
سيصرخ فيها أعلى من جاره، يقومون فقط بإعلان قرار واضح وصريح
لمقاطعة إسرائيل وطرد ممثليها وسفرائها من عواصمهم، لكان أجدى
للقضية الفلسطينية وللأمة العربية قاطبة.
إن ما يعد له القادة العرب في الدوحة والكويت والرياض ليس قمة
طارئة، وإنما هو في الواقع قمة الجبن والتخاذل. ملك السعودية يريد
قمة عنده لكي يغيظ بها أمير قطر، ويعطي لقناته «العربية» السبق
الصحافي لنقل أشغال القمة على حساب غريمتها «الجزيرة». وأمير قطر
يريد قمة في الدوحة لكي يغيظ بها ملك السعودية، فتخلف عن حضورها
أغلب القادة وتحولت من قمة إلى اجتماع بمن حضر. والكويت تريد أن
تدمج الحرب على غزة ضمن مؤتمرها المالي لكي ترفع العتب، فليس من
اللائق أن يتحدث الأثرياء العرب عن ارتفاع أسعار النفط في الوقت
الذي تنزل فيه أسعار الدم الفلسطيني إلى أدنى مستوياتها.
هذا التشرذم في الموقف العربي الرسمي لا يوازيه سوى التناسق
والتناغم في الموقف الإسرائيلي والأوربي والأمريكي. ولأول مرة في
التاريخ ظل الرأي العام الإسرائيلي الداخلي مساندا ومزكيا للمحرقة
التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي في غزة. وظل الرؤساء الأوربيون
يساوون في مطالبتهم بوقف إطلاق النار بين الجيش الإسرائيلي النظامي
الغازي وبين حركة مقاومة تطلق بضعة صواريخ تقليدية الصنع نحو
المستوطنات للضغط من أجل فك الحصار عن غزة.
أما ساكن البيت الأبيض فقد أرسل لسكان غزة ومعهم مليار ونصف مليار
مسلم رسالة واضحة عندما أعطى لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها
بقنابله الأمريكية الصنع، وعندما رأى مئات الجثث من الأطفال
والنساء المحروقة بالقنابل الفسفورية، نشر برقية عزاء لروح قطته «ويلي»
التي ترك رحيلها، حسب رسالة العزاء، أثرا بالغا في قلوب ساكني
البيت الأبيض.
أما أوباما، فالجرائد التي تتحدث عنه تخبرنا بأنه اختار لتصميم
البيت الأبيض نفس المهندس الذي صمم قصور «سبيلبرغ» ومشاهير هوليود.
وفي الصفحة الموالية تطالعنا الجريدة نفسها بصورة للحفرة المريعة
التي عوضت بيت وزير الداخلية في حكومة حماس المقالة، الشهيد سعيد
صيام، في غزة، والتي صممها بدقة مهندسو الحرب في إسرائيل.
فهل تكفي أشلاء الشهيد سعيد صيام لكي يقتنع الذين عابوا على قياديي
حركة حماس لجوءهم إلى دول الجوار من أجل الاحتماء هربا من طائرات
العدو الإسرائيلي. هل يكفيهم عمق وقطر الحفرة التي تركها قصف بيته
لكي يقتنعوا أن أول من يدفع فاتورة هذا الذل والتخاذل العربي هم
القادة الميدانيون لحركة حماس.
خلال برنامج الرحلة التي قادتني إلى الولايات المتحدة الأمريكية
سنة 2006، حضرت رفقة الوفد الصحافي أشغال مؤتمر عربي أمريكي في
هيوستن. وفي صالة الفندق الذي نزلنا فيه، قدم إلي زميلي الفلسطيني
رجلا ضخم الجثة كان جالسا فوق إحدى كنبات صالة الاستقبال. فتحرك
الرجل بصعوبة ومد إلي يده مصافحا، وباليد أخرى مد إلي بطاقة زيارة
تحمل اسمه ومهنته. لم يكن الشخص سوى ياسر محمود عباس، أحد أبناء
محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية. وعلى بطاقة الزيارة كان
مكتوبا عمله، مدير عام لهولدينغ في كندا.
قلت في نفسي أن أبناء وزراء ورؤساء السلطة الفلسطينية يعيشون
متنقلين بين العواصم العالمية في فنادق الخمس نجوم، يديرون شركات
العائلة مجهولة الأسماء، بينما قادة المقاومة المسلحة يواجهون
العدو في شوارع غزة، ويقدمون أبناءهم فداء للمقاومة، وتقصف بيوتهم
بالصواريخ وتختفي من وجه الأرض لتعوضها الحفر العميقة.
الفرق بين من يقاوم على الأرض ومن يثرثر حول المقاومة على الهواء،
هو الفرق نفسه بين من يقاطع إسرائيل ويطرد سفراءها وبين من يفكر في
أية قمة سيحضر وأية قمة سيقاطع.
أي أن من يضع يده في النار ليس كمن يضعها في الماء. أو في النفط،
لا فرق.
رشيد نيني